تحوّلات على رأس الهرم القضائي (1): نهاية نظام “الباراشوت” في شورى الدولة؟


2025-03-31    |   

تحوّلات على رأس الهرم القضائي (1): نهاية نظام “الباراشوت” في شورى الدولة؟

اتّخذت الحكومة في جلستِها المنعقدة يوم الخميس الماضي ثلاثة قرارات هامّة على صعيد المؤسّسات القضائيّة. وإذ هدف قراران منها إلى ملء الشغور الحاصل في رئاستيْ هيئة التفتيش القضائيّ والنيابة العامّة التمييزيّة بعد تقاعد القاضيين بركان سعد (تموز 2022) وغسّان عويدات (شباط 2024)، فإن القرار الثالث انتهى إلى عزل رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس عن مركزه مع وضعه في تصرّف وزير العدل، وإلى تعيين القاضي الإداري يوسف الجميّل في هذا المركز. وقد فاخرتْ مصادر مقرّبة من وزير العدل عادل نصّار أنّه تمّ إقرار التعيينات المقترحة منه خلال دقائق معدودة داخل الحكومة من دون أيّ نقاش أو خلاف بشأنها (مقارنة مع تعيين حاكم مصرف لبنان الذي استغرق أسابيع وإسقاط مقترح تعيين مجلس إدارة تلفزيون لبنان) وأنها انبنتْ على معايير موضوعيّة أهمّها الكفاءة والنّزاهة، وبعيدًا عن المحاصصة. 

ونظرا لأهمية هذه التعيينات لما يترتّب عنها من تحوّلات في عمل المؤسسات القضائية ولكونها مدخلا لمزيد من التعيينات القضائية المنتظرة في الأسابيع القادمة، سنتوقّف عند كلّ منها على حدة بهدف الإحاطة بها. وقد اخترْنا مباشرة عملِنا مع التحوّل الحاصل على رأس هرم شورى الدولة، عزلًا وتعيينًا. فماذا يعني هذا التحوّل؟ وماذا ينتظر منه على صعيد المجلس ككلّ؟ 

وقبل المضي في ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه التعيينات في هذه المراكز لم تحدْ عن تخصيصها الطائفي  المعمول به أقلّه منذ أول التسعينيات، وذلك خلافا لخطاب القسم والمادة 95 من الدستور. فقد التزمت وزارة العدل ومعها الحكومة بتعيين قاضيين من الطائفة السنية في مركزيْ رئيس هيئة التفتيش القضائي والنائب العام التمييزي وقاضٍ من الطائفة المارونية في مركز رئاسة مجلس شورى الدولة.  

تنحية فادي الياس معلّلة ضمنًا؟ 

للمرّة الثانيّة خلال أقلّ من ثماني سنوات، عمدت السّلطة السياسيّة إلى تنحية رئيس مجلس شورى الدّولة عن مركزه من دون إرفاقها بأسبابٍِها الموجبة. إذ كانت حكومة سعد الحريري الأولى في عهد ميشال عون عزلتْ في تاريخ 3 آب 2017 القاضي شكري صادر عن رئاسة هذا المجلس مع نقله من دون رضاه إلى القضاء العدلي. وقد وثّقت المفكرة القانونية آنذاك الخطاب الضبابيّ الذي كان اعتمدهُ وزير العدل الأسبق سليم جريصاتي في سياق ردّه على أسباب عزل القاضي صادر. فلئن نقلت إحدى الصحف أنه اكتفى خلال مداولات مجلس الوزراء بتأكيد حصول مخالفاتٍ من صادر مع رفض تحديدها بحجّة أنه ليس عليه أن يفعل ذلك (الأخبار 4 آب 2017)، أعلن جريصاتي في إحدى مقابلاته التلفزيونية أنّ مردّ العزل ليس تصرفات قام أو لم يقم بها صادر، إنما ظروفٌ “موضوعيّة” تتّصل بمنهجيّة العمل في القضاء الإداري الذي هو قضاء شورى وقضاء حكم في آن واحد. وقد استتبع ذلك بقوله: “لا أنا ولا الحكومة استقصدنا استهداف القاضي شكري صادر. ما حصل هو بهدف تغيير المنهج داخل القضاء”. ونفهم من هذا التصريح أن الوزير عزا تبديل رئاسة مجلس شورى الدولة في رغبة العهد آنذاك تغيير النهج القضائي ليكون متوافقا مع نهجه، وأنه للسلطة التنفيذية تاليّا صلاحيّة عزل القضاة وتعيينهم انطلاقا من رؤى سياسية، تماما كما تغيّر العاملين في الإدارات العامة. وتعليقا على هذه المواقف المتضاربة والمتناقضة، سجّلت المفكرة القانونية تحت عنوان اعتراضي “الحاكم لا يأتي بقضاته كما يأتي بوزرائه ومستشاريه” قلقها العميق حيال استسهال الحكومة عزل أحد أعلى القضاة في النظام القضائي اللبناني من دون أن تتكبّد حتى عناء تبرير ذلك، بما يخالف مبدأيْ استقلالية القضاء والفصل بين السّلطات. فماذا يبقى من مبدأ فصل السلطات إذا كان بإمكان السّلطة التنفيذية أن تعزل كبار القضاة عن مراكزهم من دون أيّ مبرر موضوعيّ؟ 

وبالطّبع، لا تصحّ المقارنة بين قرار عزل صادر وقرار عزل إلياس رغم تشابههما لجهة خلوهما من أيّ أسباب موجبة. إذ أن القرار الأخير صدر في خضمّ التداول منذ أشهر في شكاوى التحرّش المُقامة من قاضيات عدّة (بعضهن من قاضيات مجلس شورى الدولة) ضدّ إلياس، ممّا يولّد لدى أيّ مراقبٍ موضوعيّ انطباعًا عامًّا بأن العزل برتبط بهذه الشكاوى وما نتج عنها من انعكاسات على أداء الرجل وقدرته على القيام بدوره. وعليه، لقي القرار عمومًا ارتياحًا واسعًا في الأوساط القضائية والحقوقية، وبخاصة مقارنة مع تباطؤ النيابة العامة التمييزية في حسم موقفها من هذه الشكاوى وتقاعس وزير العدل السابق هنري الخوري عن القيام بأيّ خطوة (ولا حتى الطلب من هيئة التفتيش القضائي مباشرة تحقيقات موازية للنظر في مدى ضرورة إحالته إلى المجلس التأديبي مع وقفه عن العمل). وفي الاتجاه نفسه، يُشار إلى أنّه لا يوجد أيّ مؤشّر على أنّ عزل إلياس أو تعيين الجميّل أتيَا في سياق تكريس نهجٍ معيّن أو بهدف تمكين السّلطة السياسيّة من استبعاد قضاةٍ غير مُوالين لها أو تعيين قضاة يكونون كذلك على رأس مؤسّسات الدّولة، وذلك بخلاف ما حصل عند عزل صادر في 2017. 

إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، كان من الأسلم أن يصدر قرار العزل معلّلا لأسباب ثلاثة: (1) أولًا، من أجل إرساء ممارساتٍ فُضلى تلتزم فيها الحكومة صراحةً بعدم جواز عزل أيّ من كبار القضاة مستقبلا خارج حالات الضرورة والتناسب، وبخاصّة في ظلّ غياب ضمانات قانونيّة واضحة في هذا الخصوص. ويهدف هذا الالتزام إلى تحصين كبار القضاة حيال أيّ ضغط أو تهديد يمارس عليهم باحتمال عزلهم بقرار سياسي في أيّ لحظة. وليس أدلّ على أهمية هذا الالتزام، التسريبات الحاصلة في الأسابيع الأخيرة باحتمال عزل رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود واستبداله بقاضية أكثر قربًا من العهد الجديد، (2) ثانيا، من أجل احترام حقوق القاضي إلياس نفسه. فلئن يولّد القرار كما سبق بيانه انطباعًا عامًّا بارتباط العزل بشكوى التحرش المقامة ضدّه، فقد كان من المهمّ بمكان أن تؤكّد الحكومة بالمقابل احترامها الكلّي لقرينة البراءة وأن قرارها لا يعني في حال من الأحوال ثبوت الأفعال موضوعها والتي للقضاء وحده أن يؤكدها أو ينفيها عملا بهذه القرينة. وتحديدًا، كان على الحكومة هنا أن تبيّن الأسباب التي حدتْها إلى استعجال قرار العزل من دون انتظار موقف القضاء أو هيئة التّفتيش القضائيّ في هذا الشأن، ومنها ربّما ما ولّدته هذه الشكوى من انعكاساتٍ على قدرة إلياس في القيام بمهامّه وتحديدًا على مدى استقلاليّته وحسن سير المرفق القضائي برمّته، و(3) ثالثا وأخيرًا، من أجل طمأنة المشتكيات بحفظ حقوقهن كاملةً، فلا يصوّر في حال من الأحوال أنّ عزل إلياس عن مركزه هو بديل عن الملاحقة القضائية التي ما زالت تراوح مكانها منذ أشهر، بل يفهم على العكس من ذلك أنه يهدف إلى تسهيل استكمال التحقيقات والإجراءات بحقه من دون أن تستشعر أيٌّ من الهيئات القضائية المعنية بحرج بفعل مركز المشكو منه والمسؤوليات المنوطة به.

القطع مع نظام الباراشوت

بالإضافة إلى ما تقدّم، اكتسى قرار الحكومة أهميّة إضافية تمثّلت في تعيين قاضٍ إداريّ هو القاضي يوسف الجميل في هذا المركز. وتتأتّى أهمية هذا القرار من كونه يقطع مع ممارسةٍ خطيرة سادتْ أكثر من ربع قرن قوامها تعيين رئيس مجلس شورى الدولة من خارج المجلس وتحديدًا من القضاة العدليين، حيث كان تعاقب على رئاسة هذا المجلس كلّ من غالب غانم (2000- 2008) وشكري صادر (2008-2017) وهنري خوري (2017-2019) وفادي إلياس (2019-2025) الذي تولّوا هذا المركز فور نقلهم من القضاء العدلي. وهذا ما أسمتْه المفكرة القانونية في سياق رصدها للإشكالات التي تعتري تنظيم مجلس شورى الدّولة بتعيينات الباراشوت التي شملت إلى رئيسه رؤساء غرفه ومفوّض الحكومة، وهي تعيينات مؤداها منح السلطة الحاكمة هامشًا واسعًا في التحكّم في عمل هذا المجلس من خلال قياداته. وما يفاقم من مخاطر هذه الممارسة هي الصلاحيات المضخّمة في القانون والممارسة لرئيس مجلس شورى الدّولة وبنسبة أقلّ رؤساء الغرف، مقابل ضعف ضمانات الاستقلاليّة المكرّسة قانونًا لقضاة المجلس. 

ولا تقتصر أضرار هذه التعيينات من خارج المجلس على أبعادها السياسيّة. إذ أنها تؤدي علاوة على ذلك إلى إحباط مهنيّ للقضاة الإداريين الذين يبقون على موعد مع هبوط قيادات على رؤوسهم لم يألفوا يومًا العمل معها، فضلا عن إشعارهم بمحدودية فرص ارتقائِهم إلى المراكز العليا في المؤسسة التي أمضُوا عمرهم المهنيّ فيها. 

وعليه، ومع التأكيد على أهمية التحوّل الحاصل في هذا المضمار، يجدر بالمقابل تسجيل ملاحظتيْن: (1) الأولى نقديّة وقوامها إنّ هذا التعيين حصل في كواليس وزارة العدل من دون أن تسبقه أيّ دعوة للقضاة الإداريين الرّاغبين في إشغال هذا المركز إلى تقديم ترشيحاتهم بمعزل عن انتمائهم الطائفيّ، وعلى نحو يعزّز الشفافيّة ويقطع مع مخالفة المادة 95 من الدستور، و(2) الثانية تحفيزيّة وقوامها دعوة وزارة العدل والحكومة إلى الإسراع في استكمال التعيينات في المراكز الشاغرة في رئاسات غرف المجلس بهدف إعادة إحياء مكتب المجلس المعطّل بفعل فقدان نصابه منذ أكثر من سنة، على أن يتمّ ملء هذه الشواغر من داخل المجلس وعلى أن يترافق هذه المرة مع إرساء ممارسات أكثر شفافية تقطع مع تخصيص المراكز طائفيّا أو كما مع أي اتجاه تمييزيّ. 

بقي أن نتمنى أن تنخرط رئاسة مجلس شورى الجديدة في ورشة إصلاح القضاء الإداري بالتعاون مع سائر المعنيين في هذا الخصوص، في اتجاه إنجاز الإصلاح المؤسساتي الموعود ضمانا لتحقيق استقلالية القضاء الإداري وفق أعلى المعايير الدولية (العبارة مأخوذة من البيان الوزاري). فلنراقب.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني