سجّل لبنان في السنوات الأخيرة تراجُعًا حادًّا وغير مسبوق لحريّة التعبير، حسب مؤشّر حرية الصحافة العالمي الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”، حيث جاء تصنيفه في المرتبة 130 سنة 2022، و119 سنة 2023 و140 سنة 2024[1].
من المؤشّرات الهامة على التضييق على حرية التعبير الاستدعاءات المتكرّرة أمام أجهزة أمنية على خلفيّة النشر الإلكتروني، ومن ضمن تلك الأجهزة الجيش (المخابرات والشرطة العسكرية) وقوى الأمن الداخلي (المخافر والشرطة القضائية ومكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية وشعبة المعلومات والمباحث الجنائية المركزية)، بالإضافة إلى أمن الدّولة والأمن العامّ[2].
وهذا ما حدا بمنظّمات دوليّة ومحليّة عدّة إلى التّنبيه من مخاطر تلك الاستدعاءَات ووجوب الحدّ منها. فقد أعربتْ اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان، في الملاحظات الختامية بشأن التقرير الدّوري الثالث للبنان الصادر عنها بتاريخ 9 أيار 2018، عن قلقها إزاء “45- … (ب) الادّعاء بأن تفسير مفهوم الجريمة السيبرانيّة تفسيرا واسعا من قبل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية التّابع لقوى الأمن الدّاخلي يرمي إلى تقييد حرية التعبير. (ج) التقارير عن توقيف وملاحقة الأشخاص الذين يُدّعى أنّهم ينتقدُون السّلطات الحكومية وشخصيّات سياسية، بما في ذلك عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي… 46- ينبغي للدولة الطرف أن تضطلع بما يلي: (ج) كفالة تفسير مفهوم الجريمة السيبرانية بما يتّسق وحرية التعبير، (د) الامتناع عن قمع حرية التعبير أو فرض رقابة على التعبير الفني بما يتجاوز القيود الضيّقة المسموح بها بموجب المادة 19 من العهد”[3]. وهذا أيضا ما أدانته المنظمات الدولية غير الحكومية مثل منظّمتيْ العفو الدولية[4] وهيومن رايتس واتش[5] والمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان[6] وتحالف الدفاع عن حرية الرأي والتعبير في لبنان[7] في أكثر من بيان وتقرير.
وعليه، وانطلاقا من أهميّة حرية التعبير في فضح الفساد وتعزيز حق المجتمع بالمعرفة لاسيّما أثناء الأزمات، تتمسّك المفكرة القانونية بأهدافها الاستراتيجية الثابتة وفي مقدمتها الدفاع عن حرية التعبير. لذلك، تخصص، بالشراكة مع مهارات ومركز الأبحاث الإعلامية الأوروبي، هذه الدراسة في إطار مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان” للاطلاع على الاستدعاءات أمام أحد الأجهزة الأمنية، وهو مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، ونتائجها المباشرة وغير المباشرة، وتبعا لذلك، فهم المقاربة المعتمدة من قبل النيابات العامة لقضايا النشر، بصفتها المشرفة على التحقيقات الأوليّة أمام المكتب المذكور. كما تسعى “المفكرة” لاستشراف التوصيّات للجهات المختصّة، بهدف توسيع هامش التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي والحدّ من التجاوزات التي تمسّ بحرية التعبير. علمًا أنّها في صدد إطلاق دراسة أخرى بشأن القرارات الصادرة عن محكمتيْ المطبوعات في بيروت وجبل لبنان ومحكمة التمييز في الفترة نفسها، وذلك بهدف تقييم مستوى حرية التعبير من جوانب عدّة.
تقسم هذه الدراسة إلى فصول ستة: فبعد توضيح الأسباب الموجبة للقيام بهذه الدراسة في الفصل الأول، والمنهجية المعتمدة لهذه الغاية في الفصل الثاني، والإطار القانوني للاستدعاءات أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في الفصل الثالث، نعرض قصصًا ذات دلالة لأشخاصٍ تمّ استدعاؤهم إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة في الفصل الرابع، وصولا إلى استخلاص أهمّ البيانات التي كشفت عنها حالات الملاحقة في الفصل الخامس، والإشكاليات التي ترشح عنها، في الفصل السادس، لنتوصل، على ضوء ما تقدّم، أهمّ العبر والتوصيات المتصلة بكل طرف من الأطراف المعنية في الفصل السابع.
للاطلاع على الدراسة كاملة بصيغة PDF
[1] مؤشر الصحافة، لبنان
[2] الاستدعاءات إلى التحقيق: محاولات لتأديب المنتفضين وردعهم، غيدة فرنجية، المفكرة القانونية، 16/10/2020.
[3] الملاحظات الختامية بشأن التقرير الدوري الثالث للبنان.
[4] صرّحت منظمة العفو الدولية اليوم، بمناسبة إطلاق حملتها الجديدة #رأيي_مش_جريمة لمطالبة البرلمان اللبناني بإلغاء جميع القوانين التي تجرّم التحقير والقدح والذم، إنّه على السلطات اللبنانية أن توقف فورا ملاحقة الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء وغيرهم ممن ينتقدون أصحاب السلطة والنفوذ. العفو الدولية: على السلطات اللبنانية التوقّف فوراً عن ملاحقة الصحافيين والناشطين.
[5] لبنان: موجة من الملاحقات بسبب حرية التعبير: التحقيق مع 29 شخصا على الأقل بتهم القدح والذم منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول، 12/3/2020 وأيضا الحكي عليه جمرك: تجريم التعبير السلمي في لبنان، 15/11/2019.
[6] حرية الرأي والتعبير في لبنان: طبقات متعددة من القيود
[7] أعلن التحالف الذي يضم 14 منظمة دولية ولبنانية، أن النيابة العامّة والأجهزة الأمنية لجأوا “إلى سلوكيات غير ملائمة، وأحياناً غير قانونية، في معظم قضايا التعبير التي وثّقها أعضاء التحالف. في المقابلات التي قام بها التحالف، وصف الأشخاص مجموعة من تكتيكات الاستجواب النفسية والجسدية التي رأوا أنّها تقصّدت إذلالهم، ومعاقبتهم، وردعهم عن نشر محتوى يُعتبر مهيناً أو منتقدًا لأشخاص ذوي نفوذ. كما لجأت النيابات العامة والأجهزة الأمنية التي تتولّى الاستجوابات إلى الضغط على الأشخاص لتوقيع تعهدات تلزمهم إمّا بعدم كتابة محتوى “تشهيري” ضدّ المدّعي في المستقبل أو بإزالة المحتوى فورًا، من دون السماح للمدعى عليهم باستشارة محام قبل مثولهم أمام المحكمة لتقديم دفاعهم؛ وفي بعض القضايا، حتى من دون توجيه اتهامات لهم. هذا في حين يؤكد المحامون اللبنانيون أنّ هذه التعهدات تفتقد إلى الأسس القانونية كونها تشكل تنازلاً عن ممارسة حقوق وحريات أساسية”.