بتاريخ 21/01/2025، صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية [1]الأمر عدد 32 لسنة 2025 يتعلق بتعيين 149 ملحقًا قضائيًّا قضاة مباشرين. ويلحظ أن هذا التعيين أو “التسمية” حصل بأمر رئاسي من دون ترشيح لمجلس القضاء العدلي الذي ما يزال معطّلا منذ 2023 وذلك خلافًا للفصل 120 من دستور 2022 الذي نصّ على أنّ “تسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهوريّة بناء على ترشيح من المجلس الأعلى للقضاء المعنيّ”. هذا فضلا عن أنه لم يرد ضمن الحركة القضائية خلافا لما يفرضه الفصلان 18 و19 من المرسوم المحدث للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، الأمر الذي يمهّد إلى تكليف القضاة الجدد بمهام قضائية يبقى نقلهم منها خلاف ضمانة عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه.
ويهمّ المفكرة في مواكبتها لهذا الحدث القضائي الهامّ الذي يُؤمل أن يستفاد منه في تحسين جودة العدالة ومعالجة ظاهرة نقص الإطار القضائي بعدد من المحاكم أن تبدي ملاحظات تتعلّق بشكليّات تعيين القضاة الجدد وأخرى تحاول من خلالها رصد التحوّلات في جسد القضاء العدليّ التونسيّ، ومن ضمنها بروز غالبية نسائية داخله.
تجاوز مجلس القضاء في “تسمية القضاة الجدد”: سوابق تتمدّد
سنة 2022، وبموجب المرسوم عدد 11 لذات السنة[2] حلّ الرئيس سعيد المجلس الأعلى للقضاء وركز بديلا له مجلسا مؤقتا للقضاء. وقد أسند في هذا الإطار لمجالس القضاء القطاعية المكوِّنة لمجلس القضاء الجديد كلًا حسب اختصاصه إعداد مشروع الحركة القضائية السنوية للقضاء. نهاية تلك السنة، أعدّ المجلس المؤقت للقضاء العدلي مشروعا للحركة القضائية السنوية أولا رفض من رئاسة الجمهورية لكونه اقترح تنفيذ قرارات إيقاف التنفيذ الصادرة عن المحكمة الإدارية لفائدة 47 من القضاة العدليين الذين سبق لرئيس الجمهورية ان أصدر امرا بإعفائهم. كما رفض الرئيس مقترحيْ المجلس الثاني والثالث لأسباب يبدو أنها على علاقة بالتسميّة في المناصب القضائية ذات الصلة بالعدالة الجزائيّة قبل أن ينتهي الامر لأن يصدر الأمر الرئاسي عدد 711 لسنة 2022 المتعلق بتسمية الملحقين القضائيين ولأن يصرف النظر عن إصدار الحركة القضائية لتلك السنة في سابقتيْن لم يعرفهما القضاء التونسي قبل ذلك.
لاحقا وتحديدا بتاريخ 30 -08-2023، صدرت أول حركة قضائية للقضاء العدلي بعد انفراد الرئيس قيس سعيد بالسلطة وكان من بين مفاعيلها استبعاد عضوين من الأربعة أعضاء في المجلس المؤقت للقضاء العدلي المعينين بالصفة من تركيبة تلك المؤسسة بعد تعيينهما في خطط قضائية أخرى. وقد اقترن استبعاد هذين العضوين بتقاعد عضوين آخرين من المجلس وبعدم تعيين من يشغل الأربعة مناصب القضائية الشاغرة، ممّا أدّى إلى فقدان النصاب القانوني لانعقاد المجلس المؤقت للقضاء العدلي وبالتالي لتعطله بشكل نهائي عن العمل وضمنا لتجريده من إمكانية ترشيح القضاة الذين يراد تسميتهم.
وعليه، وبذريعة تعطّل مجلس القضاء العدلي والحاجة لتجاوز الفراغ المتولّد عن ذلك، أصدرت وزيرة العدل ليلى جفّال مئات مذكرات العمل نقلت بموجبها قضاة من محاكم لأخرى خلال السنة القضائية وأدّى بعضها لترقية قضاة من رتبة لأخرى ولعقاب آخرين بالحطّ من خططهم الوظيفية. لم يكن لممارستها تلك الصلاحيّات الواسعة وغير المقيّدة بأيّ ضابط في إدارة المسار المهنيّ للقضاة أيّ سند قانوني خصوصا وأن الفصل 14 من القانون الأساسي عدد 29 لسنة 1967 الذي استند له في إجرائها سبق وأكدت المحكمة الإدارية أنّه نُسخ بموجب القانون الأساسي المحدث للهيئة الوقتية للقضاء العدلي.
في هذا الإطار، تكون تسمية القضاة العدليين الجدد بموجب أمر لم يستند لاقتراح من المجلس المؤقت للقضاء العدلي بمثابة فرض أمر واقع جديد مماثل للذي يعتمد في إدارة المسار المهني للقضاة يكون فيه القول الفصل لقوة السلطة لا لسلطة القانون ويؤدي لأن يكون خرق القانون هو ما يحكم المسار المهني للمطالبين بالسهر على حسن نفاذ القانون وهو ما يفقد القانون قيمته.
