في 21 نوفمبر 2014، أعلنت الهيئة العليا للانتخابات النتائج النهائية لانتخابات مجلس نواب الشعب التونسي. ويعد الاعلان مهما من جهة قيمته القانونية لكونه يحدد زمن نهاية ولاية المجلس الوطني التأسيسي علاوة عن كونه يحدد تاريخ بداية عهدة مجلس نواب الشعب. أنهى التصريح بالنتائج الانتخابية الحقبة التأسيسية للجمهورية الاولى والتي يصطلح محليا على تسميتها بالمرحلة الانتقالية الثانية، وشغل صلبها المجلس الوطني التأسيسي قانونيا موقعا مركزيا لكونه المجلس الذي عهدت له مهمة صياغة الدستور علاوة على ممارسته لصلاحية الحكم والتشريع. فيما افتتح اعلان النتائج الانتخابية عهد المؤسسات الدائمة والتي سيكون مجلس نواب الشعب احد مكوناتها الاساسية لاعتبار انه مؤسسة التشريع اولا ولكونه الجهة التي تمنح الثقة للحكومة وتمارس الرقابة عليها علاوة على دوره في تشكيل بقية المؤسسات الدستورية ثانيا.
يخلف مجلس نواب الشعب المجلس الوطني التأسيسي رغم اختلاف المؤسستين من جهة كون السلف سلطة تأسيسية أصلية حال أن الخلف مجلس تشريعي. ويؤدي تميز السلف عن خلفه من جهة الطبيعة الدستورية الى تحول التركة التأسيسية الى خريطة طريق تحدد دور المشرع وتبين حدود سلطاته في مجال اختصاصه فيما يفضي ارث مجلس نواب الشعب لمقر المجلس الوطني التأسيسي ولدوره التشريعي والرقابي على العمل الحكومي الى تحول "صورة المجلس التأسيسي" الى جزء من تركة ثقيلة قد يكون عبؤها كبيرا على المجلس الجديد.
دستور السلطة التأسيسية يحدد الالتزامات التشريعية ويضبط توجهاتها
اختار اعضاء المجلس الوطني التأسيسي ساعات قليلة قبل نهاية عهدة مجلسهم اي مساء يوم 21 نوفمبر 2014 ان يحتفلوا بما قدروا انه نجاح في اضطلاعهم بمسؤولياتهم. اكتفوا خلال احتفالهم بالامضاء نسخة خطية من الدستور الذي صدر عنهم في خطوة رمزية. ابرز احتفال المغادرين اهمية اثرهم في رسم ملامح الجمهورية الثانية، اذ ان دستور الجمهورية حدد مؤسسات الدولة الدائمة وترك لمجلس نواب الشعب مسؤولية تركيزها وسن قوانيها في اطار رزنامة زمنية محددة سلفا. كما يحدد ذات الدستور مجال الحقوق والحريات التي يجب ان يلتزم بها عمل الدولة بما في ذلك قوانينها بما يبين ولاية المؤسس على خلفه.
حدد الدستور رزنامة زمنية لاهم الاعمال التشريعية. فعلاوة على الزامه كافة المجالس التشريعية التي ستعمل تحت مظلته بانجاز قانون الموازنة العامة قبل يوم 10 ديسمبر من كل سنة، ألزم مجلس نواب الشعب الأول بان يتولى خلال الستة أشهر الأولى من ولايته بتركيز المجلس الأعلى للقضاء مع ما يستدعيه ذلك من ضبط قانون هذا المجلس وإعادة صياغة القوانين الأساسية للقضاء لتتلاءم مع التوجهات الدستورية وان يتولى قبل نهاية السنة الأولى من عمله تركيز المحكمة الدستورية مع ما يقتضيه ذلك من مشاركة في تعيين قضاتها وتصور النصوص القانونية التي تبين موارد موازنتها وتأجير اعضائها والعاملين بها.
ضغط "الرزنامة " التي ألزم بها "اباء الدستور" خلفاءهم المشرعين يتلازم مع تحمل الخلف لمسؤولية تركيز مؤسسات الجمهورية الثانية وخصوصا منها "المؤسسات الدستورية" الجديدة وتصور الديموقراطية المحلية المستحدث. ويتحمل مجلس نواب الشعب الذي سيتولى سن القوانين التي ستركز تلك المؤسسات مسؤولية نجاح التجربة الديموقراطية. وقد تؤدي المسؤولية الخصوصية التي يتحملها مجلس نواب الشعب الاول الى اعتباره مجلسا تشريعيا يشترك مع سلفه بصفة التأسيس ولو بدرجة معينة.
حدد المجلس الوطني التأسيسي في عمله التأسيسي للمشرعين شروطا لدستورية نصوصهم القانونية، تميزت بتكريس الحقوق والحريات، فكان السلف رائدا في مجاله ووضع لبنة اساسية لتطور الدولة ومؤسساتها بما في ذلك المجلس التشريعي. غير ان ذات السلف لم يكن نقيا في ممارسته ذات نقاء نصه الدستوري اذ ان رحلة عمله التي استمرت ثلاث سنوات ادت الى رسم صورة للمشرع تبدو في بعض اوجهها سلبية وقد يتحمل من يخلفه مسؤولية تغييرها.
مجلس نواب الشعب وتركة صورة السلف
شكل المجلس الوطني التأسيسي خلال سنوات عمله ساحة للخصومات بين النواب. وقد كشف المجتمع المدني الذي تابع أعماله عن ذلك. كما كشف الاعلام الذي غطى بشكل مباشر جلساته أن عددا هاما من نوابه يتغيبون عن جلساته بما منع من انعقاد جلساته في موعدها في اغلب الاحيان وادى في كثير من الحالات لتعطلها لعدم توفر النصاب القانوني. كما ادى الحديث داخل المجلس وخارجه عن تلقي عدد من النواب لرشاوي لتغيير انتماءاتهم الحزبية ولتمكين المرشحين للانتخابات الرئاسية من تزكياتهم الى تعميق الصورة السلبية لاعضاء المجلس.
لم ينجح المجلس التأسيسي في رفع الشبهات التي احاطت باعضائه، واختار ان يتحصن بالصمت في مواجهتها، فلم يحقق في اتهامات الفساد واضر ذلك بتصور المؤسسة وقيمها فيما ادت غيابات النواب وخصوماتهم فعليا الى تعطل عدد من القوانين الهامة. وكان بذلك المجلس الوطني التأسيسي في التصور السائد عنوانا للمجلس الفاشل.
ادى التقييم السلبي لعمل المجلس الوطني التأسيسي الى تحوله في عامه الاخير الى مجلس مقيد وتحت الوصاية. فقد استولى الحوار الوطني على دوره الدستوري بعد ان تكفل المشاركون فيه بالتوصل لتوافقات بخصوص النصوص الخلافية بالدستور، فيما قيد الدستور الدور التشريعي للمجلس التأسيسي بعد ان نزع عن اعضائه حق المبادرة التشريعية. وقد تكون المهمة الاصعب التي يتحمل اعضاء مجلس نواب الشعب مسؤولية انجازها هي التخلص من عبء الصورة السلبية للمجلس الوطني التاسيسي. اذ يرتبط تأسيس سلطة تشريعية مستقلة بقدرة تلك السلطة على ادارة الخلافات داخل قبة المجلس وبتحمل اعضائه لمسؤولياتهم بشكل يحقق الثقة العامة في قيم المجتمع الديموقراطي ويمنع تحول مشروع الجمهورية الثانية الى الفشل.
متوفر من خلال: