تجربة طبيب تونسي في قطاع غزة: بث الحياة في ساحات الموت


2025-01-07    |   

تجربة طبيب تونسي في قطاع غزة: بث الحياة في ساحات الموت

كان الطّبيب سفيان بناني، المختصّ في الجراحة العامّة وجراحة المنظار، مُتعاطفًا مع الشعب الفلسطيني بسبب ما يَحصل في قطاع غزّة من تقتيل وتهجير قسري، مثل كلّ التونسيّين الّذين خرجوا في مظاهرات للتنديد بجرائم الاحتلال، أو الّذين قدّموا تبرّعات ماليّة وعينيّة لفائدة ضحايا العدوان. لكنّه كسب نقاطًا إضافيّة مقارنةً مع غيره من المتعاطفين بعد أن تنقّل إلى قطاع غزّة المُحاصَر، حيث قضى أسبوعين هناك بين الجنوب والشمال، يداوي الجرحى ويشدّ أزر الإطار الطّبي والعائلات. هو يفتخر بكونه أوّل تونسيّ تُتاح له الفرصة لدخول تلك الأرض، ويعتبر أنّ “كل شيء تمّ بتيسير من الله”، ربّما ليكون مثالًا لغيره من الأطباء التونسيّين حتى يتنقّلوا هناك لمداواة الجرحى والمرضى. “بالإمكان أن أكون أنا الأول، وأنا من فتحت الباب لزملائي الآخرين حتّى تكون هناك وفود تونسية تتوجّه كل شهر تقريبًا إلى القطاع”، يقول سفيان بناني للمفكّرة القانونية.

عيادة خاصّة بعد سنوات في خدمة القطاع العام

تخرّج سفيان من كليّة الطبّ في سوسة وتحصّل على شهادة التقنيات المتقدّمة في جراحة المنظار من كليّة الطبّ بباريس، وفتح عيادةً خاصّة في ولاية القصرين بعد أربع سنوات قضاها في المستشفى الجهوي بالمنطقة من 2019 إلى 2023، اكتسب فيها خبرة وفق قوله، رغم النقائص العديدة، ليفتح فيما بعد عيادته الخاصّة. “واجهت بعض الصعوبات خلال الفترة التي قضيتها في مستشفى القصرين، ولكنّني اكتسبت خبرة نظرًا لتوافد عدد كبير من المرضى وتنوّع الحالات الّتي عُرضت عليّ مقارنةً بمستشفيات أخرى في مناطق أخرى، فنحن في منطقة تَعُدّ نصف مليون ساكن وبالإمكان تخيّل حجم أدفاق الوافدين والوافدات يوميّا على المستشفى. أنا دائما على ذمّة المرضى وأنا الجرّاح الوحيد أصيل المنطقة، وهو ما يجعلني أكون موجودًا دائمًا وقريبًا منهم”، يقول سفيان بناني ليضيف لاحقًا: “أدّيت واجبي للمنطقة التي أنتمي إليها ومنحتُها خبرتي ولم أُغادرها حتّى عندما أُتيحت لي فرصة الذّهاب إلى باريس ومواصلة دراستي هناك. وعندما أردت فتح عيادتي الخاصّة فتحتها هنا. توجّهي نحو القطاع الخاصّ سببُهُ غياب المعدّات الطبيّة اللازمة في القطاع العامّ، وهو ما يجعل أدائي لعملي مهمّة صعبة. صراحةً، لا توجد إرادة لإصلاح القطاع العامّ وبقائي هناك في المستشفى سيمنعني من تطوير إمكانيّاتي. أنا أريد أن أتقدّم وغيري يريد البقاء في مكانه”. يشعر الطّبيب بالامتنان إزاء رئيس القسم الّذي كان يشتغل معه في المستشفى، الدكتور عبد الرؤوف الراشدي، الذي استفاد من خبرته وإحاطته، ويقول إنّهما بذلَا كلّ ما في وسعهما لنفع المنطقة.

مساعي فكّ الحصار عن غزّة

مع بدء العدوان على غزّة منذ أكثر من سنة، تفاعل سفيان مع “الوضع المأساوي” الّذي تنقله وسائل الإعلام، بخاصّة مع بداية العدوان، حيث وصلت حصيلة الضحايا  إلى 500 جريح أو أكثر في اليوم الواحد. “تعاطفت مع ضحايا العدوان مثل أي إنسان، وشعرت أنّه بإمكاني تقديم يد المساعدة في مثل هذه الظروف. كنت وما زلت مؤمنًا بالتطوّع في القضايا الإنسانية وفي القضية الفلسطينية على وجه الخصوص. ولذلك تحادثت مع مجموعة من الأطبّاء من مختلف الاختصاصات وسعينا إلى التواصل مع وزارة الصحّة وعمادة الأطبّاء، وقلنا لِمَ لا نُكوِّن قافلة طبيّة تونسيّة تساعد الجرحى هناك، لكنّنا لم نتوصّل إلى نتائج”، يقول مُحدّثنا، ليضيف: “حاول كلّ واحد منّا أن يتصرّف على نحو فرديّ. وأنا نسّقت مع منظّمات غير حكومية تابعة لمنظّمة الصحة العالميّة لأجد فرصة لدخول القطاع، علمًا وأنّ المنظّمة سبق وأن أدخلت عديد الوفود من دول أخرى سابقًا”.

اتّفق وفد يتكوّن من 22 طبيبًا من جنسيات مختلفة، من فرنسا وألمانيا والأردن ومصر والجزائر وتونس، على أن يتمّ اللقاء في الأردن ومن ثمّ عبور الأراضي المحتلّة وصولا إلى القطاع. كانت مخاوف الأطباء ومساعديهم تنحصر في احتمال رفض طلبات دخولهم إلى غزّة. “كنّا نخشى عدم الدّخول إلى القطاع، ولم نكن نخشى الدّخول رغم الحرب القائمة. من بين 22 طبيبًا لم يدخل سوى تسعة فقط إلى القطاع، والرفض لا يكون مُبرَّرًا ولا تدري كيف وأين ومتى يتمّ الرفض، ولا تعلم حتّى ما هي الجنسيات الممنوعة من الدّخول”. تمكّن الوفد من المرور إلى الأراضي المحتلّة عبر جسر الملك حسين، وهو جسر يقع فوق نهر الأردن، يربط الضفة الغربية بالأردن ويبعد عن عمّان 60 كيلومترًا وعن أريحا 5 كيلومترات، ليصلوا إلى الأراضي المحتلّة عبر معبر كرم أبو سالم الّذي يقع على الحدود بين غزّة ومصر والأراضي المحتلّة، ومن ثمّ إلى جنوب القطاع. شعُر سفيان وزملاؤه بسعادة غامرة عندما تمكّنوا من عبور نقاط التفتيش والتحقيقات الأمنية وتجاوز المعابر الحدودية، حتّى أنّ بعضًا منهم سجد عند الوصول إلى غزة. كان التفتيش دقيقًا وفق ما قاله الدكتور سفيان بناني للمفكرة القانونية، إذ أنّ بعض الأدوية والمُعدّات الطبيّة تمّت مصادرتها.  

البوصلة تتحدّد باتّجاه الشّمال

كانت مشاهد الدّمار صادمة بالنسبة إلى الطّبيب، وتتجاوز فظاعتُها المشاهدَ التي تنقلها الشاشات. أمّا بالنسبة إلى المستشفيات، فهي بالكاد قادرة على تأمين الخدمات العلاجية بعد القصف والاستهداف المُمنهج، وهي تفتقر للعديد من الإمكانيات والمعدّات الطبية والجراحية والأدوية. قضّى سفيان بناني ثلاثة أيام في جنوب قطاع غزّة بين المستشفى الأوروبي ومجمع ناصر الطّبي، ثمّ تطوّع رفقة طبيب جزائري وممرّض مصري لإسداء خدمات طبيّة في شمال القطاع نظرًا لما يتعرّض إليه من اعتداءات وقصف وتهجير قسري للسكان. ويقول للمفكرة القانونية: “في أقصى الشمال حيث تقع بيت لاهيا تمّت إبادة السكان، والحاجياتُ الطبّية هناك أكثر إلحاحًا، وتتطلّب مجهودات مضاعفة مقارنة بالوضع في الجنوب، رغم صعوبة الأوضاع هناك وحجم الكارثة. مستشفى كمال عدوان مُحاصر وتُستَهدف فيه الطواقم الطبيّة، وكانت هناك نوايا لإيقافه تمامًا هو والمستشفى الأندونيسي، وهما الوحدتان الصحّيتان الوحيدتان اللّتَان ظلّتا تشتغلان في الشمال”. كانت الرحلة نحو شمال القطاع المُحاصر محفوفةً بالمخاطر وغير محمودة العواقب، استغرقت تقريبًا عشر ساعات، بين الانتظار والتنقل عبر المعابر ونقاط التفتيش، من منتصف النهار إلى حدود الثامنة ليلا. “تعرّضنا إلى عديد الصعوبات والرحلة عمومًا كانت شاقّة ولم تكن آمنة، وكنّا مُعرَّضين إلى شتّى أنواع المخاطر لأنّها ساحة حرب”، يقول محدّثنا.

تنقّل الدكتور بناني بين مستشفى المعمداني ومجمع الشفاء الطّبي الّذي دُمّر بالكامل ولم يبقَ فيه سوى قاعتان صغيرتان خُصّصتَا للحالات الاستعجالية وفائقة الخطورة، أجرى الطّبيب تدخّلَيْن جراحيَّين فيهما، لكنّ أغلب العمليات الجراحيّة كانت تتمّ في مستشفى الخدمة العامّة، بالتنسيق مع مستشفى المعمداني متعدّد الاختصاصات، وهو الوحدة الصحية التي تستوعب الإصابات الواقعة على متساكني الشمال وأقصى الشمال، حيث يُسمح لعدد مُعيّن من المُصابين والمُصابات بالتنقّل، في حدود عشرين شخصًا. 

يقول الدكتور بناني إنّ قوات الاحتلال في بعض الأحيان تسمح للجرحى والمُصابين بالمرور ولكنّها تستهدفهم بأسلحتها، فمنهم من يتوفّى مباشرة، وحتّى من أُصيبوا وتمكّنوا من العبور لا يُسعفهم الحظّ في أغلب الأحيان ويموتون لاحقًا بسبب إصاباتهم. “أجرَيْت عمليّات جراحيّة عاديّة وعالجت أيضًا إصابات ناجمة عن القصف، فتجد شظايا منتشرة في كامل الجسم نتيجة إصابات خطيرة، تستوجب تدخّلًا جراحيًّا من اختصاصات طبيّة مختلفة”، يقول سفيان بناني، ليضيف: “كلّ تدخّل جراحي ناجح يمثّل بالنسبة إلينا تحدّيًا كبيرًا في ظلّ نقص المعدّات والأدوية وقلّة الإمكانيات. الطواقم الطبيّة نفسُها مُستنزَفة في وقتها وجهدها وعددها. حتّى في ظلّ الظروف القائمة، مازال الأطباء والطواقم شبه الطبيّة يشتغلون ثمّ يعودون إلى خيامهم التي تفتقر إلى أبسط الإمكانيات والظروف الحياتية من أكل وشرب وكهرباء. ولكنّهم رغم ذلك يُؤَمّنون خدمات طبية في مستشفياتهم في وقت كامل وجهد كامل ويبذلون كل ما في وسعهم خلال هذه الفترة”.

تجربة مهنيّة ورصيد إنساني ثري

إلى جانب الخدمات الاستشفائية الّتي تُعدّ الهدف الرئيسي للبعثة الطبيّة، يعتبر سفيان بناني أنّ هناك هدفًا لا يقلّ أهمية عن ذلك، وهو رفع الحصار على قطاع غزة : “هي رسالة معنوية بأنّنا مع. إخوتنا. أنا أوّل تونسي يدخل قطاع غزّة وأمثّل الشعب التونسي وأنقل إلى غزة وأهلها رسالة مفادها بأنّ الشعب التونسي معهم ويقف إلى جانبهم، والحقيقة أنهم ثمّنوا وجودي بينهم هناك، وقدّروا كيف تنقّلت وتحمّلت كل ذلك العناء لأعبّر عن مساندتي لهم، لا فقط بالقول وإنّما بالفعل. فوجودنا هناك هو نوع من رفع الحصار والتضامن مع إخوتنا وأرجو أن يواصل الأطبّاء التونسيون على هذا النّحو”.

غيّرت تجربة سفيان بناني كأوّل تونسي يُسمح له بدخول قطاع غزّة المُحاصَر حياته نفسيًّا ومهنيًّا، فهو يعتبر أنّ دعم الناس المُستضعَفين والصامدين من أجل أرضهم درسًا في العطاء رغم الجوع والحصار. “صرت أستصغر المشاكل التي تعترضني، فمهما كبرت همومنا فهي حتمًا لا تُضاهي معاناة أهل القطاع هناك. معاناة النساء والأطفال على وجه الخصوص تظل راسخة في الذهن، وكذلك لحظات الفرحة التي نتقاسمها مع الناس عند نجاح عملية. فالذكريات تتفاوت بين الألم والفرحة”، يقول سفيان بناني، مُستذكرًا عددًا من الحالات التي مرّت عليه، وأبرزها حالة الطّفلتَيْن رُدينة وعائشة، إذ تعرّضت الطّفلة رُدينة لإصابات في البطن نتيجة شظايا، ولم تلتئم جروحها بسبب ثقوب في الأمعاء. يقول الطبيب إنّها أجرت أربع عمليات ولكنّ حالتها ما فتئت تتعكّر يوما بعد يوم، حتّى أنّها “تموت في اليوم ألف مرة . ظلّت هذه الحادثة راسخةً في ذهني، بعذابها وألمها. كنت أمرّ عليها يوميًّا في العيادة الصباحية لأراها، وظللت أسأل عنها وأتفقّد أحوالها حتّى بعد عودتي إلى تونس، لأسمع خبر وفاتها فيما بعد”. يتذكّر سفيان أيضًا حالة الطّفلة عائشة التي تعاني إصابات في أمعائها وصدرها ورأسها وأُجريت عليها عمليات مختلفة تكلّلت بالنّجاح، وكانت مبعث سعادة لعائلتها وأيضا للطاقم الطّبي.

وفي كلّ مرّة، يؤكّد الطّبيب أنّ تجربته في القطاع قد تُمثّل فرصة لفكّ الحصار عن القطاع الّذي يعاني الإبادة والتهجير القسري، وأنّ الدّعوة مفتوحة لغيره من الأطباء في اختصاصات مختلفة لمدّ يد العَوْن للمرضى والجرحى والطواقم الطبيّة والمسعفين. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، مقالات ، تونس ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني