يُدرَج مفهوم الفساد عادة ضمن لائحة المفاهيم “العائمة” التي يَصعب المسك بكل أبعادها من دون التورّط في القَولَبة الأحاديّة المنقوصة.[1] ولكن آثاره في إدارة الدول والحياة الباطنية لملايين الناس عبر العالم -خصوصا في البلدان الفقيرة- تَبدو مَحسوسة ومرئيّة، وتُراكِم اختلالات بنيوية في توزيع الموارد والنفاذ إلى الخدمات العامة، وينمو معها الشعور العامّ باللاعدالة والعجز والهَامشيّة. وفي السنوات الأخيرة التي تلتْ موجة الثورات العربية، تبنّت العديد من الخطابات السياسية المحلية والدولية شعار “مكافحة الفساد” واعتبرته بعضها أداة مُثلى لإصلاح أنظمة الحكم وبناء “الديمقراطيات الجديدة” عبر إدخال أشكال جديدة من الرقابة والشفافية لم تكن متوفّرة في أزمنة الاستبداد. ولكن هذا الشعار الناصع كان يحمل في طبيعته العائمة قابلية لاستخدامات سياسية وإيديولوجية شتّى، وفي الوقت نفسه شكّل في نظر شرائح اجتماعية واسعة وعدًا بالتغيير وتفكيك مظاهر الزّبونية وعلاقات القَرابة والولاء ومنظومات الرّيوع والامتيازات. ويَعرِض النّموذج التونسي ما بعد الثوري صورة مفيدة عن كل هذه الاستخدامات والوعود والانتظارات العادلة.
طيلَة التاريخ التونسي المُعَاصر، شكّل الفساد -بمعنى احتكار الموارد والامتيازات من قبل السلطة السياسية وحواشيها- أحد العناصر التكوينية لبنية نظام الحكم، وأثّر في إعادة إنتاج العلاقة بين المجتمع والدولة، من خلال خلق علاقات توافق تؤدّي إلى تعميم مظاهر الفساد كنماذج مقبولة اجتماعيّا ومستَساغَة، وهذه الظاهرة يُطلق عليها اليوم “الفساد الصغير”. بالمقابل، دفع رفض الفساد من قبل فئات اجتماعية تشعر بوطأته على مصالحها حالة من الانقطاع بينها وبين الدولة، حالة تمّ التعبير عنها من خلال الانتفاضات والتمردات الاجتماعية منذ ثورة علي بن غذاهم عام 1864، وصولا إلى ثورة 2011. وما زال الفساد يشكل حتى اليوم إحدى كبريات الظواهر المُحدّدة في صياغة مضامين الخِطاب العام، خاصة بعد الانقلاب الدستوري في 25 جويلية. ولكن تبدو الصورة مقلوبة هذه المرة، حيث تقِف السلطة السياسية -على مستوى الخطاب- كنصير وفاعل في محاربة الفساد وليست مُدَانَة به، بمعنى آخر لم يعد الفساد إحدى الحجج الكبرى للطعن في شرعية السلطة القائمة، وإنما تحوّلَ إلى أداة تجديد شرعيتها. هذا التحوّل السياسي يُعطي انطباعا أوّليا بأن ثمّة تحوّلا غير مسبوق في مكافحة الفساد في تونس، بخاصّة في ظلّ المسرحة السياسية التي يعتمدها الرئيس سعيد في هذا الملف[2]. ولكن الوقائع الحية تشير إلى أن هناك جانبا قويا ومتجذّرا لا ينظَرُ إليه في معظم خطابات الحرب على الفساد: هذا الجانب يُشكّل الحاضنة البنيوية الدائمة التي يتغذّى داخلها الفساد ويُحافظ على قوّته التخريبية للاقتصاد والمجتمع.
فسَاد تحت رعاية اقتصاد السوق
كانت ثورة 2011 استفاقة مُدهِشة على حجم شبكات الفساد وتعدّد أساليبها واختصاصاتها بإشراف من العائلة الحاكمة السابقة (عائلة الرئيس بن علي وأصهاره). طيلة ربع قرن من حكم نظام بن علي تحوّلَ الفساد إلى حالة مُمأسسَة مُندمِجة ضمن البنية الاقتصادية السّائدة التي تُهيكلها سياسات “الانفتاح الاقتصادي”.[3] لذلك جاءت معظم مظاهر الفساد كإنتاج طبيعي لآثار الحُكم العائِلي في سياق اقتصاد السوق، ومَا يمنحه من فرص للتلاعب بالقوانين والمؤسسات والتأثير في القرارات الاقتصادية والسياسية والإدارية، من أجل توجيهها نحو خِدمة الأقلية الحاكمة وشبكة الولاء والامتيازات المُحيطة بها. ومن الأمثلة الكبرى على ذلك استفادة حُكم العائلة من سياسات الخوصصة وتحرير بعض القطاعات الاقتصادية في عقد التسعينات. إذ أنه تحت غطاء تحرير القطاع الفلاحي، تمّ التفويت في أراضٍ دوليّة لفائدة مستثمرين خواصّ مُقرّبين من النظام الحاكم عبر عقود كراء رمزية لا تَتَناسب مع القيمة الإنتاجية الحقيقة لتلك الأراضي، أو تحويل صبغة البعض منها من أراضي ملك دولة إلى أملاك خاصّة. وتحت غطاء إعادة هيكلة المنشآت العمومية والتخفيف من أعبائها على ميزانية الدولة، جرَى التفريط في العديد منها لأصهار الرئيس والمقربين منه بأسعار لا تتناسب مع قيمتها ودون سياسة واضحة لإعادة إدماجها في الاقتصاد الوطني. هذا إضافة إلى استفادة النظام وقاعدته الاقتصادية من رُخص التوريد والتصدير والعلامات التجارية العالمية.[4]
على المستوى الاقتصادي، تغذّى الفساد من جرعات اللبرلَة الاقتصادية الجديدة التي أدخَلَها نظام بن علي على الاقتصاد، والتي تَندرج ضمن مسار “انفتاح اقتصادي” سابق دشّنته البلاد منذ بداية السبعينات (حقبة الوزير الأول الأسبق الهادي نويرة). وعلى المستوى السياسي أعطاه مناخ الاستبداد وانعدام مظاهر الرقابة والمساءلة قدرة على التجذّر والتحوّل إلى آلية من آليات تسيير الدولة. وهذه القوة التأثيرية دفعت اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد إلى استهلال تقريرها الصادر سنة 2011 بقولها أن “ظاهرة الرشوة والفساد انتشرت واكتسحتْ المجال الاقتصادي وتغلغلت في أجهزة الدولة بدرجات مختلفة، حتى أنّ الاعتقاد أصبح سائدا لدى العموم أن الحصول على قرارات أو خدمات إدارية أو تبوؤ مسؤوليات أو انتداب في وظيفة بالإدارة أو المنشآت العمومية، بات يخضع لدفع رشاوي يختلف حجمها باختلاف “الامتيازات” التي يَحصل عليها المنتفعون بها”.[5]
ساهَمَ التداخل البنيوي بين الفَساد والمنوال الاقتصادي السائد في تشكيل الطبقات الاجتماعية في تونس وتحديد ملامحها وعلاقتها بالدولة. ففي الوقت الذي نشأت فيه طبقة من الأثرياء المُستفيدة من وساطة إيجابية لصالحها من قبل الدولة وأفلحتْ في الالتحاق بالاقتصاد النيوليبرالي العالمي على طريقتها المحلية الخاصة، توسّعت الطبقات الاجتماعية التي نمَت بشكل عشوائي على تخوم الدولة و”الاقتصاد الرسمي”. وهذه الطبقات بأصنافها الفقيرة والمتوسطة تُشكّل اليوم الحاضنة الكبيرة لخطاب مكافحة الفساد، ولكنها تُوجّه صرخاتها -عموما- نحو القطاع العام بوصفه تعبيرًا عن فساد الدولة وامتداداتها الاجتماعية، بما فيها طبقة الموظفين والنقابات، من دون إدراك مضمون التحالف المتين بين حكم العائلة وطبقة الأثرياء والذي كان له تأثير كبير في تحديد جوهر الدولة القائم على إنكار العدالة والحقوق والمساواة بين الطّبقات والمناطق.
ومن الملاحظ أنه جرت شرعَنة هذا التحالف عبر إيديولوجيا اقتصاد السوق، التي تُعلي من قيم المبادرة الخاصة وتحرير الاقتصاد وتنظيم المنافسة ضمن شروط السوق والتخلي عن الأدوار الاقتصادية التعديلية للدولة. وفي سياقنا الحالي، يعمد الكثير من “خبراء الميديا” إلى استخدام نفس هذه القيم كحجج مركزية في خطابهم الداعي إلى محاربة الفساد. بمعنى آخر يُشير الكثير منهم إلى أن المآزق الاقتصادية التي خلقتها منظومة الفساد السابقة تستوجب إدخال جرعات جديدة من الخوصصة غير المشروطة، وهو ما يؤدي منطقيا إلى توسيع نفس البِنية القديمة التي ترعرع داخلها الفساد. ولعلّ التنبيه إلى الآثار المدمّرة لمنوال الخوصصة السائد لا يغفل تغلغل مظاهر الفساد داخل القطاع العام، بسبب الدّور الوَظِيفي الذي لعبه ضمن منظومة الفساد العائلية.
تحوّلَ الفساد إلى حالة مُمأسسَة مُندمِجة ضمن البنية الاقتصادية
الفَساد: كَعب أخِيل الديمقراطية الوليدة
كان لثورة 2011 فضل كبير في الكشف عن “الفساد المُعمّم” الذي شهدته البلاد طيلة عقود من حكم الاستبداد. وقد كان التنديد بفساد حكم العائلة جزءًا من الشعارات الأساسية التي رُفِعَت أثناء اندلاع الثورة. وتمَّ ربط الفساد واللصوصية بغياب مظاهر العدالة الاجتماعية، على غرار شعار: “التشغيل استحقاق يا عِصابة السُّرَّاق (اللصوص)”. كما دشَّنت الثورة ولادة مسارات جديدة للمراقبة والمساءلة مُوزّعة في أكثر من مجال: منظمات مجتمع مدني، وسائل إعلام، برلمان، هيئات مستقلة، هيئات رقابة عمومية…إلخ. ولكن هذه المسارات -على أهمية ما أنجزته- لم تكُن قادرة على تفكيك إرث الفساد الثقيل، بخاصّة في ظل الإضعاف الداخلي الذي تعرضت إليه، وفي ظل ولادة مَسارات مُوازية في التعاطي مع ملفات الفساد أشرفَت عليها نخب الحكم التي أتت بعد الثورة (خاصة حزبي حركة النهضة وحركة نداء تونس). وقد وُلِدت هذه المسارات من خارج العملية الديمقراطية، وأدارت إرث الفساد بمنطق كسب الولاء والتّوافق مع القديم، مستخدمةً بعض الشعارات الاقتصادية من أجل تبييض مظاهر الفساد على غرار “دفع عجلة التنمية” و”التشجيع على الاستثمار”. وقد استُخدمت هذه الحجج تحديدا في تبرير قانون المصالحة الاقتصادية سنة 2016 (توافقت حوله حركتي النهضة ونداء تونس) علما أن الحراك الاجتماعي المدني نجح في إضعاف مضامين هذا القانون (خصوصا حملة مانيش مسامح) وتحويله إلى نسخة مُعدّلة أطلِق عليها “المصالحة في المجال الإداري”.
بالتوازي مع إضعاف مَسارات المحاسبة، وضعف الالتزام والجدية في تشخيص ومحاربة الفساد الذي أبدته نخب الحكم ما بعد الثورة، بدا واضحا للجميع التقارب بين طبقة الأثرياء القديمة والأحزاب الحاكمة الجديدة، خصوصا أثناء الحملات الانتخابية. وهو ما تركَ انطباعا صلبا بأن هذه الولاءات سيكون ثمنها الإفلات من العقاب وتجديد روابط الفساد بين السلطة الحاكمة وأصحاب المال. ومن جهة أخرى، تمّ استخدام فكرة “الحرب على الفساد” ضمن معارك التصفية الداخلية التي نشبتْ بين أجنحة الحكم في الفترة النيابية 2014-2019، على غرار الحملة ضد الفساد التي أطلقها رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد أواخر شهر ماي 2017، والتي انتهت باعتقال بعض رجال الأعمال المعروفين بعلاقاتهم مع العائلة الحاكمة السابقة وتورطهم في أنشطة مشبوهة -على غرار شفيق الجراية- وقد أُدِيرت هذه الحملة في ظل حالة من التعتيم الإعلامي، ولم تكن محلّ تأييد من قبل جزء كبير من الائتلاف البرلماني الحاكم آنذاك، لأنها كانت صدًى للصراعات الداخلية التي نشبت بين مكوناته. وقد استُخدِمت استراتيجيا تصفية القاعدة المالية المانِحة كإحدى أدوات حسم الصراع داخل أجنحة الحكم، لكن تحت شعار “الحرب ضد الفساد”.
وفي ظلّ غياب بدائل حقيقية تُفكّك التشابك بين نمط الاقتصاد القائم وتغلغل مظاهر الفساد، لم يكنْ بإمكان نخب الحكم الجديدة مواجهة الإرث القديم، بل استمرتْ في مسايرته في معظم الأحيان معيدةً إنتاج الخطابات الاقتصادية السابقة التي غذت الفساد. كما أنها عملت على مسايرة مقترحات الجهات الدولية المانحة (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي) التي كانت تنظر -بشكل أساسي- إلى مظاهر الفساد كعَقَبة أمام نجاعة اقتصاد السوق، ولم تكن تنظر إلى آثاره الاجتماعية ودوره في إنتاج اللاتكافؤ الاجتماعي وتخريب الاقتصاد المحلي وحرمان فئات اجتماعية واسعة من النفاذ إلى الخدمات والموارد. وحتّى المبادرات الجدّية والجريئة في فضح الفساد -على غرار مبادرات قام بها حزب التيار الديمقراطي- فإنها سعتْ إلى مواجهة الظاهرة على قاعدة فتح الملفات والمعالجة الأمنية والقضائية، من دون رؤية واضحة على المستوى الاقتصادي. وقد تحوّلت فكرة مكافحة الفساد إلى برنامج انتخابي للحكم لدى حزب التيار الديمقراطي، يُغطّي على بقية المضامين السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولا يملك قواعد الارتباط معها.
في الوقت الذي لم تتحول فيه فكرة مكافحة الفساد إلى قوة تغييرية، حصل تحوّل هائل سيؤدي إلى خلق وضع سياسي أكثر تعقيدا. إذ أن الفشل في مواجهة الفساد المُهيكل سيكون أحد عوامل إضعاف الديمقراطية، وحجّة إدانة ضدّها تلقفها الخطاب الشعبوي السلطوي. وسيتوسّع هذا الخطاب في الاستخدام العملي لهذه الحجة من أجل تثبيت شرعيته على الصعيد الشعبي، والشروع في القضاء على كل مظاهر الحياة الديمقراطية على الصعيد السياسي.
