يشهد لبنان الانتخابات البلدية والاختيارية هذا العام بعد أقل من شهر على إبرامه الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، في 10 نيسان 2025، وهو ما انتظره هؤلاء والجمعيات المعنية والشريكة والحقوقيون في لبنان 18 عامًا، بعد توقيع أوّلي عليها في العام 2007. واعتبر إبرام الاتفاقية والبروتوكول الاختياري الملحق بها، خطوة مفصلية تؤكّد التزام لبنان الراسخ بتعزيز وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وبابًا لحوار وطني وورشة تشريعية تهدف إلى ملاءمة القوانين المحلية مع المعايير الدولية.
نحن نتحدث هنا عن حق 15% من سكان لبنان في الاقتراع الحرّ والكريم والمستقل، وهي نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة، عدا آلاف الأشخاص من الذين تسبّب العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان بإصابتهم بإعاقات حركية وبصرية، ومن ضمنهم ضحايا تفجيرات البيجرز في 17 أيلول 2024. كما يبلغ عدد كبار السن 11%، وفق دراسة لمرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، مع توقعات ارتفاع النسبة إلى 23% بحلول 2050. هذا الواقع يفرض تحدّيات متزايدة لجهة ضمان الحق في الدمج، وتذليل المعوقات.
وعلى الرغم من حداثة إبرام لبنان للاتفاقية، شكّل الاستحقاق البلدي والاختياري الذي بدأ في محافظة جبل لبنان، أمس الأحد 4 أيار، محطة تقييمية لتطوّر الاستجابة لنضال الأشخاص ذوي الإعاقة وشركائهم في انتزاع حقهم في الاقتراع بكرامة وحرّية ومن دون ارتهان أو معوقات حاطّة من كرامة الشخص المعوّق وتبقي صوته مرتهنًا.
فقد رصدت جولة “المفكرة” على مراكز الاقتراع تحسّنًا محدودًا حيث استمرّت الكثير من العقبات التي طالما حجبت، أو قيّدت هذا الحق عن فئة واسعة من المواطنين والمواطنات، رغم الإعلان عن بعض الإنجازات اللوجستية.
كما أظهر رصد مندوبي حملة “حقي” الوطنية لتطبيق الحقوق السياسية للأشخاص المعوقين في لبنان بهدف تعزيز المشاركة السياسية للناخبين والناخبات من ذوي الإعاقة، سلسلة انتهاكات لحق اقتراع الأشخاص ذوي الإعاقة، وكذلك وثقت الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات “لادي” ممارسات عدّة تقيّد حقّهم في الاقتراع بكرامة ومن دون عوائق تجعلهم رهينة المتحكمين بهذا الحق، مما يؤثر على حقهم في الانتخاب بحرّية مطلقة.
وتميّز استحقاق الأمس عن الاستحقاقات السابقة بتسليم وزارة الشؤون الاجتماعية وزارة الداخلية اللبنانية قاعدة بيانات وطنية تحتوي على معلومات عن نحو 93 ألف مواطن من الأشخاص ذوي الإعاقة بلغوا السن القانونية للاقتراع من أصل 130 ألف من حاملي بطاقة الإعاقة الصادرة عن الهيئة الوطنية لشؤون المعوقين ومنظمات شريكة، وفق ما أبلغت رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا سيلفانا اللقيس “المفكرة”. ووُصفت الخطوة بـ”التحوّل النوعي”، وجاءت ثمرة جهود مشتركة بين الاتحاد والمنظمات المعنية بالقضية ووزارتي الشؤون الاجتماعية والداخلية، واعتبرت اللقيس أنّها تمهّد لتكييف المراكز الانتخابية، بما يتناسب مع احتياجات ذوي الإعاقة وكبار السن.
متطوعون يساعدون رجلاً مسنّاً للصعود إلى قلم الاقتراع
تقدّم ملموس.. ولكن
تشير رئيسة الاتحاد سيلفانا اللقيس إلى أنّها المرّة الأولى التي يتمّ الاستناد إلى بيانات دقيقة لتحديد أماكن وجود الناخبين من ذوي الإعاقة، ما مكّن وزارة الداخلية من البدء فعليًا بإنزال الأقلام من الطوابق العليا إلى الطابق الأرضي في مراكز الاقتراع، رغم التحدّيات اللوجستية.
وتقول: “في انتخابات سابقة، تمّ اعتماد عيّنات فقط، من دون داتا واضحة، لكن الأمر تغيّر اليوم”، لتضيف: “التجاوب السريع من وزيرة الشؤون حنين السيّد كان محوريًا، إذ أوعزت منذ الاجتماع الأوّل بتسليم وزارة الداخلية البيانات المطلوبة، استنادًا إلى بطاقات الإعاقة للأشخاص في سن الاقتراع”.
ووفق اللقيس، تمّ تدريب أربع مجموعات على مستوى الأقضية، بمشاركة بعض القائمقامين أنفسهم، ما يعكس تبدّلًا إيجابيًا في التعاطي الرسمي مع استحقاق دامج.
ورغم الاعتراف بأنّ نقل الأقلام إلى الطوابق الأرضية ليست مهمّة سهلة بسبب نقص الغرف المناسبة، إلّا أنّ اللقيس ترى أنّ تحقيق نسبة من هذه التعديلات سيكون إنجازًا يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إشراك ذوي الإعاقة في الحياة السياسية، بعيدًا عن مشاهد “الذل والزبائنية والضغط”.
وكانت اللقيس كتبت على صفحتها على فيسبوك أنّها “أخيرًا، بعد عدّة دورات انتخابية ومن حملة حقي القوية، من الأرضي طلع صوتي”، في إشارة إلى أنّها اقترعت في قلم موجود في الطابق الأرضي.
مُساعدة مسنّة عند مدخل قلم الاقتراع
على الأرض: عوائق تتكرر وانتهاكات موثقة
وكشفت جولات “المفكرة” ومراقبي حملة “حقي” وجمعية “لادي” أنّ التحديات ما زالت قائمة. لا أقلام اقتراع في الطوابق الأرضية في معظم المراكز، ولا منحدرات (رامب) تتيح الدخول بالكراسي المتحركة، والمصاعد – إن وجدت – معطّلة أو غير مستخدمة، أو بلا كهرباء، إضافة إلى وضع عوائق لم تراع حق الأشخاص ذوي الإعاقة في المرور الآمن، والقدرة على الوصول إلى مراكز الاقتراع.
وتكرّر خلال العملية الانتخابية حمل المسنّين والأشخاص ذوي الإعاقة على حمّالات إلى الطوابق العليا، ومن هؤلاء السيّدة فاطمة، امرأة مُسنّة حُملت بصعوبة إلى الطابق الثالث. تقول لـ “المفكرة”: “تردّدت بالمجيء لكي لا يحملونني وتزداد أوجاعي، لكن ابني أصرّ”. أما كمال الذي يعاني من مشاكل في الرئة، فقد تحدّث لـ “المفكرة” عن معاناته خلال الصعود إلى الطابق الأول فقط “أنا تعبان، حسّيت إنّي طلعت ع الطابق العاشر قد ما تضايقت”، وغيرهما من شهادات أخرى تلخّص حجم التحدي.
وقد نشرت حملة “حقي” فريقًا ميدانيًا ضمّ 100 مراقب ومراقبة، رصدوا مدى التزام المراكز الانتخابية بالمعايير المطلوبة، لا سيما من حيث سهولة الوصول، وتجهيز المرافق العامة والخصوصية في ممارسة الاقتراع.
وفي ختام اليوم الانتخابي، أشارت الحملة إلى تسجيل تطوّر ملحوظ في اعتماد غرف في الطوابق الأرضية كأقلام اقتراع، وفي بعض الحالات، تمّ استحداث أقلام في باحات المدارس. ومع ذلك، برزت سلسلة من الانتهاكات والملاحظات السلبية التي وثقها المراقبون، أبرزها:
عدم إزالة العوائق الموجودة أمام عدد من المراكز الانتخابية، بل وإضافة عوارض حديدية وجنازير في بعضها، إقفال الأبواب الرئيسية المجهّزة بمنحدرات، وفتح أبواب جانبية غير ملائمة، استمرار مشهد حمل الناخبين المعوقين وكبار السن على الأدراج، بما يشكّل انتهاكًا لكرامتهم وسلامتهم، عدم تشغيل المصاعد رغم توفر الكهرباء في بعض المراكز، منع بعض الناخبين من الأشخاص ذوي الإعاقة من الاستعانة بمُرافق يختارونه، في مقابل تدخل غير قانوني من مندوبي بعض المرشحين لمساعدتهم في التصويت أو تحريك صندوق الاقتراع، عدم تكييف العازل الانتخابي مع احتياجات المقترعين المعوقين، حيث وُضع في زوايا ضيقة لا تسمح بدخول الأشخاص ذوي الإعاقة مع كراسيهم المتحركة، أو فوق مصاطب، ما جعل استخدامه شبه مستحيل، وأخلّ بسرّية الاقتراع.
عناصر الدفاع المدني يساعدون مسنّة لا تستطيع صعود الدرج
ونشرت الحملة على صفحاتها عددًا من الأمثلة التوضيحية، منها:
في متوسطة الشهيد عبد الكريم الخليل الرسمية (الشياح)، وجد منحدر مناسب لذوي الإعاقة، إلّا أنّ وجود دراجة نارية وكرسيّ عليه جعله غير صالح للاستخدام، فيما أُقفل الباب المؤدي إليه، واستخدم بدلًا منه مدخل جانبي غير مجهّز.
في ثانوية جبيل الرسمية، سُجّل تطوّر إيجابي من خلال استخدام غرف الطابق الأرضي كأقلام اقتراع، وتوفير سهولة وصول جيدة.
في ثانوية بكفيا الرسمية، حُرم ناخب معوق من ممارسة حقه باستقلالية، إذ قام مندوب أحد المرشحين بالتصويت عنه، كما لوحظ أنّ العازل الانتخابي لم يضمن السرية.
في مدرسة الغبيري الرسمية الأولى، وضعت عوائق معدنية وجنازير أمام المدخل، ما حال دون وصول المقترعين المعوقين.
وفي معظم المراكز غير المجهزة، لوحظ استمرار ظاهرة حمل الناخبين المعوقين على الأدراج.
وواكبت جمعية “لادي” العملية الانتخابية عبر نشر 300 مراقب ومراقبة، ثابتين ومتجوّلين، على المراكز والأقلام لرصد الأداء الانتخابي ورفع تقارير مفصّلة بشأن المخالفات وسير العملية.
ومن المخالفات التي رصدتها: أنّ الكثير من مراكز الاقتراع غير مجهّزة لاستقبال الناخبين المعوقين.
ورصدت في القلم رقم 2 في مدرسة الإليزيه في الحازمية دخول سيّدة من ذوي الإعاقة للاقتراع، إلّا أنّها بقيت خارج العازل، فيما دخل أحد المندوبين وأدلى بصوتها نيابة عنها، وهو ما يعدّ خرقًا لسرية الاقتراع.
سيدة على كرسي مدولب خارج العازل بينما المندوب يصوّت عنها
اعتذار رسمي ومصارحة
وزير الداخلية محمد الحجار لم يتوان عن الاعتذار علنًا من الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن خلال جولته على مراكز الاقتراع. وأوضح للإعلاميين أنّ الوزارة قامت “بجهد كبير” بعد تسلّم البيانات من وزارة الشؤون، لكنها واجهت صعوبات لوجستية في استثمار هذه البيانات بالشكل الأمثل، مع إشارته إلى نقل بعض الأقلام فعليًا إلى الطابق الأرضي. وكانت وزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيّد قد ذكّرت بدور الوزارة في لجنة إعداد المرسوم التطبيقي 2214/2009 المتعلق بتسهيل عملية اقتراع الناخبين المعوقين، مشيرة الى أنّه بعد توقيع رئيس الجمهورية وثيقة إبرام الاتفاقية الدولية “تقع على عاتقنا في وزارة الشؤون الاجتماعية مسؤولية مضاعفة في نشر مبادئ الاتفاقية وترسيخها ثم فتح حوار دائم مع الوزارات المعنية ومنظمات الأشخاص ذوي الإعاقة”. وقد أشار الحجّار إلى اتخاذ الوزارة خطوات عملية من شأنها تمكين الأشخاص المعوقين حركيًا من ممارسة حقهم في العملية الانتخابية باستقلالية وكرامة. وأكد أنّ أبرز الخطوات التي تعمل الوزارة جاهدة على تطبيقها “اعتماد أقلام اقتراعية في الطوابق الأرضية وتعيين جهة خاصة للتنسيق ومتابعة تنفيذ الإجراءات وتذليل العقبات”. مع ذلك، لفت إلى الصعوبات في تدقيق البيانات وضيق الوقت، لكنه أكد على أنّه بالرغم من ذلك تعمل الوزارة جاهدة لتحقيق ذلك.
وكانت حملة “حقي”، وبدعم من وزارتي الداخلية والشؤون، قد درّبت الموظفين في الأقلام الانتخابية على كيفية التعامل مع الناخبين ذوي الإعاقة، واحترام خصوصيّاتهم، وتوفير التسهيلات اللازمة. وأوضحت حنين الشمالي، المديرة التنفيذية للاتحاد، لـ”المفكرة” أنّ الحملة اختزلت مطالبها بنقطة محورية: “اقتراع من الطابق الأرضي”، مؤكّدة أنّ هذه المرّة “كسرت جزءًا من حجّة ‘ما في مصاري، وما فينا'”.
سابقة انتخابية: الترشح لا الاقتراع فقط
وفي تطوّر لافت هذا العام، ترشّح أكثر من سبعة أشخاص من ذوي الإعاقة في المحافظات المختلفة من لبنان في خطوة وُصفت بأنّها “كسر للصورة النمطية”، ودليل على إرادة هذه الفئة في خوض الحياة العامة وتمثيل قضاياهم بأنفسهم.
وسُجّل ترشح كل من منال شعيا (عاليه) وهادي رياض بو حمدان (الشوف) في محافظة جبل لبنان، وصفاء عيتاني وأمل شريف في محافظة بيروت، وتوفيق علوش في طرابلس (شمال لبنان)، وزينب عثمان وعمر عباس في بعلبك.
رغم كلّ الصعوبات، يبقى الأمل ببداية مسار جديد نحو مشاركة سياسية أكثر عدالة لجميع المواطنين والمواطنات من دون أي تمييز وأي ارتهان وبكل كرامة وحريّة. وإذا كان نقل 100% من الأقلام إلى الطوابق الأرضية لا يزال بعيدًا، فإن الوصول اليوم إلى نسبة ولو متدنية من هذا الإجراء، يُعدّ حجر أساس يستحق البناء عليه. وثمة أمل في أن يتضاعف عدد الناخبين من ذوي الإعاقة المشاركين في العملية الانتخابية ليصل إلى 50 ألفًا هذه الدورة، وفق اللقيس، كخطوة نحو تمثيل حقيقي يليق بالمواطنة الكاملة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.