وضعت الحكومات الأردنية المتعاقبة هدف النهوض بالقطاع العام وزيادة فاعليته خلال العشرين سنة الماضية. وكانت الوسيلة المتبعة هي إجراء تعديلات تشريعية على النظام الخاص[1] بالموظف العام حيث صدر ثلاثة أنظمة تم تعديلها 27 مرة.[2]
التعديلات التشريعية المتعاقبة أدت إلى خلق بيئة تشريعية غير مستقرة، ولم يتم قياس اثرها بشكل علمي، كما لم يشعر المواطن بأي تحديث ملموس باستثناء التوسع في تقديم الخدمات العامة بالطرق الإلكترونية، الأمر الذي شكل تحديا بالنسبة للمواطنين غير القادرين على التعامل مع هذه التكنولوجيا. وفي الوقت نفسه، كان من الواضح أن هدف الحكومات المتعاقبة هو ترشيد النفقات بسبب عجوزات الموازنة العامة، وبالتالي اتباع سياسات متشددة في التعيين على الوظائف الحكومية.
تشير التصريحات الحكومية بأن عدد العاملين والعاملات في القطاع العام 218 ألف، تُشّكل نفقات رواتبهم وتعويضاتهم 65% من الموازنة العامة، أي ما يقارب 8 مليار دينار أردني (11 مليار دولار امريكي). وبحسب أرقام دائرة الإحصاءات العامة الأردنية للعام 2020، فإن متوسط الدخل الشهري للعاملين الذكور في القطاع العام 662 دينار (934 دولارا أمريكيا) و 570 للإناث (804 دولارا أمريكيا)، مقابل 502 دينار (708 دولارا أمريكيا) للعاملين الذكور و 431 دينار (608 دولارا أمريكيا) للإناث في القطاع الخاص. وفي ظلّ هذه الفجوة، من المنطقي أن يتمّ التوجه للقطاع العام، خاصة أنّ عدد ساعات العمل في العادة تكون أقلّ، بالإضافة إلى مزايا أخرى غير متوفرة في القطاع الخاصّ مثل التأمين الصحي. ويقدر خط الفقر للفرد الواحد في الاردن بـ168 دينارا شهريا (237 دولار ا أمريكيا) بحسب تقرير أطلس أهداف التنمية المستدامة للعام 2023 الصادر عن البنك الدولي.
في عام 2018، قامت وزيرة تطوير القطاع العام مجد شويكة، التي لها تاريخ طويل في إدارة كبرى شركات القطاع الخاص في الأردن، بتوجيه نقد غير مسبوق لمنظومة القطاع العام بقولها أن الوضع الحالي بحاجة لثورة، إذ أنّ أغلب الموظفين بلا عمل وتم تعيينهم بالواسطة، وأن هناك خللا واضحا في عملية تقييم الموظف حيث حصلتْ الغالبية على تقدير ممتاز أو جيّد جدّا رغم وجود ضعف واضح في الأداء.
وبالرغم من تلميحات الحكومة لاعتماد نهج إدارة مختلف، متأثر بروح القطاع الخاص، بهدف تحقيق الفاعلية والكفاءة الاقتصادية، إلا أن الحكومة لم تستطِع اتّخاذ خطوات ملموسة لتحقيق ذلك حتى صدور نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام رقم 33 لسنة 2024 الذي أثار موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات وانتقادات من منظور الإدارة العامة وحقوق الإنسان.
وبقيت نصوص نظام الخدمة المدنية رقم 9 لسنة 2020 المتعلقة بالرواتب والعلاوات والزيادات السنوية والترفيع الوجوبي سارية المفعول على الموظفين المعينين قبل دخول نظام الموارد البشرية حيز النفاذ. وبحسب مجلس الوزراء الأردني، فإن الهدف من إقرار هذا النظام هو تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد البشرية، ومأسسة السياسة العامة لإدارة الموارد البشرية في القطاع العام بما يسهم في زيادة إنتاجية الموظفين وكفاءتهم، والوصول إلى قطاع عام ممكّن وفعّال يكون الوطن والمواطن محور اهتمامه. وبحسب بعض التقديرات، فإن النظام الجديد يهدف إلى التخلص من عبء نحو 100 ألف موظف حكومي فائضين عن الحاجة. ويظهر ذلك بوضوح في العديد من نصوصه التي تمّ إقرارها تحت غطاء زيادة الفاعلية والإنتاجية. ومن الأمثلة على ذلك:
- إنهاء خدمات الموظف أثناء فترة التجربة من دون إبداء الأسباب[3]، وعبارة “دون إبداء الأسباب” تعتبر المفضلة لدى الإدارة العامة حيث تحمي القرارات الإدارية من الطعن أمام القضاء الإداري وذلك لأن القضاء يفترض أن القرار مبنيّ على المصلحة العامة عند عدم وجود التزام بذكر الأسباب.[4]
- فرض قيود على الإجازة بدون راتب[5]، حيث حصر ت في مدة لا تتجاوز أربعة أشهر في السنة الواحدة وبما لا يتجاوز إثني عشر شهرا طيلة مدة خدمته في القطاع العام. وبحسب نائب رئيس الوزراء ووزير الدولة للشؤون الاقتصادية ناصر شريدة، 13 ألف موظف حاصلون حاليا على هذه الإجازة لغايات مختلفة، من بينهم نحو 8 آلاف موظف حصلوا على هذه الإجازة لغايات العمل داخل أو خارج الأردن وتجاوزت مدة إجازاتهم الـ 15 عاما. أما بالنسبة للموظفين الحاصلين على إجازة قبل نفاد هذا النظام، يمكن تمديد الإجازة لمدة لا تزيد على سنة إذا كانت لغايات العمل داخل المملكة ولمدة لا تزيد على سنتين إذا كانت الإجازة لغايات العمل خارج الأردن.[6]
- استغناء عن خدمات الموظف بسبب التقييم[7]، بحسب النظام يتمّ الاستغناء عن خدمة الموظف بقرار من المرجع المختص إذا حصل على تقييم أداء بتقدير (عدم القدرة على إنجاز المهام) أو استمرار أداء الموظف الحاصل على تقييم أداء بتقدير (إنجاز المهام دون المستوى المطلوب) أو (عدم إنجاز المهام لنقص المهارات والمعرفة) بذات التقدير بعد انقضاء المهلة الممنوحة له لتقويم أدائه بمقتضى أحكام هذا النظام. ليس من الواضح كيف سيتم تطبيق هذا النص خاصة في ظل تصريحات حكومية سابقة أن أغلب موظفي القطاع العام حصلوا على تقييم ممتاز وجيد جدًا بسبب المحاباة والمحسوبية وعدد الذين يتم تقيمهم بدرجة ضعيف في العام الواحد لا يتجاوز عشرة موظفين.
- ضوابط على الترقية. في كثير من الأحيان يتمكن الموظف من الحصول على شهادة مهنية أو جامعية مثل البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه أثناء عمله في القطاع العام. وكانت الأنظمة السابقة تسمح بتعديل درجته الوظيفية والترقية إلى وظيفة أعلى مع تعديل الراتب، إلا أنه بحسب النظام الحالي أصبح هذا الامر غير متاح، وبالتالي على الموظف الذي حصل على شهادة علمية أو مهنية أثناء عمله أن يبقى في وظيفته، وإذا رغب في الحصول على وظيفة أعلى يجب عليه تقديم طلب والمنافسة على الشاغر المتاح.[8]
- وظائف محدودة المدة. من أبرز ما كان يميز العمل في القطاع العام الأمان الوظيفي. لكن بحسب النظام الجديد أصبحت الوظيفة العامة بموجب عقود محدودة المدة، ويتمّ تجديد العقود في ضوء تقييم أداء الموظف وحاجة الدائرة للوظيفة.[9]
- منع الموظف من العمل خارج أوقات الدوام الرسمي.[10] يجب على الموظف الحكومي الذي يعمل بوظيفتين تصويب وضعه قبل بداية عام 2025. ويعتبر هذا المنع هو الأخطر بالنسبة للموظف الذي حرم من أية مصادر إضافية للدخل. وفي ظل الاحتجاجات على هذا البند تحديدا، قامت الحكومة بإجراء تعديل على نظام الخدمة المدنية لعام 2020، الذي ينطبق على الموظفين المعينين قبل نفاذ نظام الموارد البشرية، بما يسمح لموظَّفي القطاع العام بالعمل خارج أوقات الدَّوام الرَّسمي وفق ضوابط تضمن عدم التَّأثير على إنتاجيَّة الموظَّف وعدم تضارب المصالح.
وفي محاولة للتقرب أكثر من سياسات القطاع الخاص، أَسّس النظام لفكرة اختلاف الرواتب لذات الوظيفة بحسب مكان العمل، حيث تم ربط الراتب بالأهمية والقيمة النسبية للوظيفة بحيث تتساوى رواتب الوظائف المتساوية في القيمة النسبية وتتفاوت رواتب الوظائف المختلفة في قيمتها النسبية،[11] وبالتالي راتب وظيفة المحاسب قد تختلف من وزارة إلى وزارة أخرى، إلا أنه لغاية الآن لم يتمّ وضع أية معايير واضحة لتحديد القيمة النسبية والأهمية للوظيفة.
إضافة إلى ما سبق ذكره، حافظ النظام الجديد على بعض النصوص التي كانت موجودة في الأنظمة السابقة وكانت محلّ انتقاد كونها تؤسس للتعسف وتنتهك حقوق الموظف الأساسية، ومن أبرزها:
- يمكن إنهاء خدمة الموظف الخاضع لقانون الضمان الاجتماعي من دون طلبه إذا استكمل شروط الحصول على التقاعد المبكر دون أية إجراءات سابقة بخلاف ما جاء في الأنظمة السابقة[12]، وبالتالي يمكن أن يكون تطبيق هذا النص كعقوبة مبطنة في ظل صعوبة إثبات سوء النية من قبل الجهة صاحبة القرار وغياب إلزامية بيان أسباب اتخاذ مثل هذا القرار.[13] وهي ذات الصلاحية الممنوحة للمجلس القضائي بإحالة القاضي على التقاعد إذا أمضى مدة خدمة لا تقل عن عشرين سنة وإلى الاستيداع اذا أمضى مدة خدمة لا تقل عن خمس عشرة سنة التي كانت أيضا محل انتقاد، إلا أنه في الحالة الأخيرة يجب أن يكون هناك تنسيب من رئيس المجلس القضائي وتوصية لجنة مشكلة من أقدم خمسة من قضاة محكمة التمييز من غير أعضاء المجلس القضائي. [14]
- حظر القيام أو الاشتراك في أي مظاهرة أو إضراب او اعتصام أو التحريض عليها تحت طائلة المسؤولية، وبالتالي حرمان الموظف من الحق بالتعبير وحرية التجمع السلمي.[15] ويمكن أن تصل عقوبة هذه المخالفة إلى الاستغناء عن الخدمة أو العزل.[16]
على ضوء ما تقدم، ليس بالغريب ان تظهر حركات احتجاجية على النظام الجديد تمثلت أولها باحتجاج ما يقارب 600 طبيب من العاملين في وزارة الصحة من خلال نقابة الأطباء، في حين وصفه البعض بأنه يهدد جميع الموظفين من أبناء الشعب الأردني ويقود نحو تفكيك الدولة.
يعتبر نظام الموارد البشرية جزءا من محور التحديث الإداري الذي تبنّته الحكومة، حيث تمّ تشكيل لجنة تحديث القطاع العام في العام 2021 برئاسة رئيس الوزراء، وبتمثيلٍ من القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني. ويظهر سعي واضح لجعل القطاع العامّ أكثر كفاءة وأقلّ تكلفة، وبالتالي الاقتراب من النموذج الاقتصادي النيولبرالي بسبب ضغوطات اقتصادية محلية و ليس بالضرورة نتيجة الإيمان بهذه الإيدولوجية. لكن في جميع الأحوال لا مفرّ من ظهور آثار اجتماعية سلبية لا بدّ منها مثل زيادة معدلات الفقر والبطالة. وقد سبق أن أقرّت الحكومة نظام العمل المرن في إطار نفس النهج، وباتجاه تخفيف الأعباء على القطاع الخاص على حساب الحماية الاجتماعية للعمال.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار السياسات والتشريعات المتعلقة بتقييد الحريات وتقليص دور النقابات العمالية، فمن المحتمل أن يؤدّي ذلك إلى زيادة الفعالية الاقتصادية وتقليص العجز في الموازنة العامة على المدى القصير. لكن على المدى البعيد من الممكن أن يؤدي هذا النهج إلى زيادة البطالة، ضعف الخدمات العامة، انحصار في الحماية الاجتماعية وازدياد الاستياء الشعبي مما قد يخلق تحديات جديدة للأردن. وبالتالي الموازنة بين جهود الإصلاح والعدالة الاجتماعية أمر ضروري في الفترات القادمة.
[1] بحسب المادة 120 من الدستور الأردني التقسيمات الادارية في المملكة الاردنية الهاشمية وتشكيلات دوائر الحكومة ودرجاتها واسماؤها ومنهاج ادارتها وكيفية تعيين الموظفين وعزلهم والاشراف عليهم وحدود صلاحياتهم واختصاصاتهم تعين بأنظمة يصدرها مجلس الوزراء بموافقة الملك، أي لا يوجد دور للسلطة التشريعية.
[2] صدر نظام الخدمة المدنية رقم 30 لسنة 2007 وتم تعديله 10 مرات، ثم صدر نظام الخدمة المدنية لاقم 82 لسنة 2013 وتم تعديله 11 مرة، ثم صدر نظام الخدمة المدنية رقم 9 لسنة 2020 الذي تم تعديله 6 مرات.
[3] المادة 25 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024 التي جاء فيها ” كون الموظف المُعين في القطاع العام تحت التجربة لمدة ثلاثة أشهر تبدأ من تاريخ مباشرته العمل في وظيفته ويجوز إنهاء خدماته خلال تلك المدة دون بيان الأسباب”
[4] انظر على سبيل الحكم رقم 320 لسنة 2020 – المحكمة الإدارية العليا حيث جاء في حيثيات القرار ” أنه من المسلم به فقهاً وقضاءً أن كل قرار يصدر عن الإدارة يعد أنه قام على أسباب صحيحة ومستهدفة المصلحة العامة ما لم يثبت العكس “
[5] المادة 56 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024 حيث حصر الاجازة لمدة لا تتجاوز أربعة أشهر في السنة الواحدة وبما لا يتجاوز اثني عشر شهرا طيلة مدة خدمته في القطاع العام.
[6] المادة 56/ج من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024.
[7] المادة 97 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024.
[8] المادة 12 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024.
[9] المادة 20 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024.
[10] المادة 67/ي
[11] المادة 11 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024.
[12] فعلى سبيل المثال اشترط نظام الخدمة المدنية لسنة 2013 ان يكون هناك تنسيب من لجنة الموارد البشرية حتى تتم الإحالة على التقاعد المبكر، وهي لجنة تنشأ بقرار من الوزير المعني.
,[13] المادة 100 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024.
[14] المادة 15 من قانون استقلال القضاء رقم (29) لسنة 2014.
[15] المادة 67/ج من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024
[16] المادة 68 من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام – رقم (33) لسنة 2024