ألقيت هذه الكلمة في المؤتمر الصحافي الذي عقدته المفكرة القانونية وكلنا إرادة في فندق مونرو بتاريخ 3 أيلول 2019 تحت عنوان “تعطيل حق الوصول للمعلومات هو تحصين للفساد”.
أسعد ذبيان
منذ العام 2017، تحاول الدولة اللبنانيّة الخروج بمظهر لائق في المحافل الدوليّة وإظهار أنّها تحاول مكافحة الفساد بعدما وصل العجز المالي لمرحلة يصعب معها استخدام الحلول الترقيعيّة. ولهذا أخرج المشرّع اللبناني في شباط 2017 من جواريره قانون حق الوصول إلى المعلومات بعد 9 سنوات من تقديمه كمشروع قانون. تمّ التصويت على القانون بالإجماع ومن دون أي اعتراض، واستخدم إقراره في الصفحات الأولى التي قدمتها الدولة اللبنانيّة للمجتمع الدولي في مؤتمر “سيدر” لحث المانحين الدوليين على تقديم رزمة جديدة من الديون والمنح يقال أنّها قد تكون الأخيرة لإنقاذ السلامة الماليّة للدولة اللبنانيّة. تلا هذا القانون قانونا “حماية كاشفي الفساد” و”الشفافيّة في قطاع البترول”، ولكنّ هذه القوانين بقيت بعض موادها معلّقة حتّى إقرار قانون إنشاء “الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد”. إنّ الأطر التشريعيّة الأساسيّة لإنشاء هذه الهيئة كادت تنجز عند إقرار المجلس النيابي لقانون مكافحة الفساد. ولكن سرعان ما تبخّرت الآمال بعدما ردّه رئيس الجمهوريّة متذرعاً بنقاط كان يمكن حلّ معظمها عبر النقاشات في مجلسي النواب والوزراء وبمراسيم تطبيقيّة تذلل العقبات.
هذه المراسيم التطبيقيّة التي من شأنها أن تفسر أو تسهل نفاذ القوانين، باتت الشمّاعة التي تستعملها اليوم الإدارات الحكوميّة لتستمر في نهج التعتيم وغياب الشفافيّة والرد على طلبات المعلومات. في العام 2018، أسست مبادرة غربال لتكون صلة الوصل بين المواطن والسلطة، ولتمارس دوراً رقابياً من خلال التأكد على عمل مؤسسات الدولة وتطبيقها القوانين لا سيّما تلك المتعلّقة بالشفافيّة، وشرح القوانين والقرارات للمواطنين والمواطنات، وتمكينهم من نقل النقاش السياسي من نقاش غرائزيّ طائفيّ يعتمد المحاصصة إلى نقاش علميّ مبنيّ على الأرقام والحقائق وهدفه حسن الإدارة وتمكين المؤسسات.
اضطررنا في العام 2018 لشرح قانون حق الوصول إلى المعلومات لأكثر من 100 إدارة عامة، وهو قانون لم تتوقع السلطات السياسيّة على ما يبدو أن يتلقفه الأفراد والمجموعات والمؤسسات ويصرّوا على تطبيقه. وعلينا أن ننوّه بتعاون العديد من الإدارات العامّة والموظفين العامّين واستعدادهم لتطبيق أحكام القانون، ولكنّ هذه الفئة لم تتجاوز الـ 18 إدارة من أصل 133. ثمّ عملنا لمدة عام على مراقبة موزانة الدولة اللبنانيّة والنفقات المعقودة في العام الأول الذي شهد موازنة صادرة عن المجلس النيابي (أي العام 2017). وعلى الرغم من تحسّن النتائج في رد أكثر من 65 إدارة من أصل 140 على طلباتنا، إلا أنّ 32 فقط هي التي زودتنا ببياناتها وحساباتها الماليّة. أمّا العيب الأكبر فتمثّل بالرئاسات الثلاث: التي لم تكتف بعدم التعاون بل جهدت لعرقلة تطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومات. رئاسة مجلس النواب والتي صدر عنها القانون، رفضت إستلام الطلب وتسجيله، وبعد اضطرارنا لإرساله بالبريد المضمون، رفضت تزويدنا برد خطّي وأحالتنا على وزارة الماليّة عوضاً عن تقديم مستندات تمتلكها. رئاسة الجمهوريّة والتي يفترض بها حسب بروباغندا العهد القويّ ومكافحة الفساد أن ترد على طلبنا، حاولت التنصل برمي المسؤوليّة على وزارة المالية ورئاسة الحكومة، واستخدمت شمّاعة إصدار المراسيم التطبيقيّة قبل إجابتنا على حق مكفول بالقانون، مخالفة آراء هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل والتي تحمل الأرقام 441/2017، 890/2018، و951/2018.. ثمّ كان رد رئاسة الحكومة التي أرسلت منه نسختين متطابقتين لكلّ من “مبادرة غربال” و”المفكرة القانونيّة – كلّنا إرادة” والذي يحمل في طيّاته تفسيراتٍ قانونيّة أقل ما يقال فيها بأنّها معيبة أن تصدر عن رئاسة حكومة تسعى جاهدةً لتعطي انطباعاً بأنّها تعمل على تطوير الإدارات العامّة وتحقيق الشفافيّة ومكافحة الفساد. الرد الصادر عن رئاسة الحكومة والذي نترك للخبراء القانونيين والمشرّعين أن يفندوا ضعف حججه، لا يمكن وصفه إلا بأنّه إعاقة معيبة لحقوق مكتسبة وتذرّع وهمي بمراسيم تطبيقيّة يخشى أن يكون صدورها لتضييق مفهوم القانون وتفريغه من مضمونه. العيب الأكبر هو في أنّ ست من الإدارات العامّة والتي تتبع تنظيمياً لرئاسة الحكومة قامت بالفعل بالرد على الطلب ذاته وتزويدنا بالمعلومات المتعلّقة ببياناتها الماليّة وأبدت تجاوباً وحرصاً على نفاذ القانون.
منذ ثلاثة أعوام والدولة اللبنانيّة بمؤسساتها وعلى لسان الزعماء السياسيّين ورؤساء أكبر الكتل السياسيّة بمختلف أطيافها تعزف سيمفونيّة مكافحة الفساد. منذ ثلاثة أعوام، وكل الكتل السياسيّة تبرز بطولاتٍ وهميّة في إقرار قوانين وتعد بالمحاسبة والتنظيم وحسن الإدارة. منذ ثلاثة أعوام، والتهديد والتهويل بالإنهيار المالي والإقتصادي إن لم تحصل الإصلاحات معزوفة شبه يوميّة. منذ ثلاثة أعوام، ورؤساء البلاد الثلاثة وزعماء الكتل الست الكبرى، يقفزون من عاصمة دوليّة إلى مؤتمرٍ عالميّ ليتغنوا بإقرار قوانين سبقتنا عليها عشرات الدول، تحت ذريعة أنّ القطيعة مع ماضي الفساد انتهت (الذي لم تحصل أي محاسبة حقيقة عليه). منذ ثلاثة أعوام.. هناك حقيقتان ساطعتان تثبتهما الأرقام والحقائق: أقرت السلطة السياسية حزمتي ضرائب على المواطنين والمواطنات ولاسيّما ذوي الدخل المحدود لتزيد الدولة من مواردها الماديّة، ولم تتم أي محاسبة حقيقيّة أو تخفيض فعلي في مزاريب الهدر. يتحدثون عن مئات الموظفين الذين أدخلوا خلسة، يتحدثون عن قطوعات حساب، يتحدثون عن فضائح ماليّة وقانونيّة وقضايا فساد.. ضابط أمني يتهم باختلاس، ثمّ يرقى إلى عميد منذ أقل من شهرين.. قضاة يتهمون بالرشاوي، ومن ثمّ تتوقف القضيّة عند أبواب وزير العدل.. ملفات يلوح بها أمام الشاشات، وصفقات تعقد في الجلسات المغلقة.. وكلّها تبقى غائبة عن الرأي العام لأنّ الشفافيّة مفقودة. لأنّ المحاسبة مفقودة. لأنّ البعض يصر على أن يلمّع الصورة بالنصوص، ويرفض أن تصبح الشفافيّة نهجاً في النفوس.
ننوّه بأنّ تقريراً لمبادرة غربال من 400 صفحة يتعلّق بردود 140 إدارة رسميّة مع طلبات الحصول على المعلومات حول الحسابات الماليّة سوف ينشر في نهاية شهر أيلول 2019. سيتضمن التقرير تحليلاً لمصاريف 32 إدارة، وتكريما لعدد من الإدارات المتعاونة لأنّ المبادرة تحاسب المخالفين، وتكرّم المتعاونين. تابعوا صفحات “مبادرة غربال” على مواقع التواصل الإجتماعي للإطلاع على المكان والزمان.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.