ويُشار هنا إلى أنّ من صاغ نصّ أمر تسمية القضاة الجُدد تجنّب استعمال مصطلح التسميّة رغم أنّه المعتمد في دستور 2022 وفي نصّ المرسوم المُحدث للمجلس المؤقّت للقضاء واعتمد كبديل عنه مصطلح تعيين. وقد يكون ذلك محاولةً منه للتغطيّة عمّا في الأمر من خرقٍ للدستور والقانون من خلال القول أنّ ما بدر منه تعيينٌ وأنّ المشرّع لم يتحدّث عن إجراءات تعيين مطلقًا وبالتالي له صلاحية إصدارها من دون المرور بالإجراءات الواجبة فيما يتعلّق بالتسمية.
الاحتفاء بتأنيث القضاء يعطّله تعميق هشاشته
فضلا عن الملاحظات أعلاه، تكشف تسميات قضاة الفوج 32 من خريجي المعهد الأعلى للقضاء عن خاصيّتين أولهما على علاقة بديموغرافيا القضاء وعنوانها تأنيث القضاء العدلي، وثانيهما المضي قدما في صناعة هشاشة القضاة.
فمع بداية السنة القضائية 2020 -2021، تحقّقت المناصفة في القضاء العدلي التونسي بين القضاة من النساء وزملائهم من القضاة الذكور. وفي غياب إحصائيات رسميّة دقيقة ترصد نسبة تأنيث القضاء العدلي التونسي، نلاحظ أنه وخلال السنة القضائية 2022 -2023 التحق بالقضاء 101 قاضيا جديدا منهم 74 فقط من الإناث. وبمناسبة التسمية الأخيرة، التحق بذات القضاء 149 قاضيا منهم 109 من الإناث. ويؤكد هذان المعطيان توجّه القاضيات ليكنّ الأغلبية في القضاء العدلي بعد أن توصلن لذلك منذ سنوات في القضاءين المالي والإداري. وربما كان هذا الحدث يستحقّ أن يُحتفى به ويعدّ مكسبا للنسويّة التونسيّة لو لم يقترن بوضع الهشاشة الذي بات يعرف به القضاء وأكدته التسميات الأخيرة بما كشفت عنه من استعمال مكثف لآلية التكليف
إذ بحسب التشريع الجاري به العمل، تسند خطة مساعد وكيل جمهورية لدى محكمة ابتدائية لقضاة الرتبة الأولى الذين أتموا 5 سنوات كاملة من العمل القضائي. إلا أنه وقبل الثورة، كان يتمّ تعيين قضاة في بداية حياتهم المهنية في تلك الخطة بصفة مكلفين بها. وقد كانت تلك الممارسة مما ينتقد في الوسط القضائي وخارجه لأهميّة عمل مساعدي وكلاء الجمهورية والحاجة لخبرة في إدارتها لتعلقها بحريات الأفراد وربما كان ذلك ما دفع لاستحداث خطة مساعد أول لوكيل جمهورية بكل المحاكم الابتدائية يكون من قضاة الرتبة الثانية أي ممّن لهم خبرة في العمل القضائي تزيد عن 10 سنوات ولنواب وكيل جمهورية في المحاكم الابتدائية الكبرى من قضاة الرتبة الثالثة أي ممّن لديهم اقدمية مهنية تتجاوز 16 سنة. تاليا بعد الثورة، اتّجهت الهيئة الوقتية للقضاء العدلي ومن بعدها المجلس الأعلى للقضاء لتقليل الالتجاء للتكليف بتلك الخطة ولاعتمادها في حالات الضرورة ولفائدة قضاة لهم خبرة في العمل وليسوا من المستجدين. خلافا لذلك، أدت التسميات المعلن عنها لتكليف 54 قاضيا من المتخرّجين الجدد من المعهد الأعلى للقضاء بخطّة مساعد وكيل جمهورية لدى محكمة ابتدائية. ومثل هذا الخيار لا يمكن تبريره بمصلحة العمل لكون عديد القضاة ممن تأهلوا لمثل تلك المسؤولية لم تسند لهم.
في هذا تراجعت التسميات باعتمادها المكثف على التكليف عن مكتسبات تحققت للقضاء بما يعزّز هشاشة القضاة لكون من يكلّف بخطة لم تسند له وفق مقتضيات القانون يكون دوما عرضة لسحبها منه، فيكون في وضع هشاشة كاملة و تحت ضغط دائم شأنه شأن قضاء سحبت منه كل ضمانات استقلاليته وبات يدار من خارج القانون.
[1] التسمية القانونية للجريدة الرسمية التونسية
[2] مـرســوم عدد 11 لسنة 2022 مؤرّخ في 12 فيفري 2022 يتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء