وافق مجلس الوزراء بقراره رقم 1 بتاريخ 27 تشرين الثاني 2024 على تعزيز انتشار الجيش والقوى الأمنية كافة في منطقة جنوب الليطاني “وفقا للترتيبات” التي أرفقت ربطا بالقرار والتي صدرت في 26 تشرين الثاني ببيان مشترك عن الولايات المتحدة وفرنسا وهو ما بات يعرف ب “اتفاق” وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
وقد تضمنت هذه الترتيبات التي وافق عليها مجلس الوزراء اتخاذ مجموعة متنوعة من التدابير تتعلق بالجيش لعل أبرزها النقاط التالية:
- نشر 10000 جندي من الجيش في منطقة جنوب الليطاني في أسرع وقت ممكن.
- إعطاء الحكومة التوجيهات للجيش والقوى الأمنية من أجل مراقبة الحدود ومنع دخول السلاح غير المرخص به إلى مختلف المناطق اللبناني، منع كذلك تصنيع هكذا نوع من سلاح في الأراضي اللبنانية.
- تفكيك كل منشآت تصنيع السلاح في منطقة جنوب الليطاني وضمان عدم انشاء هكذا مصانع في المستقبل.
- تفكيك كل المواقع العسكرية جنوب الليطاني ومصادرة جميع الأسلحة غير المرخص لها.
- على الجيش اللبناني إقامة الحواجز ونقاط التفتيش في مناطق محددة على نهر الليطاني.
وكان من اللافت أن قرار مجلس الوزراء صدر بإجماع الوزراء واستنادا إلى المادة 62 من الدستور التي تنيط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء عند شغور رئاسة الجمهورية من دون تحديد ما هي الصلاحية الدستورية التي مارسها مجلس الوزراء بقراره هذا والتي تعود أصالة لرئيس الجمهورية. وعلى الرغم من ذلك يبدو أن المقصود كان المادة 52 من الدستور التي تنيط برئيس الجمهورية صلاحية التفاوض وإبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية بالاتفاق مع رئيس الحكومة وهذا ما يظهر من الفقرة الأخيرة من قرار مجلس الوزراء التي تعلن إبلاغ نسخة منه ومرفقاته إلى مجلس النواب للاطلاع وأخذ العلم، وهو ما ينسجم مع المادة 52 من الدستور التي تخول الحكومة صلاحية اطلاع مجلس النواب على المعاهدات “حينما تمكنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة”.
لكن المستغرب أن قرار مجلس الوزراء اكتفى بالموافقة على هذه الترتيبات من دون توجيه أي أمر مباشر للجيش بل اكتفى بالقول أن تطبيق هذه الترتيبات سيتم وفقا “لخطة عمليات تضعها قيادة الجيش وترفعها وفقا للأصول إلى مجلس الوزراء للموافقة عليها قبل المباشرة بتنفيذها”. وقد انعكس هذا الالتباس في البيان الصادر عن الجيش بتاريخ 27 تشرين الثاني والذي أعلن عن مباشرة “الجيش تعزيز انتشاره في قطاع جنوب الليطاني وبسط سلطة الدولة بالتنسيق مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان – اليونيفيل، وذلك استنادًا إلى “التزام الحكومة اللبنانية تنفيذ القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن بمندرجاته كافة والالتزامات ذات الصلة، ولا سيما ما يتعلق بتعزيز انتشار الجيش والقوى الأمنية كافة في منطقة جنوب الليطاني”. الأمر الذي يفهم منه أن الجيش بات يفسر التزامات الحكومة اللبنانية من تلقاء نفسه بينما الصحيح كان وجوب تضمين قرار مجلس الوزراء تعليمات واضحة ومباشرة للجيش من شأنها تكليفه اتخاذ إجراءات محددة لا الاكتفاء بموافقة عامة على اتفاقية وقف إطلاق النار بحيث يصبح الجيش ملزما باستخلاص النتائج القانونية المترتبة عليها ومن ثم تطبيقها.
وفي بيان آخر بتاريخ 28 تشرين الثاني أعلن الجيش أن وحداته العسكرية “باشرت تنفيذ مهماتها في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، بما في ذلك الحواجز الظرفية، وعمليات فتح الطرقات وتفجير الذخائر غير المنفجرة. تأتي هذه المهمات في سياق الجهود المتواصلة التي يبذلها الجيش بهدف مواكبة حركة النازحين، ومساعدتهم على العودة إلى قراهم وبلداتهم، والحفاظ على أمنهم وسلامتهم”.
لكن ما يجب ملاحظته أن هذه التدابير التي أشار إليها البيان وكذلك الإجراءات التي تضمنتها اتفاقية وقف إطلاق النار تدخل من ضمن الصلاحيات العادية للحكومة والجيش. فبإمكان الحكومة ساعة تشاء أن تأمر الجيش في الانتشار او تعزيز حضوره في أي منطقة لبنانية، كما لها أن تأمره وسائر القوى الأمنية بإقامة الحواجز وتفتيش الأماكن ومصادرة الأسلحة غير المرخصة وفقا للقوانين النافذة.
لكن محدودية قرار مجلس الوزراء لا تظهر فقط في اقتصاره على الموافقة على الاتفاقية من دون تعليمات مباشرة للجيش، لكن أيضا في عدم منحه للجيش كل الصلاحيات الضرورية التي تسمح له بتطبيق الاتفاقية بكل مندرجاتها بينما البند السابع منها ينص صراحة على منح الحكومة كل السلطات الضرورية للجيش من أجل تنفيذها.
وقد ظهرت هذه المحدودية في بيان ثالث للجيش بتاريخ 27 تشرين الثاني طلب بموجبه من المواطنين “التريّث في العودة إلى القرى والبلدات الأمامية التي توغّلت فيها قوات العدو الإسرائيلي بانتظار انسحابها وفقًا لاتفاق وقف إطلاق النار”. فالجيش لا يملك الصلاحيات القانونية التي تسمح له بمنع تنقل المواطنين ودخولهم إلى قراهم كون ذلك يعتبر من الحقوق الدستورية التي تضمن للمواطنين حرية الانتقال في كل المناطق اللبنانية وفي كل الأوقات.
وهكذا يتبين أن تمكين الجيش من تطبيق المهمة التي تطلبها منه الحكومة يستوجب تزويده بالصلاحيات القانونية التي تسمح له بحظر تجوال المواطنين وإقامة مناطق عسكرية يمنع دخولها إذا لزم الأمر. وهذا النوع من الصلاحيات موجود فعلا وهو يدخل ضمن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية المنصوص عليها في المرسوم الاشتراعي رقم 52 في 5/8/1967 والتي يمكن إعلانها في كل لبنان أو في مناطق محددة بمرسوم يتخذ بعد موافقة ثلثي مجلس الوزراء.
ومن خلال التمحيص في أحكام المادة الرابعة من هذا المرسوم الاشتراعي يتبين لنا أن السلطة العسكرية العليا التي تتولى المحافظة على الأمن يمكن لها عند اعلان حالة الطوارئ اتخاذ التدابير التالية: فرض التكاليف العسكرية بطريق المصادرة التي تشمل الأشخاص والحيوانات والأشياء والممتلكات، تحري المنازل في الليل والنهار، إعطاء الأوامر بتسليم الاسلحة والذخائر والتفتيش عنها ومصادرتها، فرض الغرامات الإجمالية والجماعية، إبعاد المشبوهين، اتخاذ قرارات بتحديد أقاليم دفاعية وأقاليم حيطة تصبح الإقامة فيها خاضعة لنظام معين، فرض الإقامة الجبرية على الأشخاص الذين يقومون بنشاط يشكل خطرا على الأمن العام، منع الاجتماعات المخلة بالأمن، إعطاء الأوامر في إقفال مختلف أماكن التجمع بصورة مؤقتة، منع تجول الأشخاص والسيارات في الأماكن وفي الأوقات التي تحددها القيادة، منع النشرات المخلة بالأمن وفرض الرقابة على مختلف وسائل النشر.
ولا شك أن هذه التدابير تؤدي إلى الحدّ من الحريات العامة لكنها قد تصبح ضرورية عند وجود ظروف أمنية استثنائية كالحرب الطاحنة التي عاشها لبنان بسبب العدوان الاسرائيلي ما يُوجب تغليب حماية السلامة العامة. فالمهام الكبيرة والخطيرة التي تريد السلطة السياسية من الجيش القيام بها تتطلب منح الجيش الوسائل القانونية الكاملة لتحقيق ذلك وليس مجرد إلقاء المسؤولية عليه من دون تزويده بالأدوات القانونية لذلك. إذ أن الجيش لا يتوجب عليه في هذه الظروف المصيرية إصدار البيانات من أجل التمني والحث بل يجب تمكينه من اتخاذ قرارات ملزمة لضمان سيادة لبنان على أراضيه والسلامة العامة، ومن ضمنها الحدّ من الانتقال وعزل بعض المناطق وحظر التجول من أجل حماية لبنان كلما لزم الأمر. وهذا يتم من خلال إعلان حالة الطوارئ في منطقة جنوب الليطاني[1] طيلة فترة الستين يوما التي تنص عليها “اتفاقية” وقف إطلاق النار.
[1] يشار هنا أن المرسوم رقم 5515 الصادر بتاريخ 23 أيار 1973 أبقى على حالة الطوارئ في منطقة الحدود الجنوبية التي تتألف وفقا للمرسوم رقم 12146 بتاريخ 20 آذار 1969 من المناطق التي تقع جنوب حدود قضائي حاصبيا ومرجعيون والخط الممتد من جسر الخردلي-مجرى نهر الزهراني لغاية مصبه في النهر. والغريب أننا لم نتمكن من إيجاد المرسوم القاضي برفع حالة الطوارئ في تلك المنطقة.