غداة 25 جويلية، كانت البلديات -الممثل الوحيد الحالي للسلطة المحليّة – السلطة الوحيدة المنتخبة مباشرة من قبل الشعب والتي لم تلحقها قرارات تجميد أو إعفاء أو “ترؤّس” من رئيس الجمهورية قيس سعيّد. في الواقع، لم تتعدَّ تدابير الرئيس الاستثنائية في خصوص الجماعات المحلية سوى تعطيل العمل لمدّة يومين والإتاحة لرؤسائها اتخاذ قرارات تكليف عدد من الأعوان بحصص حضوريّة أو عن بُعد.
ولئن بقيت البلديات بمنأى عن تبعات قرارات رئيس الجمهورية، فإنّها شهدتْ تشرذماً غير مسبوق في قراءتها للوضع السياسي المستجدّ في تونس بين أقليّة معارضة “لكلّ القرارات غير الدستورية والانقلابيّة لرئيس الجمهورية” وأغلبيّة داعمة للتدابير الاستثنائية معتبرة إياها من قبيل “تصحيح المسار” مع التأكيد على وجوب “المحافظة على مكتسبات الشعب من حقوق وحريات وتوفير الضمانات لإنجاح هذا المسار”. وقد تبلورتْ هاتِه المواقف ليس من خلال التعليق مباشرة على المستجدات السياسية وإنما من خلال موجة البيانات الصادرة تفاعلا مع نشر الجامعة الوطنية للبلديات التونسية برئاسة السيد عدنان بوعصيدة لبيان رافض للتدابير الاستثنائية المتخذة من قبل رئيس الجمهورية.
فوضى البيانات: هل تعيش الديمقراطية التمثيلية في الجامعة الوطنية للبلديات التونسية أزمة؟
لم تبقَ البلديات التونسية بمعزل عن أحداث 25 جويلية السابق المعلن عنها من طرف رئيس الجمهورية. فبعد سويْعات من الإعلان عن قرارات قيس سعيّد المتمثلة في تعليق اختصاصات البرلمان، رفع الحصانة عن النوّاب وإعفاء رئيس الحكومة، أصدرتْ الجامعة الوطنية للبلديات التونسية باعتبارها “الممثل الشرعي للسلطة المحلية” بيانا عبّرت من خلاله عن “معارضتها المطلقة لكلّ القرارات غير الدستورية والانقلابيّة لرئيس الجمهورية” محمّلة إيّاه جزءا من المسؤولية فيما بلغه تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصاديّة. كما رفضت الجامعة تجميد أي جهة منتخبة على غرار البرلمان أو البلديات- متفاعلة بذلك مع مطالبة البعض بامتداد التدابير لتشمل تجميد أعمال المجالس البلدية.
إلاّ أنّ البيان الصادر عن الجامعة كهيكل موحّد للبلديات التونسية -خاصّة في ظلّ غياب المجلس الأعلى للجماعات المحلية-، لم يخلُ من استتباعات. فقد تفاعل عديد رؤساء البلديات الممثلون في المكتب التنفيذي للجامعة مؤكّدين على أنّ المكتب لم ينعقد للتشاور حول البيان ومحتواه. أبرز المواقف في هذا الخصوص، موقف رئيس بلديّة المرسى الذي نشر بوصفه عضوا للمكتب التنفيذيّ للجامعة بيانا أكّد فيه أنّ ما صدر يعدّ تعدّيا على آراء ومواقف أعضاء المكتب مشدّدا على أنّه لا يعكس مواقفه تجاه الأحداث السياسية الأخيرة.
لم يكتفِ بعض رؤساء البلديات بالتشديد على نقطة عدم استشارة المكتب التنفيذي لدى إصدار الجامعة للبيان، بل ذهبتْ رئيسة بلدية حلق الوادي إلى حدّ القول بأنّ البيان “لا يعبر مطلقا على موقفها المساند والمتبني للقرارات والإجراءات التي أعلن عليها السيد رئيس الجمهورية، مجدّدة دعمها الكامل لعملية تصحيح المسار المعلنة ورفضها التامّ لما جاء في بيان الجامعة وخاصة في ما يتعلق بتأويل الفصل 80 من الدستور”.
هذا والتجأ بعض رؤساء البلديات إلى إصدار بيانات مشتركة، على غرار رؤساء بلديات حمام الشط وحمام الأنف و بومهل البساتين و مقرين بتاريخ 28 جويلية، أعلنوا من خلاله رفضهم لل”بيان المسقط أحادي الجانب و المفتقد إلى الشرعية”، معبرين عن انخراطهم الصريح في المسار التصحيحي الذي اتخذه رئيس الجمهورية. كذلك الأمر فيما يتعلق برؤساء بلديات ولاية قفصة الذين أعربوا بتاريخ 27 جويلية في بيان مشترك على “إدانتهم للبيان الصادر عن الجامعة لاصطفافه مع طرف سياسي محدّد دون الرجوع إلى الهياكل المنتخبة قبل إصداره” بالإضافة إلى دعمهم للقرارات المتخذة.
وقد تواترت بيانات رؤساء البلديات الرافضة لموقف الجامعة الوطنية للبلديات التونسية بالغة حدود الانسلاخ عنها على غرار رئيس بلدية سيدي بوسعيد وإعلان رئيس بلدية قرمبالية استقالته من الهيئة الإدارية للجامعة عقب البيان الصادر عنها من جهة وتلويح البعض بـالتزامهم بخيار الرئيس إن رأى ضرورة في تجميد عمل المجالس البلدية. إلى جانب بيانات رؤساء البلديات، عمد أعضاء المجالس البلدية بصفة منفردة أو جماعية إلى التعبير عن مواقفهم التي برزت في معظمها رافضة لبيان الجامعة.
أمام هذا الرفض الواسع وتصاعد وتيرة التصريحات الصادرة عن قياديّي حركة النهضة، أصدر السيد عدنان بوعصيدة -رئيس الجامعة- بصفته رئيس بلديّة رواد رسالة مفتوحة موجهة إلى رئيس البرلمان راشد الغنوشي بتاريخ 30 جويلية مجددا رفضه قرارات رئيس الجمهورية، لكن مع التأكيد على ”ضرورة الاستماع إلى نبض الشارع“، وملوّحا بالانسحاب النهائي من التحالف البلدي بينه وبين حركة النهضة، في حال لم تتراجع عن تصريحاتها المتعلّقة بدعوة المتعاطفين مع الحركة للنزول للشارع والتهديد بموجة هجرة غير نظامية في حال تواصل الوضع الحالي. فقد اعتبر بوصعيدة أنّ مثل هذه التصريحات تستهدف الأمن الداخلي وتحرّض على استعمال القوة لرفع القيود على البرلمان وتحرض الأجنبي للتدخل في الشأن الداخلي ودحض السيادة الوطنية.
هل تشمل مراحل إرساء “تونس الجديدة” التراجع عن المسار اللامركزي الحالي؟
لا يمكن قراءة ردّة فعل البلديات حول التدابير الاستثنائية سواء كانت معارضة أو مؤيدة، دون الإشارة إلى أنّ مطلب تغيير النظام السياسي أصبح مهيمنا على النقاش العامّ، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام إعادة النظر في المسار اللامركزي -على الأقلّ بشكله الحالي- خصوصا وأنّ أكثر ما يعاب على هذا الخيار الدستوري هو “تفتيت الدولة”.
ونجد صدى لذلك في مواقف بعض المنظمات المهنية على غرار الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والتي اعتبرت صراحة أنّ النظام السياسي الذي وقع إقراره في دستور 2014، إضافة إلى النظام الانتخابي الذي تم اختياره، أفرز مجالس تمثيلية تشريعية وبلدية غير متجانسة أفضتْ الى فقدان ثقة الشعب تجاهها وإلى تعطيل سير دواليب الدولة وإلى أزمة اجتماعية حادّة وانسداد الأفق، وهو ما يمثل امتدادا لخطاب مُهيْمن لدى عدد من الفاعلين السياسيين أو المنظّمات المهنية على حدّ سواء.
هذا ولا يخفى أنّ التوجّس من التراجع عن المسار اللامركزي اليوم، لم يُخلق من عدم، وهو ما نتبيّنه من خلال مواقف بعض رؤساء البلديات المطالبين بتجميد عمل مجالسهم من جهة، أو عبر عدد من التصريحات الصادرة عن رئيس الجمهورية الذي أكّد منذ حملته “التفسيرية” الانتخابية سنة 2019 على وجوب “إعادة بناء النظام السياسي والإداري من المحلي الى المركزي”، من جهة أخرى.
ولئن لا جدال بأنّ موقف رئيس الجمهورية من النظام اللامركزي الحالي غير واضح الى حدّ اللحظة، فإنّه من الضروري التساؤل اليوم عن مستقبل اللامركزية في تونس، خصوصا أمام بوادر الخروج عن دستور 2014 المؤسس للسلطة المحليّة وضبابية الخطوات المستقبليّة من ناحية، وتشرذم المشهد البلدي وتعثر المسار اللامركزي -الذي يشهد تحديات مادية وبشرية منذ سنوات- من ناحية أخرى.