صورة الرئيس “المنقذ من الفساد” ستصبح مصدرًا للمشروعية
قيس سعيد وأخلَقَة الحرب على الفساد
كان التصويت لفائدة الرئيس قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، حصيلة عدّة عوامل متداخلة، من ضمنها اللغة الصراعيّة التي وجّهَت النزوع الانتخابي نحو الاختيار بين “الفاسد” و”النزيه”. وقد كان التّنافس على الرئاسة بين رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي، المحسوب على شبكات الفساد وبين الرئيس سعيّد الذي أصبحَ رمزا للنزاهة و”الاستقامة” أحد المآلات الدراماتيكية لحقبة ما بعد الثورة، التي لم تَنجح في خلق لغة صِراعية تتجاوز التنازع الأخلاقي نحو تنازع أكثر ارتباطا بالوقائع الحية للاقتصاد والمجتمع. وعلى هذا الأساس، ستَتَشكّل صورة الرئيس الجديد “المنقذ من الفساد” وستصبح مصدرًا من مصادر المشروعية التي برّرَ من خلالها جزءٌ لا بأس به من النخب وشرائح المجتمع الانقلاب الدستوري في 25 جويلية 2021. ومنذ ذلك التاريخ، سيُدشّن الرئيس سعيد حقبة “أخَلَقة الحرب على الفساد” التي ستُغني صورة “القائد النظيف” على حساب المواجهة العملية لوقائع الفساد المبثوثة في أجهزة الدولة والاقتصاد. وسيَجري تحويلا دؤوبا ومستمرا لفكرة مكافحة الفساد في اتجاه تصفية مظاهر الحياة الديمقراطية وتثبيت حكم الفرد. وهذا التحويل يجري التأسيس له عبر عدة آليات خَطَابية وعمليّة، من ضمنها:
- تَسيِيس الحرب على الفساد -بمعنى ما تَحويلها إلى قضية عامة مُتداولة. وهذا يُحسب للرئيس سعيد- ولكن ضمن بناء أخلاقوي لا يُرجِع الفساد إلى منشئه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وإنما فقط إلى “انحراف النّخب” و”فساد الموظفين” (هذه الحقيقة موجودة ولكنها لا تفسر جذور الظاهرة). وهذه الآلية تُبدي نجاعة في إعادة تلميع صورة “القائد النظيف”، وتُحافظ على اتّقاد الحرب المقدسة ضد الفاسدين (جميع خصوم الرئيس دون استثناء)، كما أنها تُعفي الرئيس من اقتراح حلول هيكلية لمواجهة الفساد. ومن الأمثلة على ذلك، نتائج تقرير جرد وضبط القروض والهبات في تونس خلال العشر سنوات التي تلت الثورة -تحصّلت عليه المفكرة القانونية كوثيقة مسربة-[6] ورغم أن هذا التقرير طالبَ به رئيس الجمهورية في أكتوبر 2021، إلا أن نتائجه لم تُنشَر للعموم، لأنه يشير إلى أنّ التصرف في موارد الاقتراض الخارجي يعكس أزمة هيكلية في إدارة موارد الدولة ما زالت مستمرة إلى الآن، ولا يتعلّق بمجرد تجاوزات بسيطة لبعض المسؤولين أو “حكام العشرية السوداء”. وهذه الخلاصة الموضوعية لا تتناسب مع سردية الرئيس سعيد التي تقول بأن أموال القروض والهبات ذهبت بكل بساطة إلى جيوب المسؤولين الذين سبقوه.
- إضعاف مَسارَات دمقرطَة الحرب على الفساد (منظّمات مجتمع مدني مستقلة، هيئات رقابية دستورية وتعديلية[7]، مُبلّغين عن الفساد.. إلخ). وبغضّ النظر عن الهشاشة والإخلالات التي شابت هذه المسارات، فإن النزعة السلطوية في حكم سعيد سعتْ إلى إنهائها وليس تطويرها، في إطار الاستحواذ الكلامي والسياسي على مفهوم “الحرب على الفساد”. وفي الأثناء، حَلّت محلّها ظواهر أخرى غير ديمقراطية: الوشاية، فبركة التهم، التلاعب بالوقائع، التعتيم الإعلامي…إلخ. وتَجري الآن الحرب على الفساد في غياب أيّ مأسسة، لتحلّ السلطة التقديرية للرئيس-الفرد محلّ كل السلطات الرقابية الأخرى المستقلة. وهو ما سيؤسس في المستقبل إلى ضرب مبادئ الشفافية والمحاسبة والعدالة التي يمكن مأسستها وقياسها، وتعويضها بفكرة “نظافة اليد” التي تدخل ضمن حقل الصور الأخلاقية التي نكوّنها عن الرئيس والقائد، ولا يمكن مساءلتها بأي شكل من الأشكال. وهو ما يعطي حصانة دائمة للسلطة السياسية التي تتبنّى خطاب الحرب على الفساد، ذلك أن منطق الأشياء أصبح يقول: سلطة تُحارب الفساد لا يمكن التشكيك في فسادها. وفي هذا السياق سعى الرئيس سعيد إلى حصر المدة الزمنية لكل مظاهر الفساد في الفترة الفاصلة بين 14 جانفي 2011 و25 جويلية 2021 (وهو ما تضمّنه الأمر المتعلق بالتدقيق في الانتدابات في الوظيفة العمومية والمنشآت العامة).[8]
- الاستعاضة عن فكرة تحقيق العدالة من وراء الحرب عن الفساد، بفكرة الحرب المفتوحة والدونكيشوتيّة ضد الفساد و”المفسدين”، التي يطلق عليها أحيانا الرئيس سعيد “حرب تطهير البلاد” أو “حرب التحرير الوطني”. ومن المفارقة أن هذا الخطاب الذي يَعِد بمحاسبة الفاسدين يؤسّس عمليا لشروط تشويه مبدأ المحاسبة، من خلال خلق مسارات محاسبة موازية يحكمها منطق الابتزاز وتبييض بعض وجوه الفساد وفقا لمنطق “من يدفع أكثر”، وتهميش دور القضاء كمؤسسة أولى مسؤولة على إنفاذ العدالة، وإضعاف مؤسسات الرقابة العمومية والمستقلة. وهذا المسار الذي يُروّج له كأداة ناجعة وقوية، من خلال إيداع بعض رموز الفساد للسجن ثمّ الضغط عليهم للذهاب إلى لجنة الصلح الجزائي[9]، سيزيد من تعقيد مفهوم الحرب على الفساد، وسينتج شبكات فساد وولاء جديدة، وربمّا أيضا سيجعل من “فاسدي اليوم” “ضحايا الغد” في ظل المسارات المشوهة التي دشنها الرئيس سعيد.
سلطة تُحارب الفساد لا يمكن التشكيك في فسادِها
نشر هذا المقال في الملف الخاص بالعدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس
لقراءة الملف بصيغة PDF
[1] في هذا السياق، انظر-ي: فاتح النور رحماني، ليلى المداني. ظاهرة الفساد، بحث في المفهوم والأسباب والأنواع والمظاهر، المجلة الجزائرية للدراسات السياسية، المجلد 08، عدد سنة 2021.
-المنظمة العربية لمكافحة الفساد. الفساد وإعاقة التغيير والتطور في العالم العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2015.
-سمير التنير. الفقر والفساد في العالم العربي، ط 1، بيروت: درا الساقي، 2009.
[2] للوقوف أكثر حول أبعاد مسرحة الحرب على الفساد، انظر-ي في الملف نفسه: أحمد نظيف: الشعبوية ومسرحة الحرب على الفساد.
[3] في هذا السياق، انظر-ي في الملف نفسه مقال سمية المعمري: المنوال الاقتصادي ودوره في إنتاج الفساد.
[4] للوقوف حول مظاهر استفادة نظام بن علي من سياسات الخوصصة والانفتاح الاقتصادي انظر تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، صادر سنة 2011.
[5] المصدر نفسه.
[6] سمية المعمري: تقرير جرد وضبط القروض والهبات في تونس: فساد أم أزمة هيكلية؟ جزء 1 و2، موقع المفكرة القانونية 27 و28 مارس 2024.
[7] في هذا السياق انظر-ي في الملف نفسه مقال منال دربالي: مكافحة الفساد: عزف منفرد للرئاسة ونسف هياكل الرقابة.
[8] في هذا السياق، انظر-ي في الملف نفسه، مقال مهدي العش: “تطهير الإدارة”: توظيف الفساد لترسيخ الاستبداد.
[9] للوقوف أكثر حول مسار الصلح الجزائي انظر-ي في الملف نفسه مقال أسماء سلايمية: تحولات الصلح الجزائي من “مسار صلح” إلى سلطة صلح.