تشريح مسودة اقتراح العفو العامّ لكتلة الاعتدال: تصحيحٌ لأوضاعٍ غير سليمة أم ترسيخٌ لتغيّر موازين القوى؟


2024-12-24    |   

تشريح مسودة اقتراح العفو العامّ لكتلة الاعتدال: تصحيحٌ لأوضاعٍ غير سليمة أم ترسيخٌ لتغيّر موازين القوى؟

نشرت المفكرة القانونية الأسبوع الماضي مسودة اقتراح قانون عفو عامّ، هو الاقتراح الذي كانت كتلة الاعتدال أعلنت عن نيتها تقديمه تبعًا لسقوط النظام السوري، وسط خطاب تعالت وتيرته لجهة المطالبة بالإفراج عن جميع الإسلاميين. وقد حصل ذلك بموازاة تحرّك هيئة العلماء المسلمين ودائرة الإفتاء للغاية نفسها. وفيما كان يقترض أن يقدّم الاقتراح رسميّا أمس الاثنين وفق ما أفاد المفكرة به عدد من نواب الكتلة، فإن ذلك لم يحصل لأسباب لم تعلن عنها الكتلة ولم يعرف حتى اللحظة إذا تراجعت أم لم تتراجع عنه.

وفيما كانت المفكرة القانونية نشرت سابقا تنبيهًا إلى ما اعتبرته منزلقات للاقتراح، فإنّنا سنعمد هنا إلى تفصيل ما تضمّنه ولا سيّما ما شمله وما لم يشملْه تمهيدًا لنقده. وأول ما يلفت أن معدّي الاقتراح استعادُوا حرفيا الأسباب الموجبة التي كانت تبنتها النسخ المتداولة لاقتراحات قوانين العفو العام في 2019-2020 والتي بقيت على درجة عالية من العمومية متفادية الغوص في أسباب العفو عن جرائم واستثناء أخرى. 

وعليه، ومن دون التقليل من الأبعاد الحقوقية للعفو العام والمظالم التي قد تبرّر منحه في العديد من الحالات، نسارع إلى القول بأن معدّي الاقتراح فشلوا كما مقدّمي الاقتراحات السابقة في 2019-2020، في أن يعكسوا هذه الأبعاد أو حتى أن يعملوا على هديها. وعليه، بدا الاقتراح على غرار الخطاب المرافق له تعبيرا عن تغيّر في موازين القوى أكثر مما بدا تعبيرا عن تصحيح أوضاع غير سليمة من الناحية الحقوقية أو الاجتماعية. وهذا ما سنحاول تبيانه تفصيليا على طول هذا المقال، وذلك استباقا لأيّ تطور قد يحصل في هذا المجال. 

عفو عامّ كامل وما يرادفه

بخلاف ما ينتظر من اقتراح قانون عفو عام، فإن أغلب فقراته اتصلت بتنظيم أوضاع الذين تمّ استثناؤهم من العفو العامّ، سواء لجهة تخفيض العقوبات التي حُكم عليهم بها أو لجهة تخفيض مدة مرور الزمن على العقوبات المحكوم بها أو لجهة وضع حدّ أقصى لمدة التوقيف الاحتياطي. وفيما بدا أن هذه الأحكام تهدف إلى التخفيف من استثناء جرائم من منحة العفو العام من خلال منحها ما أمكن تسميّته عفوًا عامًّا مخفّفا، فإن التدقيق في هذه الأحكام يظهر أن بعضها هو في الواقع مرادف للعفو العام الكامل أكثر مما هو عفو عام مخفف. هذا ما سنحاول تفصيله في هذا المكان على أن نشرح بداية الجرائم التي شملها العفو العام أو استثناها من أحكامه.

العفو العام الكامل

أول ما نلحظُه هنا هو أنّ الاقتراح كرّس مبدئية العفو العام عن الحق العام وإن علّقه على إسقاط الحق الشخصي فقط في الحالات التي يوجد فيها ادعاء شخصي. وهذا ما نستشفه من الفقرة الأولى حيث جاء أن العفو العام يشمل مجمل الجنح والجنايات الواردة في “جميع القوانين الجزائية وذلك في حال وجود إسقاط حق شخصي من المتضرّر أو المدعي أو في حال عدم وجود ادّعاء شخصي”، ولا يكون خلاف ذلك إلا بالنسبة إلى الجرائم التي ورد ذكرها صراحة في الفقرة الثانية على قائمة الجرائم المستثناة من العفو العام وعددها 10. ومؤدّى هذا التوجه هو منح العفو العام لأيّ جريمة لم ترد ضمن هذه القائمة في حال إسقاط الحق الشخصي عنها، حتى ولو لم يرد في الاقتراح أو أسبابه الموجبة أي سبب أو مبرّر لذلك. وما يفاقم من ذلك هو أنّ قائمة الجرائم المستثناة تضمّنت مفاهيم عامة تقبل المنازعة بشأن ما تشمله أو لا تشمله كما نبيّن أدناه عند النظر في كلّ منها على حدة.

وقبل المضي في مراجعات مضمون الاستثناءات (وهي 10)، لا بدّ من ملاحظتيْن تمهيديّتيْن:

الأولى، لئن يشكّل ربط العفو العام بالادّعاء الشخصي ضمانة لإنصاف الضحايا والأشخاص المتضررين، فإنه بالمقابل خيار محفوف بالمخاطر طالما أنه ينقل في الكثير من الأحيان سلطة العفو العام من الدولة إلى المدعين الشخصيين. ومن شأن ذلك أن يستتبع مخاطر عدة سواء لجهة التمييز بين المدعى عليهم والمحكوم عليهم في الجرم نفسه وفق إرادة المدعين الشخصيين أو قدرتهم على الاستجابة لمطالبهم. كما من شأنه أن يتحول إلى أداة ضغط على المدعين لإرغامهم على التنازل عن حقوقهم بعدما أعلنت الدولة تنازلها مسبقا عن الحقّ العامّ وإن علقته على إسقاط الحق الشخصي.

الثانية، أنّ العفو العامّ يشمل وفق ما جاء في المسوّدة مجمل الجرائم الحاصلة قبل “إقرار القانون” وضمنًا الجرائم التي لم تحصل بعد. وهو أمر ينمّ عن تشجيع على ارتكاب جرائم ستكسب العفو العامّ لاحقا. 

ولكن ما هي الجرائم المستثناة من العفو العام؟ هنا يجدر أولا تصحيح خطأ ورد عن قصد أو غير قصد في المسودة، مفاده أن إثنين من الاستثناءات ليسا كذلك. فقد ورد فيها (1) الجرائم  المُحالة إلى المجلس العدلي أو الصادرة فيها أحكام من المجلس العدلي ما خلا حالة إسقاط الحق الشخصي و(2) جرائم القتل على اختلاف أنواعها، إلا في حال وجود إسقاط حق شخصي. وهنا، يظهر أن هذه الجرائم تخضع هي أيضا لقاعدة مبدئية العفو والذي يحصل في حال إسقاط الحق الشخصي، كما هي حالة أي جنحة أو جناية أخرى. وعليه، وبعد حذف هاتين الحالتين، يعدّد القانون ثمانية استثناءات لا تستفيد من العفو العامّ حتى ولو تمّ إسقاط الحق الشخصي فيها علما أن أغلبها تم صياغته بصورة تمييزية غير قابلة للتبرير. وهي الاستثناءات التي نعرض أبرزها في هذا المكان في سياق نقدها:

  • جرائم قتل العسكريين أو المدنيين المحالة أمام المحكمة العسكرية سواء صدرت فيها أحكام أو لم تصدر بعد. وهذا يعني أن الاستثناء يشمل هنا فقط الجرائم المحالة أمام المحكمة العسكرية، فيما أن الجرائم الأخرى التي أحيلت إلى محاكم أخرى بما فيها المجلس العدلي أم لم يجرِ أيّ ادعاء بشأنها أي ادعاء، فتستفيد من العفو في حال عدم وجود ادعاء شخصي أو في حال إسقاطه. 
  • “من استخدم أو صنع أو اقتنى أو حاز أو نقل موادّ متفجرة أو ملتهبة داخل الأراضي اللبنانية أو منتجات سامة أو محرقة أو أجزاء تستعمل في تركيبها أو صنعها أو تفجيرها بهدف القيام بأعمال إرهابية”. ويلحظ أن الاستثناء هنا لا يشمل جميع الأعمال الإرهابية إنما فقط نوعا منها، علما أنه يتصل بتوفير المادة المتفجرة فيما تبقى أعمال التمويل والتنفيذ كلها غير مستثناة. ويبدو استثناء هذه المادة وهو مأخوذ عن النسخة الأخيرة لاقتراح قانون 2020، مرتبطا بقضية ميشال سماحة ورفاقه ومن ضمنهم المسؤول الأمني السوري السابق علي مملوك.   
  • جنايات المخدّرات على اختلاف أنواعها في حال وجود أكثر من ملاحقتين قضائيتين. والواقع أن ربط العفو بعدد الملاحقات (وليس بعدد الأحكام المبرمة) يتعارض مع مبدأ قرينة البراءة لاحتمال أن تكون الملاحقات كافة مجردة من أيّ أساس. وما يزيد من قابلية الاستثناء للانتقاد هو اعتماد هذا المعيار (تعدّد الملاحقات) لتصنيف الفعل من دون أي اعتبار لخطورة الأفعال المنسوبة، كأن يكون المدعى عليه قائد عصابة مسلحة مثلا أو حتى للأوضاع الاجتماعية في المناطق الأكثر تعرضا لهذا النوع من الجرائم.
  • قانون مكافحة الفساد في القطاع العام رقم 175 تاريخ 8 أيار 2020. وهنا نصل إلى قمة الضبابية لجهة الجرائم التي يشملها هذا الاستثناء. ولئن تؤدي مراجعة تعريف الفساد وفق هذا القانون إلى توسيع دائرة الأفعال المستثناة (الأفعال التي تعدّ فسادا وفق الاتفاقيات التي وقع عليها لبنان)، يهمّ هنا التنبيه إلى أنّ الإشكال الأساسي يتأتى من الحدود التي التزم بها هذا القانون وهي حدود القطاع العام. وعليه، وإذ يحتمل أن تبقى أفعال استغلال السلطة ضمن الجرائم المستثناة، بالمقابل يفسّر هذا النص على أنه يستثني من الاستثناء مجمل أفعال الفساد في القطاع الخاص، مثل عمليات تبييض الأموال أو التهرب الضريبي أو الإفلاس الاحتيالي أو تهريب الأموال من الدائنين أو الاحتكار أو مخالفة موجب تسليم القضاء معلومات مصرفية… إلخ. وإذ يسجّل إيجابا أن الاقتراح استثنى قانون الإثراء غير المشروع، فإنه يبقى مهما ذكر الجرائم الأبرز التي تستثنى من العفو العام منعا لأي تأويل أو التباس، 
  • قوانين الغابات والثروة الحرجية وحماية الغابات والمحميات والصيد البرّي والصيد البحري وكل الجرائم الواقعة على البيئة. وهنا أيضا نعجب من الصياغة المعتمدة والتي تذكر الاعتداء على الغابات وجرائم الصيد لتعود وترمي “كل الجرائم الواقعة على البيئة” في عبارة واحدة من دون أن تخص بالذكر أيّا منها. فكأنما معدّي الاقتراح ليس لهم أي دراية لا بالقوانين البيئية ولا بالجرائم التي تنهش البيئة، والتي تتراوح من تلويث الماء والهواء لتصل إلى تفجير الجبال كما يحصل في المقالع. وهنا أيضا تفتح الصياغة الباب للتأويل. فهل يعدّ استثمار مقلع من دون الحصول على ترخيص وفق القانون جريمة مستثناة أم لا؟ وهل يعدّ التخلف عن وضع دراسة أثر بيئي قبل الشروع في تنفيذ مشروع جريمة مستثناة أم لا؟ وما إلى ذلك من أسئلة تطول. 

يضاف إلى ذلك بصورة إيجابية استثناء جرائم التعدي على الأموال والأملاك العمومية أو الأملاك الخصوصية العائدة للدولة أو البلديات، بما فيها العقارات المتروكة المرفقة والعقارات المملوكة ملكية جماعية (المشاعات)، وأموال المؤسسات العامة وأملاكها وسائر المرافق العامة لاسيما المشمولة في المادة 32 من قانون موازنة عام 2020، وأيضا استثناء القوانين المتعلقة بالآثار.

إلا إنه وبالإضافة إلى الإشكالات التي أبديْناها أعلاه بشأن قائمة الجرائم المستثناة من العفو العام، فإن الإشكال الأكبر يتصل بكمّ من الجرائم التي يصعب إيجاد أي مبرّر لاستثنائها. فكيف نفسر مثلا عدم استثناء جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم التعذيب والإتجار بالبشر والإخفاء القسري فضلا عن كل جرائم التهرب الضريبي وتبييض الأموال و الإفلاس الاحتيالي المشار إليها أعلاه؟ كما يلحظ هنا أن معدي الاقتراح آثروا لزوم الصمت إزاء العمالة لإسرائيل في اتجاه يستشف منه إرادة في العفو عنهم تحت جناح الصمت. 

ومجرد استذكار هذه الجرائم التي لم ترد ضمن الاستثناءات إنما يؤكد سوء التوجه التشريعي الذي يقوم على مبدئية العفو العام. وتتأكد خطورة هذا التوجه بالنظر إلى أصول التفسير المعتمدة في الإجراءات الجزائية والتي تفرض تفسير الاستثناءات بصورة ضيقة واعتماد التفسير الأكثر مراعاة لحقوق المدعى عليه عند الشك في استفادته أو عدم استفادته من العفو العام.

العفو العام المخفف أو الموازي؟ 

لم يكتفِ مقدّمو الاقتراح بالعفو العام والذي ورد بالصورة الشاملة. بل أضافوا إلى العفو العام منحا بإمكان المدعى عليهم أو المحكوم عليهم في الجرائم المستثناة الاستفادة منها. ولئن بدت هذه الإضافات بمثابة تخفيف للعفو العامّ، فإن التدقيق فيها يظهر أنها وضعت في أغلب الأحيان على قياس أشخاص بعينهم، بهدف الحصول على نتائج مماثلة للعفو العام من دون البوح بذلك. وهذا ما دفعنا إلى عنونة هذا المقطع “العفو العام المخفف أو الموازي”. وقبل المضي في تفصيل هذه الإضافات، يلحظ أنها سعت لتعميم الاستفادة من القانون على جميع الفئات التي صدرت بحقها أحكام وجاهية أو غيابية أو ما تزال موضع محاكمة. ولم تنسَ الإضافات معالجة أوضاع المحكوم عليهم بأحكام عدة.

وأهمّ هذه الإضافات هي الآتية:

  • تخفيض العقوبات المحكوم بها: هذه الإضافة تعني بشكل خاصّ المحكومين وجاهيّا. ورغم ورود سبعة اقتراحات لتخفيض العقوبات المحكوم بها منذ 2020، فإن ما تميّز به الاقتراح هو أنه نصّ على أكبر تخفيض لعقوبات المؤبد والإعدام، حيث خفضها إلى 15 سنة سجنية (أي ما يعادل 11 سنة وثلاثة أشهر فقط). فمن قبل، بقيت التخفيضات عموما بحدود 20 سنة سجنيّة بالنسبة إلى المؤبد وبحدود 25 سنة سجنيّة بالنسبة إلى الإعدام.

كما عمد اقتراح القانون إلى تخفيض سائر العقوبات بحدود ثلثها، ومؤدّى ذلك عمليا هو اعتبار الحكم بسنة حبس مرادفا للحكم بستة أشهر فقط، وهو التوجه الذي يلتقي مع عدد الاقتراحات المقدمة حديثا بشأن تخفيض السنة السجنية، أحدثها عهدا الاقتراح المقدّم في 19/11/2024 من نواب تكتل الاعتدال والاقتراح المقدم من النائب إيهاب مطر في تاريخ 29/05/2023.

ومن شأن ذلك أن يؤدي عمليا إلى اعتبار خدمة العقوبة تامة بالنسبة إلى العدد الأكبر من الإسلاميين بما فيهم المحكوم عليهم بالمؤبد والإعدام، والذين بدأ احتجازهم قبل آخر أيلول 2013. وهذا ما سيفيد بشكل خاصّ المعتقلين تبعا لمعركة نهر البارد (2007) وعبرا (حزيران 2013).

