في 4-8-2019، نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الجمهورية رقم 380 لسنة 2019 بشأن إعادة تخصيص 47 جزيرة ناحية محافظة البحر الأحمر لصالح القوات المسلحة، باعتبارها أراضٍ استراتيجية ذات أهمية عسكرية[1]. وكما هو متوقع، أثار هذا القرار مجدداً الجدل حول سيطرة المؤسسة العسكرية على غالبية الأراضي غير المأهولة، بالإضافة إلى تمدّد النشاط الاقتصادي للقوات المسلحة في مختلف المجالات[2]. فعلى الرغم من أن الهدف الأساسي والمُعلن من إصدار هذا القرار هو الأهمية العسكرية لتلك الجزر من الناحية الأمنية، إلا أن نصوص القرار أتاحت استغلال معظم تلك الجزر للأغراض السياحية وأغراض الغوص[3]. ذلك التباين بين الغرض المُفترض من القرار وما تضمنه القرار نفسه من إباحة أنشطة أخرى أثار العديد من الشكوك حول مدى مشروعيته، وذلك عن طريق استخدام مبرر “الأهمية الاستراتيجية” للجزر فقط كذريعة من أجل السيطرة عليها والانتفاع من حاصل إيراداتها.
من ناحية أخرى، تعتبر تلك الجزر الواقعة في البحر الأحمر والتي شملها قرار التخصيص محميات طبيعية بموجب قرارات سابقة لمجلس رئاسة الوزراء[4]، وبالتالي تخضع للحماية المقررة بقانون المحميات الطبيعية[5]. وهو ما تجاهله القرار وتعامل مع تلك الجزر على أنها من “الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة”[6] وهو الأمر غير الصحيح؛ كما سنوضح. كما نتطرق في هذا المقال إلى إشكالية تصرف الدولة في أملاكها والإجراءات الواجب إتباعها لنقل هذه الأملاك من الملكية العامة للدولة إلى ملكيتها الخاصة.
الوضع القانوني للجزر التي شملها قرار إعادة التخصيص
في البداية وقبل التعرض إلى قانونية القرار محل النقاش، من الضروري الالتفات إلى ماهية تلك الجزر ومدى أهميتها السياحية والاقتصادية. تضمن قرار التخصيص إحدى أشهر الجزر السياحية في محافظة البحر الأحمر، والتي عادة ما يقصدها آلاف المصريين في رحلاتهم الصيفية ويعرفونها معرفة جيدة، وهي جزيرة الجفتون[7]، والتي تُعد من أشهر المحميات الطبيعية[8]. كما أن باقي الجزر التي تضمنها قرار التخصيص تُعد كذلك من المحميات الطبيعية وفقاً للقرار رقم 1618 لسنة 2006 الصادر من مجلس الوزراء[9]، بالإضافة إلى القرار رقم 642 لسنة 1995 المتعلق بإنشاء محميات طبيعية في منطقة علبة بمحافظة البحر الأحمر[10].
وبالتالي وفقًا لهذه القرارات، أصبحت تلك الجزر تتمتع بحماية خاصة، ووضع قانوني منفرد، دوناً عن غيرها من الجزر وفقًا لأحكام قانون المحميات الطبيعية. ذلك القانون الذي نص في مادته الثانية على أنه “يحظر القيام بأعمال أو تصرفات أو أنشطة أو إجراءات من شأنها تدمير أو إتلاف أو تدهور البيئة الطبيعية، أو الإضرار بالحياة البرية أو البحرية أو النباتية أو المساس بمستواها الجمالي بمنطقة المحمية”. كما اشترط في مادته الثالثة استصدار “قرار من الوزير المختص – (رئيس مجلس الوزراء) – بناءً على اقتراح جهاز شئون البيئة بمجلس الوزراء” لممارسة أي نشاط أو أعمال داخل المحمية.
المحميات الطبيعية أملاك عامة وليست أملاكا خاصة
تعتبر المحميات الطبيعية من الموارد الطبيعية للدولة التي أولى لها المشرع الدستوري عناية خاصة، حيث نص الدستور المصري على أن “تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدي عليها، أو تلويثها، أو استخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول”[11]. كما أقرّ أن “موارد الدولة الطبيعية ملك للشعب، وتلتزم الدولة بالحفاظ عليها، وحُسن استغلالها، وعدم استنزافها، ومراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها”[12]. وبالتالي، تقع المحميات الطبيعية في إطار المال العام للدولة التي تلتزم برعايته، وعدم التصرف فيه.
كما أنه بالعودة إلى المبادئ الأساسية التي تضمنها القانون المدني للتفرقة بين ماهية المال العام وأموال الدولة الخاصة، نجد أن المادة (87) قد اعتبرت أموالاً عامة كلاً من “العقارات والمنقولات التي للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو مرسوم أو قرار من الوزير المختص”. وهو ما ينطبق على وضع تلك الجزر محل القرار التي أصبحت محميات طبيعية بموجب قرارات من رئيس مجلس الوزراء وبناء على اقتراح جهاز شؤون البيئة. كما نصت المادة (88) من القانون نفسه على أن انتهاء التخصيص المقرر للمنفعة العامة هو شرط أساسي حتى تزول صفة المال العام من على العقار أو المنقول، على أن يتم ذلك أيضًا بمقتضى قانون أو مرسوم أو قرار من الوزير المختص. مما يعني أنه حتى تزول صفة المال العام عن تلك الجزر (المحميات الطبيعية)، فإنه كان يجب على رئيس الوزراء إصدار قرار جديد يتضمن خروج تلك المناطق من لائحة المحميات الطبيعية على أن يتضمن ذلك القرار الأسباب التي أدت إلى استصداره. وتعتبر تلك التفرقة بين أموال الدولة العامة وأملاكها الخاصة هي العامل الحاسم قبل الشروع في إجراء أي تصرف يخص تلك الأموال. فسلطة الدولة على المال العام هي سلطة إدارة، أو أقرب إلى الأمانة والرعاية، وليست سلطة تصرف واستغلال؛ بينما سلطتها على أملاكها الخاصة، تشمل الانتفاع والاستثمار والاستغلال.
من ناحية أخرى، تنقسم الأموال العامة إلى تقسيمات عديدة، من بينها أموال عامة (طبيعية) وهي الأموال الموجودة بطبيعتها دون تدخل الإنسان كشواطئ البحار والأنهار والبحيرات والمحميات الطبيعية. وأموال عامة (حكمية أو صناعية) وهي الأموال التي أوجدتها يد الإنسان كالطرق والشوارع. وتبرز أهمية هذا التقسيم في أثره الخاص بزوال صفة الملكية العامة. فالأملاك العامة الطبيعية كشواطئ البحار والأنهار لا تزول عنها صفتها العامة إلا بأسباب طبيعية أيضًا كتحول النهر مثلا عن مجراه الأصلي، أو باختفاء المظاهر الطبيعية النادرة من المحمية الطبيعية، لأن وجه النفع العام عالق بها بموجب طبيعتها اللصيقة بها[13]. وبالتالي، وفقاً لهذا التقسيم الذي ينتهجه القضاء والفقه المصري منذ عقود[14]، فإن الجزر الواردة بقرار إعادة التخصيص والتي تحمل صفة (المحميات الطبيعية) لم تزل ولن تزول عنها صفة المال العام طالما حافظت على خصائصها البيئية المتميزة. وعليه فلا يمكن نقلها من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة للدولة بأي حال من الأحوال. ذلك الأمر الذي يجعلنا نجزم بمخالفة القرار للقانون حيث أنه تعامل مع تلك الجزر على أنها من أملاك الدولة الخاصة وهو الأمر غير الصحيح، كما أوضحنا.
تخصيص الأراضي والجزر كأراضٍ إستراتيجية ذات أهمية عسكرية
قرار التخصيص الصادر من رئيس الجمهورية باعتبار تلك الجزر الواقعة في البحر الأحمر أراضي إستراتيجية ذات أهمية عسكرية ليس الأول من نوعه على الإطلاق. فقد دأبت رئاسة الجمهورية على إصدار مثل تلك القرارات من حين لآخر. ولكن اللافت للنظر أن وتيرة إصدار قرارات تخصيص الأراضي للقوات المسلحة قد ازدادت بشكل ملحوظ منذ عام 2013[15]. من ناحية أخرى، جرت العادة أن تصدر تلك القرارات غير مُسببة، حيث يكتفى القرار بكون الأراضي “ذات أهمية عسكرية” وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى شفافية إصدار مثل القرارات خاصة كون معظم الأراضي التي يتم تخصيصها تتميز بالجغرافيا المتميزة التي قد تجعل من استغلالها مناطق جذب سياحي واقتصادي.
فعلى سبيل المثال، في اليوم نفسه الذي نشرت فيه الجريدة الرسمية القرار رقم 380 لسنة 2019 الخاص بجزر البحر الأحمر، تضمن العدد ذاته قرارين آخرين يتضمنان إعادة تخصيص أراضٍ أخرى لصالح القوات المسلحة أيضًا كونها ذات أهمية عسكرية. أحد تلك القرارات تضمن إعادة تخصيص ما يقرب من مليون فدان من الأراضي الواقعة بمحور شرق القناة – شرم الشيخ- لصالح القوات المسلحة، وهي المنطقة التي من المتوقع أن يتم استثمارها في مجال الشحن البحري نظرًا لموقعها المتميز على طول ساحل خليج السويس[16]. بينما تضمن القرار الآخر إعادة تخصيص حوالي 200 ألف فدان من الأراضي الشاطئية بمناطق الزعفرانة وخليج جمشة بمحافظة جنوب سيناء، أيضًا لاعتبارها ذات أهمية عسكرية[17].
وهنا يجب الإشارة إلى أن الرقابة القضائية على هذه القرارات تكاد تكون مستحيلة؛ حيث تشترط محاكم القضاء الإداري توافر شرط المصلحة الشخصية للطاعنين على تلك القرارات. ذلك الأمر الذي ظهر جليًا في إحدى الدعاوى التي طالبت بإلغاء قرار تخصيص جزيرة القرصاية الواقعة في مجرى نهر النيل بمحافظة الجيزة لصالح القوات المسلحة؛ حيث انتهت المحكمة لعدم قبول الدعوى لانتفاء شرط المصلحة[18].
خاتمة
إن نقل ملكية العقارات والمنقولات المملوكة للدولة من المال العام إلى أملاك الدولة الخاص لم يكن أبدًا إحدى الإشكاليات التي تُطرح على الساحة القانونية للنقاش، نظرًا لرسوخ مبادئ القانون المدني التي تنظم الأمر. ولكن في ظل حالة إخفاء المعلومات، وتجاهل مبادئ القانون ونصوصه من قبل الدولة، كما في حالة القرار محل النقاش، يجب إعادة التذكير بتلك الثوابت وتسليط الضوء عليها.
وإذا افترضنا، أن تلك الأراضي مملوكة للدولة ملكية خاصة، فيجب أن يكون هناك ما يبرر قرار التخصيص إلى إحدى الجهات الإدارية، وليس السبب الوهمي الجاهز دائمًا، أي الأهمية العسكرية.
ما نشهده الآن من التوسع في تقنين سيطرة القوات المسلحة على كافة الأراضي غير المأهولة في مصر ليس إلا حلقة من ضمن إجراءات عديدة تتخذها المؤسسة العسكرية من أجل فرض سيطرتها الاقتصادية والاستثمارية على خريطة الثروة في مصر.
لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:
Militarizing Red Sea Islands: The Limits of Disposing of Public Assets
________________
[1] قرار جمهوري بإعادة تخصيص 47 جزيرة لمصلحة القوات المسلحة – موقع جريدة التحرير – 7 أغسطس 2019.
[2] إمبراطورية الجيش الاقتصادية: دعم السلطة الحاكمة يهدد نفوذ القطاع الخاص – موقع مدى مصر – 24 ديسمبر 2014.
[3] راجع الجدول المرفق بالقرار والذي يتضمن بيان كل جزيرة.
[4] قرارات مجلس الوزراء أرقام 642 لسنة 1995 بخصوص إنشاء محميات طبيعية في منطقة علبة بمحافظة البحر الأحمر و1618 لسنة 2006 بشأن محميات طبيعية في الجزر الشمالية للبحر الأحمر. راجع أيضًا الموقع الرسمي لوزارة البيئة.
[5] قانون رقم 102 لسنة 1983.
[6] المادة الأولي من نص قرار التخصيص رقم 380 لسنة 2019 الصادر حديثًا.
[7] الموقع الرسمي لجزيرة الجفتون – والذي من خلاله يمكن التعرف على الطبيعة الساحرة لتلك الجزيرة، وطبيعة الأنشطة التي تقام عليها.
[8] تعتبر جزيرتي الجفتون الكبرى والصغرى محميات طبيعية بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 642 لسنة 1995.
[9]طبقا لهذا القرار، تم إدراج منطقة الجزر الشمالية للبحر الأحمر كمحميات طبيعية، وشمل الجزر الآتية:(غانم – الإشرافي 3 جزر – قيسوم الشمالية – قيسوم الجنوبية – أم الحبعات الكبير – أم الحميات الصغير – شعاب جويال – جويال الصغرى – أم البيسان – طوال – دهار قيسوم الحمراء – سيول الكبرى – سيول الصغرى – أم قمر – الفنادير – الميتين 3 جزر).
[10] شمل هذا القرار الجزر الأتية: (جزيرة جفتون الكبير – جزيرة جفتون الصغير – جزيرة أبو رماني – جزيرة أبو منقار – جزيرة أم جاويش 2 جزيرة- جزيرة سهل حشيش جزيرة سعدان – جزيرة أم الجرسان – جزيرة توبيا – جزيرة سفاجا – جزيرة وادي الجمال – جزيرة قلقعان – جزيرة سيول – جزيرة شواريت – (جزيرة محابيس) – جزيرة مكوع – جزيرة مريار – (جزر سيال 3 جزر) – جزيرتا روابيل – جزيرة الدبيا – جزيرة كولالا – جزيرة حلايب الكبيرة – جزر الأخرين – جزيرة أبو الكيزان شعب دايدالوس – جزيرة الزبرجد).
[11] مادة (45) من دستور 2014.
[12] مادة (32) من دستور 2014.
[13]المبادئ التي قررتها الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع – فتوى رقم 161 لسنة 1998 – بتاريخ 16 فبراير 1998.
[14] راجع/ عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، المجلد الثامن: حق الملكية، الفرع الأول: تقسيم الأشياء المادية إلى عقار ومنقول. ص 11-49.
[15] يمكن ملاحظة ازدياد قرارات التخصيص بمطالعة أعداد الجريدة الرسمية الصادرة بعد 2013 ومقارنتها بما قبلها.
[16] قرار رئيس الجمهورية رقم 379 لسنة 2019 – 4 أغسطس 2019.
[17] قرار رئيس الجمهورية رقم 378 لسنة 2019 – 4 أغسطس 2019.
[18]محكمة القضاء الإداري- الدعوى رقم 21604 لسنة 76 قضائية – جلسة 17 مارس 2015.