في فجر 2 شباط 2019، حصل اعتداء على مبنى تلفزيون الجديد في بيروت -وطى المصيطبة بقنبلة يدوية أدت إلى أضرار اقتصرت على الماديات. وقد أوضحت الجديد من خلال نشرات الأخبار أن الاعتداء حصل على خلفية بث تقرير ساخر ضمن البرنامج الكوميدي قدح وجم، حيث ترمز إحدى شخصياته أبو القعقاع إلى فئة من الدروز مؤيدة للزعامة الدرزية (وليد جنبلاط). وقد صوّر البرنامج هذه الشخصية على أنها تستقوي كلاميا فيما هي ضعيفة واقعيا وتنتقص إلى الشجاعة.

وفيما تمكنت الجديد من تحديد هوية الفاعل (الشيخ مازن اللمع مؤيد للحزب الاشتراكي بحسب الجديد)، سارع جنبلاط ليعلن أنه موجود لديه “وسيتم تسليمه في الظروف المناسبة”. وفي المقابل، تقدّم جنبلاط بدعوى باسم الحزب ضد قناة الجديد أمام النيابة العامة التمييزية على خلفية البرنامج الكوميدي وما اعتبره قدحا وذما فيه.

وتشكل هذه القضية بمضمونها وتشعباتها تجليا جديدا لنظام المقامات الذي كانت “المفكرة” اعتبرته التحدي الأساسي أمام الاعتراف بحرية التعبير في لبنان. وهي تعتبره أيضا وفي الوقت نفسه التحدي الأبرز أمام استقلال القضاء حسبما يتحصل من تأخير تسليم الفاعل. وعليه، نقرأ في مقال نشر مؤخرا في العدد 57 من مجلة “المفكرة” تحت عنوان: “نظام المقامات” وهو “النظام الذي يكون فيه الاعتبار الأول للمقام المطلوب احترامه وقد يكون سياسيا أو دينيا. وعليه، يعتبر أيّ تعرّض لأيّ من هذه المقامات في عمقه تشكيكا بقدسية هذا المقام أو قوته أو مشروعيته، ويكون على مناصري هذا المقام التصدي بقوة لهذا التعرض، بهدف إغلاق الباب أمام أي تشكيك مستقبلي مماثل”.

 

قنبلة ردا على مشهد ساخر

إذن، بتاريخ 31 كانون الثاني 2019 عرض تلفزيون الجديد ضمن البرنامج السياسي الكوميدي “قدح وجم” “سكتش” ساخرا، تمحور حول حادثة تدور بين شخصية “أبو قعقاع” يمثلها الممثل فادي شربل، وشخصية “شفيقة” التي يمثلها الممثل كلود خليل. أبو قعقاع الذي يواظب على الظهور في برنامج “قدح وجم” ينتمي إلى طائفة الموحدين ويلبس الشروال الأسود، وهو مؤيد للحزب التقدمي الاشتراكي ويظهر ذلك بوضوح من صورة رئيسه وليد جنبلاط التي يضعها على صدره. يُظهر “السكتش” شفيقة تتصل بـ أبو قعقاع لتطلب منه أن يسعفها إلى منزلها بسبب وجود حية (ثعبان) تحت الكنبة، فيجيبها: “أبو قعقاع بيأكل رأس الحية”…. ثم يتوجه أبو قعقاع إلى منزل شفيقة ويروي لها التالي: “أنا بحرب الجبل أكلت رأس القوات، وبحرب سوق الغرب أكلت رأس العونية، وفي 7 أيار أكلت رأس الحزب”. وبعدما يعرض أبو قعقاع قدراته يذهب إلى الكنبة سعياً ليأكل الحية الموجودة تحتها، فيغيب عن الوعي. عندها، تيقظه شفيقة، فيقول لها أنا “قبل ما آكل رأس الحية بأخذ غطّة…”. ثم يسألها إن كان عندها حفاض للدلالة على أنه تبول بملابسه رعباً. وقد أظهر هذا الأمر هذه الشخصية على أنها شخصية ضعيفة تجيد تعلية الصوت إزاء قوى طائفية أخرى، فيما هي تخشى جدا الخوض في معركة فعلية مع أي منها.

بعد عرض السكتش، توالت ردود الأفعال الغاضبة على تلفزيون الجديد وبرنامج قدح وجم، وتمثلت الردود بتنديدات على وسائل التواصل الاجتماعي، وبتسجيلات صوتية أُرسلت إلى بعض موظفي الجديد وتضمنت تهديدات وفق ما أعلنته هذه المحطة. وفجر السبت أي بعد يوم من عرض التقرير، شهد تلفزيون الجديد حركة احتجاجية من قبل بعض الشبان أمام مبنى الجديد في وطى المصيطبة في بيروت عند قرابة الساعة الواحدة فجراً، ونحو الساعة الرابعة فجراً تم رمي قنبلة يدوية على مدخل المبنى، وألحقت بشظاياها أضرارا اقتصرت لحسن الحظ على الماديات. وتمكن التلفزيون من التعرف على هوية رامي القنبلة عبر رقم السيارة العائدة له التي رصدتها كاميرات المراقبة، فتبين أن السيارة تعود للشيخ مازن اللمع، المؤيد للحزب التقدمي الاشتراكي، بحسب ما نقله تلفزيون الجديد. بعد ذلك أعلنت الجديد أنها تضع هوية الفاعل بعهدة الأجهزة الأمنية، وتقدمت بشكوى ضد مازن ومجهولين.

ومن خلال ذلك، شهدنا ردة فعل طائفية وصلت إلى درجة من العنف. ففيما لمح البرنامج إلى ضعف لدى الطائفة الدرزية، أتت ردود الأفعال لتثبت أن اتهام الطائفة وضمنا زعيمها بالضعف ليس بمحله وأن العديد من أبنائها ما زالوا قادرين على كتم من يتجرأ على المس بها. ويلحظ أن هذا الاعتداء حصل قبل أن يعود الحزب الاشتراكي ويتقدم، للمرة الأولى حسب علمنا، بدعوى قدح وذم وتشهير وإثارة النعرات الطائفية ضد القناة وبرنامج “قدح وجم” على خلفية مشاهد هذا البرنامج. بحديث مع مفوضة العدل في حزب التقدمي الاشتراكي المحامية سوزان إسماعيل من أمام قصر العدل، رأت بأن “التقرير الذي عُرض في برنامج قدح وجم “يتعرض لكرامة رجال الدين الموحدين الدروز، ويساهم في نكء جراح الحرب”. ولهذا، تعتبر إسماعيل أن “الحزب التقدمي الاشتراكي تحرك أمام القضاء لأجل المحافظة على الوحدة الوطنية والعيش المشترك”. وعلى جهة موازية، تشير إسماعيل إلى أنه “نحن كحزب نؤمن بالحريات ونحن حريصون على حرية والإعلام لكن هذا تخطى موضوع الحريات”.

بالمقابل، توضح الوكيلة القانونية لتلفزيون الجديد مايا حبلي لل “المفكرة” أنه “قبل الاعتداء بالقنبلة على الجديد، وصلنا تهديدات متتالية، وشهدنا حالة شحن ضد محطة الجديد”. وتضع حبلي التهديدات والاعتداء على الجديد بصورة “الأفعال المنظمة والتي حصلت بفعل تحريض عام من الحزب التقدمي الاشتراكي”. وتشير إلى أنه “لا زالت التهديدات تصل من أشخاص يرسلون رسائل صوتية، والمستغرب أنهم يعلنون عن هوياتهم الكاملة ومكان سكنهم. بالإضافة إلى أنه “تم تعليق يافطة أمام مبنى التلفزيون كُتب عليها “كلنا مازن اللمع”. وتوضح حبلي بأن إدارة المحطة لا تضع رقابة مسبقة على معدي البرامج، ولا ترغمهم على الامتثال لرؤيتها، بسبب إيمانها بالحريات الإعلامية ضمن حدود الحرمات الشخصية للأفراد”.

وكان خليل حاول تبرير نفسه في حديث أدلى به لمحطة الجديد مفاده بأن أبو القعقاع “ليست رجل دين، ولم أستخدمها لإرسال رسالة سياسية لوليد بيك”. وأضاف خليل: “أبو القعقاع ظهر على المؤسسة اللبنانية للإرسال لنحو ثلاث سنوات ولم يُشكل محل اعتراض آنداك علماً أن السكتشات كانت أقسى من هذه المرة، لماذا الاعتراض على تلفزيون الجديد؟ وأوضح خليل أن حساسيات المجتمع اللبناني أصبحت متزايدة.

 

استقلال القضاء رهن بالاتفاق مسبقا على أحكامه؟

لم تتوقف تبعات نظام المقامات على هذا الحدّ. فتماما كما تحركت قوى طائفية لمواجهة ما اعتبرته استضعافا لها سرعان ما برزت قوى أخرى بقيت مستترة، ترى أن تسليم الفاعل الذي ألقى القنبلة سيكون بمثابة ضعف مهين، وبخاصة في حال تم توقيفه وإدانته. تبعا لذلك، لم يتم حتى اللحظة القبض على المعتدي أو على من عاونه، رغم أن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس استناب الأجهزة الأمنية، وعاد وكلّف جهاز مخابرات الجيش بشكل خاص بالتحقيق في هذه القضية.

ولم يجد النائب والوزير السابق جنبلاط حرجا في الاعتراف بأن الشخص المطلوب هو لديه، وأنه سيسلمه في الوقت المناسب، بما يعني ضمنا انه يرفض تسليمه في الوقت الحاضر وأنه لن يسلمه إلا في حال اكتمال شروط معينة لواقعة التسليم. وهذا ما أشارت إليه اسماعيل، التي شرحت أن “الظروف الاجتماعية استدعت عدم تسليمه حالياً” وإن أكدت أنه سيتم تسليمه.

وقد بدا جنبلاط وكأنه يعتمد صيغة “شو وقفت عليي” لتبرير موقفه. وعليه، أشار إلى الحماية السياسية التي يحظى بها المسؤول الأمني في الحزب الديمقراطي “أمين السوقي” المتهم بقتل علاء أبو فرج، وأيضا الشخص الذي قتل محمد أبو ذياب، مرافق الوزير السابق وئام وهاب، كل ذلك في حديث إلى مراسل تلفزيون “الجديد” في 3 شباط 2019. وقد بدا جنبلاط من خلال موقفه العلني هذا، وكأنه يخوض تحدي إثبات وزنه السياسي من خلال ضمان معاملة مناصريه بشكل متساوٍ لمناصري خصومه أو كأنه يسعى إلى امتصاص نقمة مشايخ الدروز لما بدا استضعافا للطائفة. وقد تعزز هذا الموقف بالدعوى المقدمة من الحزب الاشتراكي (وهي الأولى من نوعها كما سبق بيانه) وقوله إن شخصية أبو القعقاع ترمز إليه وليس إلى المشايخ.

يبقى أن نعرف ماهية الوقت المناسب. هل هو الوقت الذي يحتاجه لامتصاص نقمة المشايخ وإقناعهم بضرورة تسليم الشخص المطلوب للعدالة، للحصول على تنازل من “الجديد” عن حقوقها الشخصية بما يتصل بإلقاء القنبلة، أم وهذا الأخطر، لإنجاز تسوية سياسية قضائية معينة، يضمن فيها الحزب الاشتراكي وجهة التحقيق والقرار بما يتصل بأحد أتباعه قبل تسليمه؟ أيا يكن المقصود، نحن هنا في معرض عرقلة لعمل القضاء في أحسن الحالات وفي معرض تدخل سافر في عمله في أسوئها.

فهل تنتصر العدالة على نظام المقامات، فتسقط الحصانات ومعها الحساسيات غير الطبيعية؟ بالطبع، العدل المطلوب هنا ليس العدل بحق أتباع الاشتراكي وحده، إنما العدل بحق كل من سولته نفسه الاعتداء على الغير دفاعا عن شرف الزعيم أو الطائفة. وهي اعتداءات تحصل بشكل متكرر من أشخاص يظهرون بشكل علني انتماءهم لأحزاب سياسية. فلا ننسى أن اعتداءات كثيرة حصلت في الآونة الأخيرة من أنصار ومؤيدين لزعامات طائفية عدة، من دون أن تلقى أي ملاحقة.

مقالات ذات صلة:

نظام المقامات في لبنان