في المؤتمر المنعقد في 20-12-2013، عرض الزميل علاء مروة عن بعثرة السلطة التنفيذية الحاصلة بنتيجة استقالة الحكومة. ما حصل بشأن المقررات الأمنية في طرابلس يشكل وجها جديدا من وجوه بعثرة السلطة. نجيب فرحات يدرس هنا مصدرها ومدى مشروعيتها ويخلص الى نتائج تضعها المفكرة في دائرة النقاش (المحرر).
إثر اندلاع الجولة الثامنة عشرة من الاشتباكات العسكرية المتكرّرة في محاور مدينة طرابلس، وجنوح الوضع الأمني في تلك المنطقة إلى مستوى خطير يهدد السلم الأهلي في لبنان برمّته، عقد اجتماع امني بتاريخ 2/12/2013 في قصر بعبدا، برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وحضور كل من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جان قهوجي، وذلك بغية إيجاد حلّ رادع ونهائي لهذا الوضع المأزوم. وقد تمخّض عن هذا الاجتماع قرار هام ساهم في تهدئة الوضع الأمني على هذا الصعيد، وقد أعلن رئيس الحكومة مضمون هذا القرار الذي تمثّل: "بتكليف الجيش اتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ تعليمات حفظ الأمن في طرابلس لمدة ستة أشهر ووضع القوى العسكرية والقوى السيارة بإمرته بالإضافة الى تنفيذ الاستنابات القضائية التي صدرت والتي ستصدر". وقد سارع رئيس الحكومة للتوضيح بان هذا القرار لا يعني إعلان طرابلس منطقة عسكرية، وهو ما أشار إليه، بدوره، الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع اللواء محمد خير، الذي أكد أن القرار لا يستند إطلاقا الى المادة 4 من قانون الدفاع التي تجيز إعلان حالة الطوارئ العسكرية، أو ما اصطلح عليه تعبير «المنطقة العسكرية» لأن تطبيق هذه المادة يحتاج الى موافقة مجلس الوزراء، موضحاً أن الرئيس ميقاتي لم يوافق على هذا الأمر، عندما طرح في اجتماع بعبدا، وأصر على تكليف الجيش بحفظ الأمن فقط.
ومن هنا يقتضي التساؤل هل أن القرار المتخذ لا يستند فعلاً إلى المادة 4 من قانون الدفاع الوطني؟ وعلامَ تنص تلك المادة؟ وهل أن القرار المتخذ يجد له سنداً معيّناً في أحكام القانون؟ وما هو هذا السند في حال وجوده؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه أدناه:
أ- في عرض نص المادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني:
من الثابت أن المادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16/9/1983 وتعديلاته قد نصّت على أنه: «إذا تعرضت الدولة في منطقة أو عدة مناطق لأعمال ضارة بسلامتها أو مصالحها، يكلف الجيش بالمحافظة على الأمن في هذه المنطقة أو المناطق وفقا للأحكام التالية:
1-يتم التكليف بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية ووزير الدفاع الوطني، ويكون لمدة محددة تمدد عند الاقتضاء بالطريقة ذاتها.
2-فور صدور المرسوم المشار إليه في البند 1 أعلاه يتولى الجيش صلاحية المحافظة على الأمن وحماية الدولة ضد أي عمل ضار بسلامتها أو مصالحها. وتوضع جميع القوى المسلحة التي تقوم بمهماتها وفقا لقوانينها وأنظمتها الخاصة تحت إمرة قائد الجيش بمعاونة المجلس العسكري وبإشراف المجلس الأعلى للدفاع.
يقصد بالقوى المسلحة لتطبيق أحكام هذا البند: الجيش، قوى الأمن الداخلي، الأمن العام، وسائر العاملين في القطاع العام الذين يحملون السلاح بحكم وظيفتهم.
3- لقائد الجيش أن يتخذ جميع التدابير التي تؤول الى الحفاظ على الأمن ولا سيما:
– تفتيش الأبنية وسائر الأمكنة في أي وقت كان بعد موافقة النيابة العامة المختصة.
– مراقبة الموانئ والسفن في المياه الإقليمية.
– مراقبة دخول الأجانب الى لبنان والخروج منه.
– منع الاجتماعات العامة غير المرخص بها أو ذات الطابع العسكري.
– ملاحقة المخلين بالأمن وإحالتهم على القضاء خلال خمسة أيام من تاريخ توقيفهم.
– مكافحة التهريب.
4- تحال على المحاكم العسكرية جميع الأعمال المخلة بالأمن بما في ذلك مخالفة التدابير المتخذة في إطار الفقرة 3 أعلاه.
ومن المعلوم أن الحالة المنصوص عنها أعلاه تختلف اختلافاً واضحاً عن إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية التي تنصّ عليها المادة الثالثة من المرسوم الاشتراعي نفسه والتي تحيل إلى المرسوم الاشتراعي رقم 52 تاريخ 5/8/1967 بحيث تفترض إعلانها بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بأغلبية الثلثين وموافقة مجلس النواب عليها خلال ثمانية أيام وإن لم يكن في دور انعقاد، والتي تمنح السلطات العسكرية صلاحيات أوسع، كمصادرة الأشخاص والحيوانات والأشياء والممتلكات، وتحري المنازل في الليل والنهار دون إذن من النيابة العامة، وإعطاء الأوامر بتسليم الأسلحة والذخائر والتفتيش عنها ومصادرتها، وفرض الغرامات الإجمالية والجماعية، وتحديد الأقاليم الدفاعية وأقاليم الحيطة التي تصبح الإقامة فيها خاضعة لنظام معين، وفرض الإقامة الجبرية، وإقفال قاعات السينما والمسارح والملاهي وأماكن التجمع ومنع التجول وفرض الرقابة على النشرات والصحف، وتطبيق قواعد الأعمال الحربية….. الخ.
وعليه، فإن نطاق بحثنا في حالة القرار المتخذ بشأن طرابلس سينحصر وتبعاً لما تقدّم بالمادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني التي تتحدّث عن تكليف الجيش بحفظ الأمن والتي صار تبيانها أعلاه.
ب-في مدى قانونية القرارات المتّخذة في اجتماع بعبدا على ضوء المادة 4 من قانون الدفاع الوطني المعروضة أعلاه:
مما لا شك فيه، أن المادة 4 من قانون الدفاع الوطني، تتطلّب لإعمالها وبحسب صراحة النص مرسوماً متّخذاً في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزيري الداخلية والبلديات والدفاع الوطني، وهو الأمر الذي لم يحصل في حالتنا الراهنة والتي اتخذ فيها القرار على مستوى اجتماع ثلاثي بين رئيسي الجمهورية والحكومة وقائد الجيش، وذلك على الرغم من الشبه الوطيد بين القرار المتّخذ وبعض التدابير البارزة في المادة 4 من قانون الدفاع الوطني، وهذا ما دفع أمين عام المجلس الأعلى للدفاع إلى نفي أي علاقة بين القرار المتخذ والمادة 4 من قانون الدفاع الوطني.
ولكن، تبرز في هذا المجال، إشكالية تستوجب التدقيق إذ نجد أنفسنا أمام قرار شبيه بتدابير المادة 4 من قانون الدفاع الوطني، إنما لا يجرؤ متخذوه على إسناده لتلك المادة كونه لم يراعِ أحد الشروط الجوهرية الواردة فيها ألا وهي موافقة مجلس الوزراء ما يجعله باطلاً من حيث المبدأ فيما لو استند إلى تلك المادة هذا من جهة، ومن جهة أخرى تبرز إشكالية التساؤل عن السند القانوني الحقيقي لهذا القرار إذ أن غياب السند القانوني لا يقل أهمية عن اتخاذ القرار دون مراعاة المعاملات الجوهرية المفروضة لاتخاذه لا بل يبدو أشد وطأة وأهمية إذ من شأن هذا الغياب في حال تحقّقه أن يجعل القرار المتخذ عديم الوجود.
ومن هذا المنطلق، يجدر التعريج على الظروف التي لازمت اتخاذ القرار المنوّه عنه بغية الانطلاق منها للبحث عن سند قانوني ما، في الفقه والاجتهاد، يعالج هكذا حالة. فمن الثابت، أن القرار المنوّه عنه قد اتخذ بنتيجة الظروف الأمنية الضاغطة في مدينة طرابلس مع ما لازمها من تسارع فيما بين جولات الاشتباك العسكرية على المحاور المعروفة، ما هدّد السلم الأهلي في لبنان برمّته وأنذر باندلاع حرب أهلية قد تمتد إلى مختلف المناطق اللبنانية، وكل ذلك مع وجود حكومة مستقيلة ذات صلاحيات محدودة ولا تملك المقدرة على الاجتماع لأسباب عديدة، ما فرض إيجاد حلّ سريع وخاطف لما يجري في طرابلس.
ومن المعلوم، أن القانون بشكل عام، لا يمكن أن يتّصف بالجمود إزاء التطورات المستجدّة على أرض الواقع، إذ لا يفضّل النص على المصلحة العليا التي تعني كيان الدولة برمّته، وانطلاقاً من ذلك فقد ابتكر العلم والاجتهاد الإداريان حلّا ناجعاً للظروف غير العادية التي يتعذّر فيها التطبيق الحرفي للنص القانوني بهدف مواجهة تلك الظروف. وهو ما عُرف بنظريّة "الظروف الاستثنائية".
فمن المعروف أن نظرية الظروف الاستثنائية Les circonstances Exceptionnellesهي نظرية اجتهادية من صنع القضاء الإداري الفرنسي، الذي أرساها لأوّل مرّة في قراره الصادر سنة 1918. وقد اعتبر القرار المذكور أن هناك بعض التدابير الإدارية الخارقة للقوانين العادية وغير الشرعية في الظروف العادية، تصبح شرعية في بعض الظروف نظراً لضرورتها لتأمين الانتظام العام وحسن سير المرافق العامة، بحيث فرض شروطاً أربعة لإعمال هذه النظرية([1]) ألا وهي:
1- وجود ظرف استثنائي: أي وجود حالة واقعية خطرة وغير عاديّة، تشكّل السبب الأساسي لقيام حالة الظروف الاستثنائية.
2- صعوبة مواجهة الظروف الاستثنائية بالوسائل العادية أي تبعاً لقواعد المشروعية العادية.
3-تناسب الإجراء المتخذ مع حجم الهدف المطلوب تحقيقه: أي أن تصرّف الإدارة يجب أن يكون محكوماً بالقدر الذي يمليه الظرف، إذ أن الضرورة تقدّر بقدرها، فلا يمكن التضحية بمصالح الأفراد في سبيل تحقيق المصلحة العامة إلا بقدر ما تمليه الضرورة.
4- انتهاء سلطة الإدارة الاستثنائية بانتهاء الظرف الاستثنائي.
وقد تبنى المجلس الدستوري اللبناني، في غير قرار سابق له هذه النظرية، إذ اعتبر: «أنه في الظروف الإستثنائية، الناجمة عن حدوث أمور غير متوقّعة، تتولد شرعية استثنائية يجوز فيها للمشترع، ضمن حدود معيّنة، أن يخرج عن الدستور والمبادئ الدستورية أو القواعد ذات القيمة الدستورية، وذلك حفاظاً على الإنتظام العام، واستمرارية عمل المرافق العامة وصوناً لمصالح البلاد العليا، وأن الاستثناء يتطلب ما يبرّره وينبغي أن يبقى في إطار محصور»[2].
كما اجمع الفقه والاجتهاد الإداريين في لبنان على الأخذ بهذه النظرية.
وبالعودة إلى القرار المتّخذ في الاجتماع الأمني المنعقد في قصر بعبدا يتبدّى، ولا شك، أن هناك ظرفاً داهماً وحالة واقعية غير عاديّة كانت تتهدّد كيان الدولة ومصلحتها العليا تمثّلت بالاشتباكات الأمنية في طرابلس التي تكرّرت في أوقات متقاربة ما جعل من الضروري والمحتّم اتخاذ قرار معيّن لمجابهة هذه الأخطار يكون على قدر التحديات ومختلفاً عن القرارات السابقة التي تم اتخاذها والتي لم تقترن بأية نتيجة فعلية، ما يجعل الشرط الأول من شروط نظريّة الظروف الاستثنائية متحقّقاً.
أما لناحية شرط صعوبة مواجهة الظرف الداهم بوسائل المشروعية العادية، يتبدّى لنا أن مجلس الوزراء الذي أنيطت به أساساً مهمة مجابهة هكذا ظروف، هو بحكم المستقيل وقد انحصرت أعماله في الفترة الماضية في أضيق الحدود ،ولم يجتمع في أي من جولات الاشتباك السابقة، ولم يكن من المتوقّع اجتماعه أو حتى إمكانية تحقق نصابه القانوني في تلك الفترة ،مع الأخذ بالاعتبار مع ما للسرعة من دور في معالجة الاضطرابات الأمنية الخطيرة، وقد اعتبر القضاء الإداري أنه في الحالة التي تنشأ فيها ظروف استثنائية تجعل من المتعذّر انتظار اجتماع الهيئة صاحبة الاختصاص، فإنه يتوجب في هذه الحالة على السلطة الإدارية اتخاذ التدابير اللازمة لتلافي المحاذير الناجمة عن تلك الظروف حتى ولو تجاوزت قواعد الاختصاص، وحتى ولو أقدمت على إصدار تشريع يعود أمر إصداره طبيعياً إلى السلطة التشريعية[3].
وبذلك يتبيّن أن الشرط الثاني من شروط نظرية الظروف الاستثنائية قد تحقّق في حالتنا الراهنة.
أما لناحية الشرط الثالث، وهو الأهم، أي شرط التناسب، فيتبدّى من القرار المتخّذ انه انتقى إجراءين اثنين فقط من الإجراءات الضرورية الواردة في المادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني، وهي تكليف الجيش بصلاحية المحافظة على الأمن ووضع جميع القوى المسلحة تحت إمرته، وملاحقة المخلّين بالأمن عبر تنفيذ الاستنابات القضائية التي صدرت والتي ستصدرعن النيابات العامة المختصّة بحقهم، فيما استبعدت بقية الإجراءات الواردة في المادة الرابعة المذكورة، والتي ليس لها شأن في مواجهة الظرف الإستثنائي، ما يعني أن شرط التناسب قد غدا متحققاً بدوره.
أما لناحية شرط انتهاء سلطة الإدارة الاستثنائية بانتهاء الظرف الاستثنائي مصدر الخطر، فإن هذا الشرط قد روعي بدوره من خلال المدة الزمنية التي حُدّدت لسريان القرار المتّخذ والبالغة ستة أشهر والتي تعدّ من حيث المبدأ مدّة معقولة لمواجهة الظرف المذكور، والذي بقي يتجدّد على مدى سنوات خلت، هذا مع عدم الإخلال بوجوب إعادة النظر في تلك المدّة على ضوء مدى تحسّن الوضع الأمني إذ اقتضى ذلك.
وفي النهاية، يتبدّى أن القرار المتّخذ في الاجتماع الأمني في قصر بعبدا بتاريخ 2/12/2013، ما هو إلا تطبيق عملي لنظرية الظروف الاستثنائية، وهو يستند إلى حدّ بعيد على نص المادة الرابعة من قانون الدفاع الوطني، ويبقى خاضعاً في كل حال لرقابة القضاء الإداري الواسعة المقابلة لتوسّع صلاحية الإدارة في هذا المجال، ومع الأخذ بالاعتبار وجوب عرض القرار المتخذ على مجلس الوزراء فور تمكّنه من الاجتماع ليقرر ما يلزم بشأنه.
[1]))يراجع في هذا المجال:د.فوزت فرحات،القانون الإداري العام،الكتاب الأول(التنظيم الاداري-والنشاط الإداري)،الطبعة الأولى،2004،ص:160 وما يليها.
[2]-يراجع:قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم 1/97 تاريخ 21/7/1997،المراجعة المتعلقة بالقانون رقم 654 الصادر بتاريخ 24/7/1997 الرامي إلى تمديد ولاية المجالس البلدية واللجان القائمة بأعمال المجالس البلدية حتى تاريخ 30/4/1999.
وقراره رقم رقم 2/97 تاريخ 21/7/1997،المراجعة المتعلقة بالقانون رقم 655 الصادر بتاريخ 24/7/1997 الرامي إلى تمديد ولاية المختارين والمجالس الإختيارية حتى تاريخ 30/4/1999.
وقراره رقم 2/2012 تاريخ 17/12/2012،المراجعة المتعلّقة بالقانون رقم 244الصادر بتاريخ 13/11/2012 الرامي إلى ترقية مفتشين في المديرية العامة للأمن العام من حملة الإجازة اللبنانية في الحقوق الى رتبة ملازم أول.
[3]– مجلس شورى الدولة، قرار رقم 175/92-93 تاريخ 7/4/1993،فارس شبلي/الجامعة اللبنانية.