لا نُبَالغ إذا قلنا أن مرسوم الصلح الجزائي هو “عمق” مشروع الرئيس سعيد والأداة المالية لتنزيل شعَاراته على أرض الواقع. فبغضّ النظر عن الشعارات المُبرّرَة للصلح الجزائي باعتباره وسيلة لاسترداد الشعب أمواله، يعدّ الصلح عمليّا “الخط التمويلي” المفتوح “للتصوّر الاقتصادي” للرئيس سعيد، والذي ينبَني على فكرة الشركات الأهلية كحلّ لتشغيل الشباب وتحريك عجلة الاقتصاد. وبوصفه كذلك، سارع سعيّد سنة 2022 بإصدار مرسوم الصلح الجزائي من دون أدنى نقاش حول فحواه ومقاصده، وذهبت ضحيته العدالة الانتقالية المغدورة والمجلس الأعلى للقضاء السابق، إلى جانب إفراغ القطب القضائي المالي من فحوى عمله وجدواه. مع ذلك، مضَى الرئيس قدما في تطبيق مرسومه، رغم تعثّر عمل لجنة الصلح وضعف النتائج التي كان من المأمول تحقيقها. ليتوصلّ بعد سنتين الى قناعة بضرورة تنقيحه، خصوصا إثر انتهاء عهدة لجنة الصلح وعدم الوصول لنتائج تذكر. جاء التنقيح متأخّرا وترقيعيّا: فبدل اعتراف سعيّد بضرورة مراجعة فكرة الصّلح الجزائي من أساسها واعتبارها فرصةً لفتح نقاش مجتمعيّ حول قانون ضربَ في مقتل مسارات دشنتها الثورة، على غرار العدالة الانتقالية، أُحيل مشروع القانون على البرلمان ليُنظر فيه على عجل بترقيعات لا يتجاوز هدفها التسريع في تحصيل الأموال.
تنقيح المرسوم: فشل مبنيّ للمجهول
لم يَكن تنقيح مرسوم الصلح الجزائي مفاجئا، حيث لم ينفكّ سعيّد يوجّه “صواريخه” منذ السنة الفارطة إلى الإجراءات الخاصّة التي سنّها بنَفسه صلب المرسوم عدد 13 لسنة 2022. وقد اعتبَر حينها أنّها تحوّلت إلى مطيّة لتأبيد مسار الصّلح، منتقدا في الآن ذاته ممارسة لسان الدفاع لدوره وما يترتّب عنه من تأخير في البتّ في مطالب الصلح وكذلك أصحاب الأعمال مهدّدا إياهم بالسجن في حال عدم الانخراط الفوري في الصلح. كان من المتوقع أن تُتَرجَم هذه الانتقادات بتنقيح، خاصة إثر استكمال مسار إخضاع القضاء للسلطة التنفيذية، والأهمّ من ذلك ضعف حصيلة لجنة الصلح الجزائي التي لا وجود فعلي لمعطيات موثوقة حول مخرجاتها، إلى حدود اللحظة. كما لا وجود لأيّ معلومات رسمية حول ما حقّقه الصلح من أموال، أو حول عدد الملفات التي تمّت معالجتها من قبل اللجنة طيلة سنة ونيف.
عُدّ التوجه إلى التنقيح ولو بصفة متأخرة كإقرار، ولو ضمنيّ، بفشل مسار الصلح من قبل رئيس الدولة إلا أنه فشل مبني للمجهول. حيث لم يتحمّل الرئيس صراحة مسؤولية فشله في تقييم الإجراءات الواجب وضعها لتحقيق “حُلم” الصلح الذي لم يبارحه منذ سنة 2012.
أمّا البرلمان، فضيّع فرصة إضافيّة لإثبات أنه ليس مجلسا كرتونيا، وفرصة للنقاش حول فكرة الصلح الجزائي وتقييم التجربة التي تخوضها البلاد بقرار من الرئيس وحده، ولتشخيص مكامن الخلل. فقد اكتفى على مستوى اللجنة بجلسة استماع يتيمة لممثلة السلطة التنفيذية دون غيرها من المتدخّلين. حتى المحاولات النادرة للنواب لإدخال بعض التعديلات على معايير تقسيم عائدات الصلح الجزائي جوبهتْ بتحذير من وزيرة العدل وتشديدها على ضرورة عدم المساس من جوهر النصّ. عمليّا، تم التصويت على تنقيح مرسوم الصّلح الجزائيّ من دون اعتراض أيّ من النواب ودون نقاش جدّي حول أساس التنقيح وأسبابه العميقة. علاوة على ذلك، لم يتمّ الخوض في مُخرجات عمل لجنة الصلح الجزائي طيلة فترة عملها، مما يَعكس أن النقاش حول التنقيح لا يعدو أن يكون شكليات لحلحلة المشاكل التي اعترضت الوظيفة التنفيذية بأيادي الوظيفة التشريعية.
قانون لتمويل مشروع الرئيس
يكتسي الصلح الجزائي أهميّة قصوى في فلسفة الحكم الحالية، لا لكونه وسيلة لاسترداد أموال الشعب أو مصالحة الفاسدين بقوّة القانون، ولكن لكونه يُعدّ الضلع المالي لمشروع البناء القاعدي، وأداة تمويل الشركات الأهليّة. . أي أنّ الصلح الجزائي هو حجر الأساس في تنزيل ما ينظّر له الرئيس اقتصاديا على أرض الواقع، وهو ما يفسّر كذلك تشنّجه عند تعثّر عمل لجنة الصلح الجزائي وتأخّر إبرام الصلح وخاصة والأهم ضعف الحصيلة المالية إلى حدود اللحظة. فإذا ما تعثّر تجميع عائدات الصلح الجزائي، عجزت السلطة عن تمويل الشركات الأهليّة.
كان مرسوم الصلح الجزائي قبل تنقيحه يقسّم عائدات الصلح الجزائي إلى 80% تُرصد لفائدة المعتمديات المنتفعة بالمشاريع حسب ترتيبها من الأكثر فقرا إلى الأقل فقرا و20% تُخصص لفائدة الجماعات المحلية بغاية المساهمة في رأس مال مؤسسات محلية أو جهوية تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهلية أو استثمارية أو تجارية. لكنّ التنقيح فتح إمكانيّة تخصيص جزء من العائدات التي كانت مخصّصة للمعتمديات باعتبارها أساس التنمية في تصور البناء القاعدي، لتمويل “المشاريع ذات الأهمية والمصلحة الوطنية”، بما يعني خروجا، ولو جزئيا، من المنطق المحلي لتمويل المشاريع. كما تمّ التخلّي عن تمويل الشركات الاستثمارية والتجارية في ما يخصّ نسبة الـ 20% من محصول الصلح الجزائي، والإبقاء بصفة حصرية على تمويل الشركات الأهلية. يؤكّد هذا التنقيح ليس فقط مكانة الشركات الأهليّة في مشروع الرئيس، بل أيضا الصعوبات الجمّة التي تعترض تمويلها. يتدعّم ذلك بالرجوع إلى الطلب المباشر الذي قدّمه سعيّد إلى البنوك في إسناد القروض إلى الشركات الأهليّة[1]. هذا الطلب جُوبِهَ بالطاعة من قبل بعض البنوك على غرار بنك تونس العربي الدولي والذي سبق وأن تقدّم المساهم الأكبر فيه مروان المبروك بمطلب صلح مع الدولة، غداة إصدار قرار تحجير السفر عليه على خلفية أبحاث تتعلق بشبهات سوء تصرف في الأملاك المصادرة. ولم يفضِ مسار الصلح مع المبروك إلى أي نتائج معلومة -إلى حد الآن- وتم إيداعه إثرها السجن.
لا وجود لأيّ معلومات رسمية حول ما حقّقه الصّلح من أموال أو حول عدد الملفّات
ما لا يُأخذ بالتهديد يُفتكّ بالابتزاز
طيلة سنتين من إصدار مرسوم الصلح الجزائي، لم يَبدُ الرئيس متحرّجا من تكريس عدالة للأغنياء، ذات نواميس وأحكام خاصّة، وعدالة للفقراء. يمكن القول بأن تعامل الرئيس مع ملف الصلح مرّ بثلاث مراحل أساسية: الأولى، تمثلت في الترغيب في الصلح[2]. والثانية، أمام تعطّل المسار تغيّر الخطاب ليصبح المال أو السجون وتحجير السفر وتعطيل الأعمال. أما المرحلة الثالثة، فتمثلت في الابتزاز والضغط وإن كان ذلك بذراع القضاء والدّفع بالمطالبين بالصلح نحو التخلي عن حقهم في الدفاع عن أنفسهم والتفاوض حول المبالغ المطلوبة والإذعان مباشرة للصلح.
