“ألسنة عاجزة عن الإجابة”، “عيونٌ تقاوم الدمع”، “آهات تثقل الصدور”، أوصافٌ لا تفي للتعبير عن الحالة التي يعيشها أهالي، وأقارب، وجيران ضحايا ومفقودي المركب الغارق مقابل جزيرة أرواد في محافظة طرطوس السورية. حيث بلغت الحصيلة الأولية غير النهائية 91 ضحية، وهي آخذة في الارتفاع. فيما استقر رقم الناجين عند الـ 20، من بين الركاب الذي تشير التقديرات إلى أنّ عددهم يتراوح بين 140 و170 شخصاً من الجنسيات اللبنانية، السورية والفلسطينية. علماً أنّ المعلومات المتوفرة حتى الآن تشير إلى أنّ سعة المركب لا تتجاوز 70 شخصاً إذ أنّ طوله لا يزيد عن 12 متراً.
وقال وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية لـ “إم تي في” إنّ جثامين ضحايا المركب توزّعت بين 40 رجلاً و31 امرأة و24 طفلاً ومنها 55 تمّ التعرّف إليها و40 مجهولة الهوية. وأضاف أنّ عدد الجثامين التي نُقلت إلى لبنان بلغ 17 منها 11 لبنانياً. كما بلغ عدد الركاب الفلسطينيين على متن المركب أكثر من 30 وهو أعلى رقم يسجّل لفلسطينيين في لبنان على متن مراكب الهجرة غير النظامية.
وعرف من اللبنانيين مصطفى مستو وابنته دنيا اللذين تم تشييعهما في طرابلس، ريان وعصمت السيد علي، كمال خالد دياب، سميح خالد دياب، عمار وسام التلاوي، إضافة إلى الفلسطينيين عبد العال عمر عبد العال، ورواد السيد. وقد عبرت جثامينهم السبت لينضمّوا إلى الطفلتين مايا ومي وسام التلاوي اللتين شيّعتا صباح الجمعة في بلدة القرقف العكارية، فيما نجا الوالد وسام الذي يتلقى العلاج في مستشفى الباسل طرطوس.
رواية الأهالي والناجين
عند الرابعة والنصف من فجر الأربعاء، خرج قارب الهجرة غير النظامية من أمام شاطئ المنية، متجهاً إلى إيطاليا، وعند وصوله إلى المياه الإقليمية جرى التواصل الأخير بين الأهل والركاب كما يروي أبو عمر والد المفقود أسامة (17 عاماً)، الذي كان طالب نجارة في معهد سبلين التابع للأونروا، وبعد إنجازه التدريب المهني لم يتمكن من العثور على عمل. يقول الوالد إنّ ابنه فاتحه بموضوع الهجرة، فأبدى بعض التحفظ، إلّا أنّه أقنعه بأن الرحلة التي يتمّ التحضير لها ستحمل عدداً محدوداً من الركاب، حيث سيقوم المهرّب الملقب “أبو علي نديم” من ببنين بتأمين قارب بطول 18 متراً، وعلى متنه 70 راكباً فقط، ومزوّد بمحركين اثنين، ومجهّز بصورة كاملة. ويكمل الوالد “لم أطمئن للأمر، قبل أسبوع من انطلاق المركب ذهبت إلى المهرّب، طلبت أن يعيد الأموال التي تقاضاها من ابني، وتعهد أبو علي بأن يعيد المصريات خلال أسبوع”، مضيفاً “بعدها عدت إلى عملي في شاتيلا ببيروت، وفي بالي أنّ الرحلة قد ألغيت، في اليوم نفسه تلقى ابني اتصالاً مفاجئاً بأن يحضّر نفسه للسفر”.
يكشف الوالد أنّ “الرحلة كان يتحضّر لها منذ أربعة أشهر، إلّا أنه تمّ تأجيلها، وظننا أنّها ألغيت، ولكن فوجئنا لاحقاً من الصور التي أرسلت أنّ القارب طوره 12 متراً، وعلى متنه ضعفا عدد الركاب، قد يصل عددهم إلى 170، توزعوا على 3 طبقات، حيث تم تعديل القارب من أجل إضافة قسم علوي”. كما يلفت إلى أنّ ابنه خرج مع رفاق له، وعدد من عائلات مخيم البارد. وتناقل شبان في البارد رواية مفادها أنّه “عندما أصبح القارب في البحر، بدأ الركاب يطالبون بالعودة، إلّا أنّ المهرب أصرّ على إكمال الرحلة لأنه تقاضى 5 آلاف دولار عن كلّ راكب”، ووقعت الحادثة. فيما يؤكد أحد البحّارة أنّ “القارب كان يحتاج إلى معجزة لبلوغ إيطاليا نظراً للحمولة عليه، والموج المرتفع وقوّة الرياح”، من ناحية تتعدد الروايات بين تحطّم القارب قبل غرقه، وبين من يشير إلى تعطّل المحرّك مما تركه في عرض البحر لفترة من الزمن، وأدت الرياح إلى انقلابه، وغرق القسم الأكبر من الركاب.
نقل الجثامين يحتاج بعض الوقت
وأوضح رئيس الهيئة العليا للإغاثة محمد خير أنّ عملية نقل الجثث إلى لبنان قد تستغرق أياماً في انتظار إنجاز الإجراءات الإدارية، والتعرُّف على هوية الجثامين الموجودة في البرادات، مؤكداً عدم وجود إحصاء نهائياً لعدد الركاب وتوزّعهم بسبب خروجهم بطريقة غير نظامية. وقد توجّهت أعداد كبيرة من أهالي “المفقودين” إلى طرطوس من أجل التفتيش عن أبنائهم، في وقت تحدّث فرحات المعاري (مسؤول العلاقات السياسية في فتح- منطقة الشمال) عن تراجع الآمال بوجود ناجين، مقدراً عدد الركاب الفلسطينيين بـ 40 راكباً، بينهم ناجان اثنان. وعلمت “المفكرة” أنهما إبراهيم منصور، ومحمد إسماعيل. وعُرف من الضحايا اللبنانيين: عائلة مستو 5 أفراد: (الضحية مصطفى وزوجته و3 أطفال)، عائلة التلاوي 6 أفراد (وسام وزوجته و4 أطفال)، آل البيو مفقودان اثنان (الأب وابنه الشاب)، عائلة حمد إثنان (الناجيان: زين وزوجته)، السيد علي 7 أفراد، عائلة المانع (4 أفراد).
وتشير المعلومات الميدانية من أمام مستشفى الباسل إلى إحضار 10 جثث إضافية اليوم السبت، وقد تمكّن الحاضرون من التعرّف على جثث الشابين الفلسطينيين أحمد عبد اللطيف الحاج من مخيم شاتيلا، وسامر لوحيد من نهر البارد.
دفعت الفاجعة إلى تنسيق إنساني لبناني سوري، حيث أعلن المكتب الإعلامي في وزارة الصحة اللبنانية عن اتصال هاتفي بين الوزير فراس أبيض، ونظيره السوري حسن محمد الغباش للبحث في كيفية نقل الجرحى الناجين من مأساة المركب الذي غرق قبالة طرطوس إلى لبنان. وأوضح البيان أنّه “سيصار إلى تحديد الموعد بناء على التقارير الطبية المتعلقة بحالتهم الصحية، إضافة إلى نقل جثامين الضحايا”.
أما الصليب الأحمر اللبناني فأعلن عن جهوزيته التامة لمتابعة كارثة غرق القارب قبالة ساحل طرطوس، وأنه سيعمل على توفير انتقال ذوي الضحايا عبر معبر العريضة إلى مشفى الباسل للتعرف على الجثامين ومن بعدها التسليم والنقل وكذلك نقل المصابين إلى الأراضي اللبنانية ضمن الأصول المعتمدة بالتنسيق والتعاون مع الهلال الأحمر السوري، والأمن العام اللبناني، ووزارة الصحة والهيئة العليا للإغاثة.
زحف البارد إلى معبر العريضة
نهار الجمعة وأمام معبر العريضة، تجمهر المئات في انتظار لحظة استلام الجثامين. وقد استمر ذلك إلى الساعة 7:07 مساء، حيث وصلت أول دفعة من سيارات الصليب الأحمر اللبناني التي تحمل 2 من الضحايا الفلسطينيين تم نقلهما لاحقاً إلى سيارات جهاز إسعاف “الشفاء” الفلسطيني عند نقطة دوار العبدة، تمهيداً إلى نقل عبد العال عبد العال إلى مستشفى صفد داخل مخيم نهر البارد، والشاب رواد السيد إلى شاتيلا بيروت.
