تسَاوق العُدوَان الأخير الذي مارسته دولة الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني مع عودة الجدل الشعبي والسياسي في تونس حول المصادقة على قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وتعود بدايات ظهور النقاش السياسي والقانوني حوله إلى سنة 2012، عندما رفضتْ كتلُ الائتلاف الحاكم في المجلس التأسيسي بقيادة حركة النهضة الإسلامية المصادقة على مقترحات متعلقة بالتنصيص على تجريم التطبيع في الدستور التونسي الجديد، أو التشديد على الصهيونية كحركة عنصرية في توطئة الدستور، في فقرتها المتعلقة بـ”مناهضة كل أشكال الاحتلال والعنصرية”.
لم تُكتب لمشاريع قوانين أخرى الوصول إلى الجلسة العامة على غرار مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي تقدمت به كتلة الجبهة الشعبية في نوفمبر 2015، ومشروع قانون آخر مشابه تقدم به نواب من كتل برلمانية مختلفة في أفريل 2018، وعلى الأرجح تم سحب هذا المشروع لأنه يعود إلى الحقبة البرلمانية السابقة (2014-2019)، ويوجد الآن مشروع قانون وحيد بمجلس نواب الشعب بادرت به الكتلة الديمقراطية المعارضة في ديسمبر 2020.
كان الغضب الشعبي الأخير كافيا لإجبار مختلف الكتل البرلمانية على القبول بمبدأ تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني والتصويت يوم الجمعة 21 ماي 2021 عبر ممثليها داخل مكتب المجلس لصالح استعجال النظر في مشروع القانون، باستثناء رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي التي رفضت التصويت. ولكن هذا الإجماع البرلماني الذي فرضته إكراهات الضغط الشعبي لن يبدّد فصول المناورات وازدواجية المواقف السياسية التي عاشتها مقترحات تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني طيلة حوالي تسع سنوات. وعلى الأرجح سيكون قانون تجريم التطبيع الأكثر عرضة للتأويل والتأجيل والعقبات السياسية والقانونية خلال هذه الحقبة البرلمانية.
معارك التأويل القانوني القادمة
يحتوي مشروع قانون تجريم التطبيع المُودَع لدى لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب على ثمانية فصول، تتضمن تعريفا لجريمة التطبيع ومرتكبيها والعقوبات المتصلة بها. ورغم أنّ الموجة الشعبية والحقوقية الواسعة المطالبة بتجريم التطبيع لم يرافقها جدل قانوني حول المشروع وإنما اكتفت بدفع مجلس نواب الشعب نحو الشروع في النقاش حوله واستعجال النظر فيه، إلا أن الصيغة الحالية للقانون تظل مفتوحة على الكثير من المؤاخذات الوجيهة، خاصة في الجزء المتعلق بالعبارات العامة التي تُحيل على “محاولة التطبيع” أو التطبيع “غير المباشر”. يضاف إلى ذلك هشاشة تعريف التطبيع في حد ذاته، مما يجعل مبدأ التجريم داخل النص غير محدّد بدقة وعرضة للتأويلات، وقد يشكّل في المستقبل القريب مدخلا للضغط وإسقاط مشروع القانون من قبل المجموعات المؤيدة للتطبيع. وعموما لا توحي الصيغة الرسمية المُودعة لدى مجلس نواب الشعب بوجود اجتهادات قانونية وسياسية كبيرة أثناء صياغة النص، مما يجعله عرضه للتجريح والنقد.
في هذا السياق، لم تنفِ الجهة المبادرة بالمشروع انفتاح الصيغة الحالية للقانون على تعديلات جديدة أثناء نقاشه داخل لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية. وقد أرجع نبيل حجي النائب عن الكتلة الديمقراطية، في تصريح إعلامي، ضعف النصوص القانونية إلى الاجتهاد الذاتي للنواب في صياغة مشاريع القوانين دون أن تكون لبعضهم دراية بالقوانين، مما يجعل النص القانوني “حماّل أوجه” على حد تعبيره.
ضغوط إسرائيل وحلفائها
تزامن الجدل البرلماني حول قانون تجريم التطبيع مع جلسة حوار بمجلس نواب الشعب حَضَرها محافظ البنك المركزي مروان العباسي يوم الجمعة الفارط، وتضمنت نقاشا حول المفاوضات التونسية مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قروض جديدة. ودعا خلالها محافظ البنك المركزي إلى ضرورة الانخراط في “لوبيينغ سياسي” من أجل تسهيل النقاشات مع الهيئة الدولية المانحة. ومن الملاحظ أن الجانب المالي تمّ استخدامه في الجدل السياسي حول مشروع قانون تجريم التطبيع، وكحجة بارزة لإبداء التحفظ إزاء الإقدام على هذه الخطوة التشريعية. فقد أشار عماد الخميري رئيس كتلة حركة النهضة الداعمة لحكومة هشام المشيشي، إلى أن حركته منفتحة على كل المبادرات التشريعية الداعمة للقضية الفلسطينية بشرط استشارة مؤسسات الدولة وخاصة الأطراف الممسكة بالملف المالي. ويلوح أن الموقف الرسمي لحركة النهضة كان يدفع في اتجاه مسايرة حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني دون الذهاب بعيدا في تبني مبادرة تجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وقد سبق وأن برّرت حركة النهضة تحفظها حول سن قانون يجرم التطبيع بوجود ضغوطات عربية ودولية. فقد أشار علي العريض، نائب رئيس حركة النهضة، إلى أن قانون تجريم التطبيع من شأنه أن يثير “مشكلات لتونس مع الدول العربية ومع الدول الغربية وحتى مع مؤسسات أممية، لأن فيه إفراد لتونس بشيء لا حاجة لها به”.
ورغم أن حركة النهضة تشهد مواقف أخرى مساندة لتجريم التطبيع دون تحفظات، فإن الائتلافات الحزبية التي حكمت تونس طيلة العشر سنوات الفارطة لم تبدِ تحمّسا كبيرا للمصادقة النهائية على مبادرة تشريعية تُجرّم التطبيع مع إسرائيل. فقد سعى حزبا النهضة ونداء تونس خلال الحقبة البرلمانية السابقة إلى تعطيل مشروع القانون داخل لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية. ويندرج الموقف التونسي الرسمي ضمن إطار علائقي مع الدول الغربية والمؤسسات الدولية المانحة تُهيكله شروط التفاوض الإملائي. ولن ترحب هذه الهيئات -التي تقف موضوعيا في معسكر التشجيع على التطبيع- بمبادرات تشريعية تزيد من عزلة اسرائيل وتحمل دلالات رمزية وسياسية ثقيلة على المشروع الصهيوني وتقوض مشروعية تواجده في المنطقة.
في 06 أوت 2020، شهدت أروقة الكونغرس الأمريكي عرضا لمشروع قانون أطلِق عليه ” قانون تعزيز الإبلاغ عن الإجراءات المتخذة ضد تطبيع العلاقات مع إسرائيل لعام 2020″، قام بعرضه كل من السيناتور الديمقراطي كوري بوكر والسيناتور الجمهوري روب بورتمان. ويطالب هذا القانون وزارة الخارجة الأمريكية بتقديم تقارير سنوية حول انخراط الحكومات العربية في القيام باجراءات سياسية وقانونية مناهضة للتطبيع مع إسرائيل. ويصف القانون المواقف المكافحة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بأنها “تحكم فعليًا على هذه المجتمعات بالقطيعة المتبادلة، وبالتالي تقلل من إمكانية المصالحة والتسوية”. وفي السياق نفسه، تبنّت الجمعية العامة بالبرلمان الفرنسي في فيفري 2019 -وبأغلبية ضعيفة- لائحة تؤيد توسيع مفهوم معاداة السامية ليشمل أيضا معاداة الصهيونية، وقد لقي هذا النص الذي جاء منسجما مع أفكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معارضة من قبل نواب في الجمعية العامة وعدد واسع من المثقفين الفرنسيين.
هذه المواقف الدولية الضاغطة تدفع الموقف الرسمي التونسي نحو “التنسيب السياسي” وبناء خطاب سياسي متحفظ عموما من تحويل مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى حالة تشريعية مكتملة. ومن المنتظر أن تواصل الدول الغربية والمؤسسات الدولية ضغوطاتها على الموقف التونسي من أجل التراجع عن هذه الخطوة.
تجريم التطبيع بوصفه مدخلا لمقاربة سيادية أشمل
إن تحكيم المُعطى الخارجيّ في مسألة تجريم التطبيع، بصفته عاملا قَدَريّا ودون وضوح مُقنع لأضراره المحتملة على الاقتصاد والمجتمع، يُحيل في حقيقة الأمر على حالة “المحافظة” و”التذيل” التي يعيشها العقل الدبلوماسي الرسمي في تعاطيه مع الملفات الخارجية، خاصة في جزئيها الاقتصادي والمالي. فباستثناء إعادة انتاج السياسات الخارجية القديمة القائمة على صياغة علاقات وشراكات اقتصادية وسياسية مختلة لصالح الخارج –وبأقل حرفية في معظم الأحيان- لم تُراكم منظومة ما بعد 14 جانفي 2011 سياسات خارجية متناسبة مع الوضع السياسي والشعبي الذي أفرزته الثورة، ومتجهة نحو مراعاة الحاجيات والمطالب الاقتصادية المعقدة لمجتمع أكثر دينامية، وتبحث مختلف فئاته الشعبية عن فرص عدالة ومساواة أكثر، وتُقيم وزنا أكثر من ذي قبل لفكرة الكرامة.
وفي ظل بروز موجة الدبلوماسيات الحزبية والفردية المرتبطة بالصراعات الإقليمية والعالمية غاب المعطى السيادي-الوطني في تحكيم إدارة تونس لملفاتها الخارجية. وسيحمل هذا السياق تأثيراته على مشروع تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في تونس، لأن المصادقة عليه ستشكل قطيعة مؤقتة داخل مسارات الخضوع والامتثالية. وسيجد الائتلاف الحاكم إحراجا كبيرا في التسويق له في الخارج، لأنه يشكل بالنسبة إليه قوسا حزينا ويمكن تبريره فقط بالضغط الشعبي والاعتدءات الصادمة للاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. وفي صورة المصادقة على هذا القانون، يرجح أن تتّجه الكتل البرلمانية الحاكمة إلى إقناع الدول والمؤسسات المانحة بأنه لا يعكس تحولا هيكليا في الدبلوماسية التونسية في اتجاه تبني مقاربة سيادية أشمل، وإنما لا يعدو أن يكون سحابة صيف ذاهبة نحو الزوال.