لم يَخرج تنقيح المرسوم عن هذا التصور الأخير، بل تدعّم أكثر من خلال تحجيم دور لجنة الصلح الجزائي وحصره في مرحلة تمهيدية للصلح، يتولى مجلس الأمن القومي لاحقا صلاحية إقراره مع تمكينه من فرضيات المصادقة على مشروع قرار الصلح أو رفضه أو تعديله بالترفيع في المبالغ الواجب دفعها أو إدخال تحويرات على المشاريع المستوجب إنجازها. بغضّ النظر عن مدى الوجاهة القانونية لإسناد هذه الصلاحيات للمجلس المذكور، فإنّ لهذا الإسناد دلالات سياسية وواقعية تعود لتركيبة المجلس ذاته، الذي تطغى عليه السلطة التنفيذيّة، وكذلك للصلاحيات المسندة له صلب مسار الصلح. يؤكّد ذلك مجددا أن “سلطة الصّلح” خرجت من يد القضاء، الذي كان ممثلا ولو بطريقة مشوهة في لجنة الصلح الجزائي، لتنتقل إلى قصر قرطاج، بما يعزّز مناخ عدم الثقة في المسار برمّته. سياسيّا، يغيّر هذا التنقيح مواقع كل طرف، فلا يمكن الحديث في ظلّه عن طالبين للصلح بل عن “خاضعين للصلح”، وإن كان بمبادرة منهم، حيث لا يمكنهم مناقشة “قرار” مجلس الأمن القومي أو التفاوض معه أو الطعن فيه ولا التظلّم أمام أيّ هيكل قضائي، باعتبار أن التنقيح حصّن قرارات مجلس الأمن القومي من أيّ إمكانية للطعن، وهو ما يجعل المُصالح في وضعيّة هشّة ومن دون ضمانات حقيقة. في الجهة المقابلة، يلعب رئيس الدولة دور الخصم والحكم في الآن ذاته. إن الحديث عن ترهيب أصحاب الأعمال يجد أساسه كذلك في تكريس التنقيح لضرب مبدأ شخصية الجرائم والعقوبات، حيث أضاف البرلمان إمكانية مصادرة أملاك القرين والأصول والفروع والإخوة والأصهار “وكلّ من ثبت انتفاعه بهدف التهريب أو الابتزاز” في حال الفرار أثناء تنفيذ الصلح الوقتي[3].
إفراغ الحرب على الفساد من معناها
يعدّ شعار مكافحة الفساد مطلبا مركزيا في الثورة التونسية، باعتباره إجابة طبيعية على الفساد الذي نخر البلاد لسنوات. من هذا المنطلق، لم يكدْ يغيب هذا الشعار عن طاولات الحكم المتتالية حتى أخذ أشكالا متنوعة يتنزل أغلبها في باب الجدل السياسي وتصفية الحسابات. منذ 25 جويلية 2021، أخذ هذا الشعار الحيز الأكبر في خطاب سعيّد الذي قدّم الحرب على الفاسدين كحرب بلا هوادة، لا توقفها النصوص والإجراءات ولا لسان الدفاع، ولو اقتضى الأمر الاستيلاء على صلاحيات المؤسسات. هذا التمثل القُدسي للحرب على الفساد لم يدَع مجالا للمؤسسات ودولة القانون، فليس للفاسدين سوى الانصياع “طوعيا” لرغبة الرئيس في الصلح أو الامتثال للتهديد والوعيد وتحجير السفر وتجميد الأرصدة البنكية والسجن. هذا التمثّل يُضرّ جوهريا بالحرب العادلة على الفساد، والتي ترمي أساسا إلى تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين والمواطنات والحدّ من الفساد كوسيلة تشويه العدالة وعدم توزيع الفرص بشكل عادل، إلى جانب تعزيز الثقة في المؤسسات. علاوة على ذلك يؤسّس هذا المنطق لمظلومية زائفة لمفسدي اليوم-ضحايا الغد جرّاء الخروقات والابتزاز، علاوة عن كونه يُغفل جوهر الحرب على الفساد، ألا وهو تحقيق العدالة. فعليّا، يجد أصحاب الأعمال، وإن كنّا لا نناقش مدى تورّطهم في الفساد من عدمه، أمام حلّين: إمّا الانضمام إلى طبقة أصحاب الأعمال الموالين للسلطة والمقايضين للبراءة بالمال، أو رفض الصلح وانتظار تغيّر الموازين السياسية.
“سلطة الصّلح” خرجت من يد القضاء لتنتقَل إلى قصر قرطاج
نشر هذا المقال في الملف الخاص بالعدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس
لقراءة الملف بصيغة PDF
[1] بتاريخ 12 فيفري 2024.
[2] بتاريخ 28 جويلية وبمناسبة لقاء رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية سمير ماجول أكّد قيس سعيّد على أنه باعتباره “ليس من دعاة سجن أحد” و”لا يريد التنكيل بأيّ كان”.
[3] الفصل 37 جديد منال قانون عدد 3 لسنة 2024 المتعلّق بتنقيح المرسوم عدد 13 لسنة 2022 المؤرخ في 20 مارس 2022 المتعلق بالصلح الجزائي.