ونهار السبت، شيّع الآلاف من أبناء نهر البارد والبداوي الضحية عبد العال، وسط حالة من الحزن والغضب. كما شيّع مخيم شاتيلا الشاب رواد طارق السيد، وعبّرت عائلة السيد عن صدمتها لوفاة رواد، فهو شاب قاصر يبلغ من العمر 16 عاماً، وكان عدد كبير من الأقارب لا يعلمون بهجرته وحيداً. وتفيد المعلومات أنّ والدته واثنان من أخوته قد تعرفوا على الجثة في طرطوس قبل نقلها إلى لبنان لمواراتها الثرى.
وخلال ساعات الانتظار الطويلة في العريضة، وفي موقف وشى بالأمل الباقي لدى أهالي المفقودين والضحايا، لمح بعض الشبان جسماً يتحرّك في بحر العريضة عند النقطة الحدودية، وظنّ هؤلاء أنه أحد الناجين، فرمى العشرات منهم أنفسهم في البحر من أجل انتشاله، قبل أن يتضح أنها أكياس تطفو إلى السطح.
تجدر الإشارة إلى أنّها المرة الأولى التي يخرج هذا العدد من الفلسطينيين على متن مركب للهجرة غير النظامية من لبنان وهو حوالي 33 شخصاً.
أولادنا يتعرّضون لغسيل دماغ
أمام معبر العريضة حضرت أيضاً مجموعة من العائلات اللبنانية انتظرت عودة سيارات الإسعاف علّها تأتيهم بقريب، أو يعود أحد أهاليهم بخبر من بين هؤلاء الذين عبروا إلى الجانب السوري من أجل التعرّف على أقاربهم من بين الجثث داخل البرادات، أو تفقد الناجين من بين أبنائهم الذين يتلقون العلاج في مستشفى الباسل طرطوس.
يشعر الأهالي بالخذلان واللوم، فهم عجزوا عن إقناع أبنائهم بعدم القيام بتلك المخاطرة. ويتكرر الأمر على لسان أبناء عائلة السيد علي (طرابلس)، وحمد (عكار). حيث يذكر أحد أبناء عائلة السيد علي أنّ “سبعة من أبناء العائلة كانوا على متن القارب، تأكّدت وفاة 5 منهم، فيما بقي 2 في عداد المفقودين”، يظهر حجم الصدمة على وجه عائلة السيد علي، يتحفّظون عن ذكر المزيد من التفاصيل، لأنّ “ما جرى شكل صدمة للعائلة، فهم حاولوا مراراً ثنيهم عن هذه الخطوة، إلّا أنّهم ذهبوا من دون إخبارهم”، معتبرين أنّ “نجاح بعض الرحلات في الوصول إلى أوروبا يشجع آخرين على الاستمرار بالهجرة غير الشرعية”.
محاولة الإقناع هذه تكررت لدى عائلة حمد التي يقول أحد أفرادها “نشّف ريقنا ونحن نقنعه بعدم الذهاب، وجرّبنا كل ما في طاقتنا لكنه أصرّ على الذهاب مع زوجته”، تم بذل كافة الجهود لتأمين جواز سفر له وعمل في إحدى البلاد العربية الخليجية، لكنه فضّل التوجّه إلى أوروبا بطريقة غير نظامية، متحدثين عن غسيل دماغ، حيث عمد المهربون إلى “اللعب بعقول الشباب وإقناعهم بأنها رحلة آمنة”.
انتهت قصة آل حمد بخسائر أقل مقارنة بباقي العائلات، ها هو زين وزوجته يتلقيان العلاج في طرطوس، وقد غادر والده إلى هناك من أجل البقاء معه ريثما يعود إلى لبنان. تتمنى أوساط حمد أن يكون ما حصل عبرة للجميع، لأنّ ركوب البحر خطير للغاية، محمّلين الدولة مسؤولية حالة اليأس التي بلغها اللبناني.
مصير غير اللبنانيين خصوصاً السوريين
في موازاة ذلك، برزت قضية مصير الضحايا والمفقودين من غير اللبنانيين لجهة عودتهم إلى لبنان. وتثير قضية السوريين المقيمين في لبنان الذين كانوا على متن المركب نقطة إشكالية ولا يوجد أي معطيات عن كيفية تعاطي الجانب السوري معهم. أحد هؤلاء هو الشاب محمد سلواية (26 عاماً) من أب سوري وأم لبنانية. يؤكد شقيقه مصطفى أنّ “والدته وخاله اتّجها إلى سوريا للبحث عن شقيقه الذي غادر لبنان من أجل العلاج في أوروبا”، مضيفاً “أصيب شقيقي قبل سنوات بالتعلبة التي أصابت رأسه ولحيته، ولم يشف منها. لذلك صمم لللهجرة للتغلّب على المرض”. ويلفت إلى أنّ شقيقه الذي كان يعمل مزيناً رجالياً في لبنان، أبلغ العائلة منذ فترة أنه يتجهّز للمغادرة، مع رفاقه مصطفى مستو (الضحية الذي خرج هو وكامل عائلته)، وزين حمد (الناجي وزوجته)، مشيراً إلى أنّ محمد ولد وتربى في لبنان، لذلك “توجهت أمه فاطمة إلى سوريا صباح السبت، حيث ستصر على عودته معها إلى لبنان حال عثورها عليه”، معبراً عن أمله بأن “يكون على إحدى الجزر المهجورة قبالة طرطوس”.
في المقابل لا يبدو أنّه سيكون هناك مشكلة في تسليم اللبنانيين والفلسطينيين، والتأخير أحياناً قد يكون لأسباب إدارية وروتينية. فيؤكد محمد الحاج عضو هيئة علماء فلسطين أنّ الجثامين ستسلم بصورة اعتيادية عند الكشف عن هويتها، أما بالنسبة للناجين، فسينتظرون انتهاء التحقيقات معهم والإجراءات القضائية لأنهم دخلوا البلاد بصورة غير مشروعة، ومن ثم سيعودون.
نحمل سؤال وصول الناجين، بالإضافة إلى السوريين اللاجئين إلى اللواء محمد خير رئيس الهيئة العليا للإغاثة، الذي حضر إلى معبر العريضة للإشراف على عملية تسليم الجثث، حيث يشير إلى أنّ “الناجين سينتظرون انتهاء النظر بملفاتهم، وسيأتون تباعاً، والتحقيقات ستكون يسيرة”، موضحاً أن “الانتقال من حدود دولة إلى أخرى يحتاج إلى إجراءات لا بدّ من اتّباعها على طرفي الحدود”. أما فيما يتعلق بالسوريين المقيمين في لبنان، فيقول خير “لسنا على بيّنة من طريقة التعاطي معهم، إلّا أننا نعتقد وجوب عودة كل راكب إلى المكان الذي انطلق منه”.
وحول وضع الجثث، والحاجة إلى إجراء الفحوص العلمية من أجل كشف هويتها، يجيب خير “من يتمكّن أهله من التعرّف عليه، سيعود تلقائياً إلى لبنان، أما الفئة الأخرى فستعود عند التحقق منها”.
توقيف المهرّب … لا يكفي
في موازاة ذلك، أعلنت قيادة الجيش اللبناني عن قيام مديرية المخابرات بتوقيف المواطن (ب.د.) للاشتباه في تورّطه بتهريب مهاجرين بشكل غير نظامي عبر البحر. وقد ثبت نتيجة التحقيقات تورّطه بإدارة شبكة تنشط في تهريب مهاجرين بطريقة غير نظامية عبر البحر، وذلك انطلاقاً من الشاطئ اللبناني الممتد من العريضة حتى المنية. وأوضح البيان أنّ التحقيق مع الموقوف مستمر ومتابعة الشبكة لتوقيف أفرادها بإشراف القضاء المختص.
من جهته، يعلّق أبو عمر (والد أحد الشبان المفقودين) أنه “لا يكفي توقيف بلال (المهرب)، وإنما يجب تفكيك الشبكة التي يديرها، وتوقيف السماسرة الذين ينشطون داخل مخيم البارد وخارجه من أجل إقناع الناس بالسفر، حيث “يتقاضون عمولة بين ألف وألفي دولار عن كل رأس”. ويخشى من إطلاق سراحه لقاء كفالة في وقت لاحق لأنّه “مدعوم ولديه علاقات”، فيما عشرات الشبان قضوا نحبهم، قائلاً “كان يقنع الشبان بأن الرحلة لا يمكن توقيفها بسبب تعامل مع أشخاص من داخل الدولة”. هذا الكلام يلتقي مع حديث رئيس بلدية القرقف الشيخ يحيى الرفاعي الذي يطالب بمتابعة الموضوع إلى النهاية، ومعاقبة كل من ساهم فيما يصفه بـ “الإبادة في حق أبنائنا، ومعاقبة تجار البشر وأعوانهم من الأمنيين الذين يتقاضون ثمن الطريق” أي يحصلون على مبالغ مالية مقابل عدم اعتراض القارب وتركه يغادر المياه الإقليمية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.