  • تخفيض مدة مرور الزمن على العقوبات: هذه الإضافة تعني بشكل خاص المحكومين غيابيا (أو الذين يعتبرون بحكم الفارين من العدالة) وقوامها تخفيض مدة مرور الزمن على العقوبات المحكوم بها من عشرين سنة فعلية (وهي المدة المنصوص عليها في القانون الحالي) إلى 15 سنة سجنية بالنسبة إلى عقوبة الإعدام (أي فقط 11 سنة وثلاثة أشهر) و10 سنوات سجنية بالنسبة إلى عقوبة المؤبد (أي فقط 7 سنوات ونصف) و5 سنوات سجنية بالنسبة إلى العقوبات الجنائية الأخرى (أي فقط ثلاث سنوات و9 أشهر). وعليه، سيكون بإمكان الفارين من العدالة المحكوم عليهم غيابيا أن يبرئوا ذممهم في حال انقضاء هذه المدّات القصيرة نسبيا. ويسجل هنا أن الاقتراح يشكل سابقة في استخدام تخفيض مرور الزمن على العقوبات حيث لا نجد اثرًا لها في مجمل الاقتراحات المقدمة سابقا والتي ذهبت إلى منح عفو عام كامل أو مخفف. ومن أبرز الذين سيكون بإمكانهم الاستفادة من هذه الإضافة الفارون من العدالة في قضيتي نهر البارد وعبرا.
  • وضع حدّ أقصى للتوقيف الاحتياطي: هذه الإضافة تعني بشكل خاص الأشخاص الذين يستمر توقيفهم ولمّا تكتمل محاكمتهم بعد، وبخاصة الأشخاص المتهمين في جنايات مستثناة من سقف التوقيف الاحتياطي المنصوص عليه في المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كما هي حال الأشخاص المتهمين بجرائم الإرهاب أو القتل أو المحالين إلى المجلس العدلي إلخ… وتنص هذه الإضافة على اعتماد قاعدة استثنائية قوامها وجوب إخلاء سبيل المدعى عليه حكمًا، في كل الجرائم المرتكبة قبل تاريخ صدور هذا القانون والتي لم تصدر أحكام فيها، وفي حال تجاوزت مدة التوقيف 12 سنة سجنية (أي عمليا 9 سنوات فعلية). ويبدو أن المحفّز لوضع هذه المادة هو ضمان إطلاق سراح الشيخ أحمد الأسير الذي تم احتجازه في آب 2015، ولما يزال يحاكم في قضيتين بينما يتم إطفاء العقوبة المحكوم عليه بها في قضية بحنين بفعل إضافة تخفيض العقوبات. ورغم أن استمرار مدة التوقيف الاحتياطي 9 سنوات هو أمر يتعارض مع مبادئ المحاكمة العادلة، فإنه من المستغرب أن تتم معالجة هذه الوضعية من خلال قاعدة استثنائية تطبق فقط على الذين ارتكبوا جرائم سابقة لصدور القانون من دون أن تطبق على الذين قد يرتكبون جرائم مستقبلا.
  • إدغام العقوبات: هذه الإضافة تستهدف بشكل خاص الأشخاص الذين ما يزالون موضع محاكمة في قضية أو أكثر وسبق لهم أن حكم عليهم في قضايا سابقة، سواء كانت محاكمتهم تجري وجاهيا أو غيابيا. وقوامها تكريس إلزامية إدغام العقوبات وتنفيذ العقوبة الأشد بالنسبة إلى كل الملفات العالقة قبل تاريخ نفاذ هذا القانون. ورغم أن هذا البند ذكر صراحة جرائم الإرهاب والمخدّرات كأمثلة على انطباقه، فإنه خلق التباسا عند تخصيص تطبيقه على الملفات العالقة أمام المحكمة العسكرية، علما أن الغالبية الكبرى لجرائم المخدرات تحاكم أمام المحاكم العدلية. ومن شأن هذه المادة أن تفيد عمليا بشكل خاص الأشخاص الذين ما يزالون موضع ملاحقة في جرائم مستثناة من قانون العفو، وأن تعالج في حال شطب حصرها في القضايا العالقة أمام المحكمة العسكرية أوضاع الأشخاص الذين بوشرت بحقّهم أكثر من ملاحقة في قضايا المخدّرات وكان تمّ استثناؤهم من العفو العام. ومؤدى هذه الإضافة هي ضمان أن لا يتعرض أي من الأشخاص الذين تتم ملاحقتهم على أساس جريمة ارتكبوها قبل نفاذ القانون، مهما بلغ عدد القضايا التي يلاحق بها ومهما بلغت خطورة الجرائم المرتكبة منه، لأي عقوبة تتجاوز 11 سنة وثلاثة أشهر فعلية. ويلحظ أن هذه المدة تتساوى تماما مع المدّة القصوى التي مكث خلالها سمير جعجع في السجن قبل انتزاعه العفو العام في إطار مقايضة مع العفو العام عن مجموعات أخرى من الإسلاميين كان تم توقيفهم في أحداث الضنية والبقاع. إذ كان جعجع تم توقيفه في تاريخ 21 نيسان 1994 وتم الإفراج عنه في تاريخ 26 تموز 2005 في أعقاب صدور قانون العفو العام في 19 تموز من السنة نفسها. وليس بإمكاننا الجزم فيما إذا كان انطباق المدة هنا مصادفة أم منطلقا من اتخاذ فترة توقيف جعجع كمعيار للمدة القصوى للعقوبة. 

وثائق الاتصالات ومذكرات الإخضاع

أخيرًا، تضمن الاقتراح مادة بالغة الأهمية أسقطت فيها جميع وثائق الاتصال والاستقصاء والإخضاع والمعلومات المعممة والتي صدرت خلافا لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية وسائر القوانين المرعية الإجراء والصادرة من دون إشارة قضائيّة. وتشكل هذه المادة توثيقا للممارسات المعتمدة من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لاتخاذ إجراءات أمنية بحق مئات الأشخاص بمعزل عن أي ملاحقة قضائية. والواقع أن هذه المادة تشكل تذكيرا بالقانون وتاليا إخبارًا للنيابات العامّة بشأن استغلال الأجهزة الأمنية نفوذها أكثر مما تشكل تعديلا لنص قانوني.

عفو عامّ بمعزل عن أي اعتبارات حقوقية أو إصلاحية

انطلاقا مما تقدم، يظهر أن معدّي الاقتراح قد فشلوا في تحصين اقتراحهم باعتبارات حقوقية أو إصلاحية بدليل صياغة الاستثناءات بصورة تمييزية فضلا عن اشتمال العفو العام جرائم شديدة الخطورة مثل جرائم التعذيب وتبييض الأموال والتهرب الضريبي وتهريب الرساميل والإتجار بالبشر من دون أيّ مبرر. وليس أدلّ على ذلك من شمل العفو جرائم لم ترتكب بعد، بما يشكل تشجيعا على ارتكاب جرائم. وقد حال غياب تبرير العفو العامّ دون القيام بأيّ مسعى لمعالجة أسبابه، بما قد تفترضه من إصلاحات قانونية أو مؤسساتية أو اجتماعية. ومن هذه الزوايا كافة، بدا الاقتراح معطوفا على الخطاب الذي أعقب سقوط النظام السوري مجردا عن أي اعتبارات حقوقية أو إصلاحية، وأقرب إلى إعلان لمطالب فئوية أو عصبية، في سياق يشهد تغيرا في موازين القوى وطنيا وإقليميا. وهذا ما سنحاول تفصيله في هذا المجال.

إكرامية العفو العام خلسة ومن دون مبرر؟

كما سبق بيانه، يقبل الاقتراح الانتقاد لجهة منح العفو العام الكامل أو المخفّف مع ما يستتبع ذلك من تعليق أو تخفيف للمسؤوليات الجزائية، بخلاف مبدأيْ الشفافية والمساواة أمام القانون. فلئن كان المشرّع مخوّلا التدخل لمنح العفو العام، إلّا أنه يلزم أن يبرّر تدخله بصورة شفافة بالنظر إلى مفاعيل العفو العام على حقوق الضحايا والحقّ العامّ والأهم على صعيد مبدأ المساواة أمام القانون. كما يلزم أن يبقى هذا التدخل استثنائيا كي لا تفقد القوانين الجزائية قوتها الردعية بفعل قوة احتمال الحصول لاحقا على عفو عام.

والواقع أن الاقتراح يجافي هذه القواعد من زوايا عدة.

وهذا ما يتحصّل بشكل واضح من اعتماد مبدئيّة العفو أي اعتبار الجرائم مشمولة بالعفو ما لم تكن مستثناة صراحة منه. ومؤدى ذلك وفق ما بيناه أعلاه أن العفو يشمل ليس فقط الجرائم التي أعلن المشرع رغبته في منحها إياه، إنما أيضا الجرائم التي لم يشملها أي إعلان من هذا النوع أو ربما فقط لم يتنبّه إلى وجوب استثنائها من العفو العام. وفي الحالة الأولى، يكون الاقتراح محاولة خبيثة لفرض عفو غير مستحقّ أو بصورة مستترة خشية إثارة تحفظات لدى الرأي العام. وفي الحالة الثانية، نكون أمام خطأ تشريعي فادح قوامه إبراء ذمة أشخاص قد يكون ثبت تورطهم في جرائم خطيرة جدا من دون أي مبرر حقيقي. ومن شأن التدقيق في الاستثناءات كلا على حدة كما فعلنا أعلاه أن يؤكد على خطورة هذا التوجه.  

فمع التسليم بتعرّض الإسلامييّن للتعسف وأحيانا للتعذيب في القضايا المحالة أمام المجلس العدلي أو المحكمة العسكرية، لا نفهم لماذا تمّ منح جرائم التعذيب التي هي أصل مظلوميتهم، العفو العام. فإذا كان انتهاج التعذيب مبررا للعفو عن ضحايا التعذيب، فإنه لا يشكل بأية حال مبرّرا لذاته.

ثم، وبنتيجة تعرض المجتمع اللبناني لإحدى أكبر عمليات النهب في التاريخ، ما معنى تدخّل المشرع للإعفاء عن جرائم تبييض الأموال والتهرب الضريبي وتهريب الأموال و الإفلاس الاحتيالي؟ وهل يكون التدخّل هنا بمثابة تصحيح لمظلومية أم تأبيد للظلم وتكريس له؟

وأكثر فأكثر، لا نفهم أسباب منح العفو لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي شهدها لبنان خلال الأسابيع الماضية والإتجار بالبشر.

هذا فضلا عن أن الاقتراح اعتمد التمييز بين وضعيات متساوية. فلا نفهم أبدا لماذا يصبح العفو العام وقفا على إحالة قضايا معينة إلى المحكمة العسكرية أو عدم إحالتها. هذا فضلا عن أن العديد من مواده بدت مبنية  في صياغتها على وضعيات خاصة مثلما يظهر أعلاه بشأن تخفيض العقوبات أو وضع سقف للتوقيف الاحتياطي. بمعنى أنه تم تطريز هذه المواد ليس انطلاقا من معايير مبرّرة حقوقيّا ومنطقيّا، إنما قبل كل شيء انطلاقا من إرادة ضمان استفادة بعض المحكومين أو المتهمين من أحكام القانون، سواء لإبراء ذمتهم بصورة تامة أو لضمان الإفراج الفوري عنهم.

أخيرا، يظهر الاقتراح منحى مخادعا قوامه منح العفو العامّ من دون البوح بذلك. وهذا ما نستشفّه من إعلان الاقتراح استثناء جرائم معنيّة معتبرًا إيّاها جرائم لا تغتفر ليسارع إلى تبرئة ذمم المحكومين بها بما أسميناه عفوا عاما موازيا. وهذا التوجه يظهر العفو العام ليس على أنه خيار اجتماعي بل على أنه نتيجة مهارة أو شطارة قوامها خداع الرأي العام حول حقيقة مضمونه. 

معالجة المظلوميّة دون منابعها

الأمر الثاني الذي لا بدّ من التوقّف عنده، هو خلو الاقتراح من أي رؤية إصلاحية للمستقبل. ففيما ترافق اقتراح قانون العفو العام مع سواد خطاب يركز على ضرورة تصحيح أوضاع غير عادلة، منها رواج التدخّل السياسي في القضاء أو الإخلال في مبادئ المحاكمة العادلة أو وجود تشريعات ظالمة، فإنه يخلو مثل الاقتراحات السابقة من أيّ توجه إصلاحي ولو على سبيل الوعد منعا من تكرار الظلم مستقبلا.

فلا نجد أي التزام بالعمل لإصلاح المحكمة العسكرية أو شروط التوقيف الاحتياطي أو تعديل القوانين الظالمة أو حتى التزام بتنمية مناطق تعاني من نسب عالية من الفقر إلخ.

وبذلك، وعلى فرض أن الاقتراح يؤدي في حال إقراره إلى تصحيح أشخاص يعانون من مظلومية معينة، فإنه يتعايش مع استمرار منابع الظلم على حالها من دون أيّ تعديل. ومن هذه الزاوية، يصعب في الواقع فهم دوافع معدّي الاقتراح الذين لئن راعتْهم المظلوميّة التي تعرض لها مواطنون في الماضي يبقون غير مبالين إزاء احتمال تعرض مواطنين آخرين للمظلومية نفسها في المستقبل. فهل تنبع مبادرتهم من هوية الأشخاص المراد منحهم العفو العام أو انتماءاتهم بمعزل عن أيّ اعتبار يتصل بالعدالة أو المصلحة العامة؟ أم أنّ توجههم يعكس مقاربة لحكم القانون على أنه حكم هشّ يمكن التدخّل لإسقاط مفاعيله كلما لزم الأمر تصحيحًا للأوضاع الظالمة التي قد تكون نشأت عنه؟ ومن هذه الزاوية، يكون قانون العفو العام في حال إقراره مجرد مقدّمة لاقتراحات عفو عامّ مستقبلية دائما بمعزل عن أيّ إصلاح تشريعيّ أو مؤسساتيّ. وهذه المقاربة تشكّل بحدّ ذاتها منسفا للضوابط القانونية ومعها الحقوق والأمان الاجتماعي وارتهانًا لحكم القوة، بما يرفد منابع الظلم بقوة مضاعفة.

وما يزيد من قابلية الاقتراح للانتقاد هو أنه انتهى في بعض ما تضمنه ليس فقط إلى تجاهل منابع المظلومية، بل أيضا إلى تكريسها وترسيخها وتعزيزها وإن يرجح أن يكون تمّ ذلك عن قلة دراية أو انتباه. وليس أدلّ على ذلك من منح العفو العامّ لجرائم التعذيب، أو تكريس أهميّة المجلس العدليّ والمحكمة العسكريّة (وكلاهما قضاء استثنائي) من خلال حصر الجرائم المستثناة من العفو بالجرائم المحالة إليهما وكأن إحالة الجرائم إليهما معيار على خطورتها.  

اقتراح قانون يغلب فيه منطق القوة على منطق الحقوق

كخلاصة، جاز القول أن اقتراح العفو العام ينبني في صياغته وأهدافه على منطلقات عصبيّة. ويتأكد هذا الأمر من  انتماءات النواب المبادرين وخلفياتهم والأهم من انخراط هيئة العلماء المسلمين ودار الإفتاء فيه وسط خطابٍ لا يخلو من التشنّج الطائفي. كما يتأكد من مضمون الاقتراح: فعدا عن أن معدّيه عمدوا إلى تطريز عدد من مواده على قياس أشخاص بعينهم، فإنهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء تبريرها بمقتضيات العدالة أو المصلحة العامة. ومؤدى ذلك هو تحويل “العفو العام” إلى ساحة للمكابشة والمساومات الطائفية والسياسية وربما لإعلان ارتقاء قوى جديدة في موازين القوى، مع ما قد ينتج عنه من فيتوات متبادلة أو محاصصة، وهنا ايضا على نحو يحجب أبعادها الحقوقية الأكيدة المشار إليها أعلاه. فلئن شكّل التحرّر من سلطان القضاء والقانون دليلا على امتلاك القوة، فإنّ الحصول على العفو العامّ يشكل بالطريقة التي يحصل فيها دليلا على اكتسابها، وكل ذلك على حساب دولة الحق والقانون.

للاطّلاع على اقتراح قانون العفو الذي أعلن تكتل “الاعتدال الوطني” نيّته تقديمه إلى المجلس النيابي

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، إقتراح قانون ، لبنان ، مقالات ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني