قرر وزير العدل التونسي بتاريخ 05-6-2014 تعيين ناطق رسمي جديد باسم المحكمة الابتدائية بتونس من بين مساعدي وكيل الجمهورية لدى المحكمة المذكورة خلفا للناطق الرسمي الذي سبق وان عينته ذات الجهة الحكومية بتاريخ 06-12-2013 .وكان التعيين الاول المناسبة التي انشئت فيها المؤسسة المستحدثة.
تفاعلت الاوساط الاعلامية مع خبر قرار التعيين الجديد وتم تداوله كخبر رئيسي. ويؤشر اهتمام الاوساط الصحفية "بمؤسسة" الناطق الرسمي باسم محكمة تونس العاصمة عن التغيير الذي أدخلته اول تجربة لتواصل مؤسساتي بين القضاء والإعلام في مشهد الصحافة القضائية. اذ ادى استحداث "ناطق باسم المحكمة" إلى ضمان حق الإعلاميين في المعلومة من مصدر قضائي الى ثورة في تصورات علاقة القضاء الرسمي بالإعلام وكشفت التجربة على حداثتها ان قطع المؤسسة القضائية مع ثقافة الصمت يؤدي لقيام علاقة شفافة بينها وبين الرأي العام عبر قناة الاعلام.
حاولت المؤسسة القضائية الرسمية تجاهل التغييرات التي فرضتها الحرية الاعلامية عقب ثورة 14 جانفي 2014. واكتفى القضاء بالصمت في مقابل تأثر عدد هام من القضاة بمد التحرر وانفتاحهم على مجال المعلومة والإعلام سواء منه التقليدي او البديل. لم يؤدّ حضور القضاة في المشهد الاعلامي بوصفهم نشطاء في الهياكل المهنية للقضاة او بصفاتهم الشخصية الى ملء الفراغ الذي نجم عن غياب الصوت الرسمي للقضاء. وأدى التزام المؤسسة القضائية بما كانت تعتبره تحفظا ومهنية الى ترك المجال امام اطراف القضايا المنشورة ونوابهم لاستعمال الاعلام كوسيلة لحشد ضغط الرأي العام لفائدتهم في القضايا التي يتعهد بها القضاء في سياقات تعمل على تقديم رواية للوقائع تخدم الطرف المتحدث وتدعم حالة عدم الثقة في عمل القضاء.
اضر التحفظ الصامت بالمؤسسة القضائية وادى لتدعيم الاتهامات التي توجه لها بالخضوع لتعليمات الوزارة في عملها القضائي. ومنع ذلك من قيام الثقة العامة في المؤسسة القضائية. وفيما يبدو محاولة لتجاوز ذلك، تولت النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس خلال السنة القضائية 2012-2013 اصدار بلاغات صحفية حول المسائل التي ترغب في اطلاع الاعلاميين والرأي العام على مجرياتها. وفيما كانت مبادرة النيابة العمومية بمحكمة العاصمة هامة في رمزيتها على اعتبار انها تعد اول خروج للمؤسسة القضائية الرسمية عن صمتها التقليدي، الا ان اسلوب البلاغات بما يعنيه من مناسبتية في الظهور الاعلامي وما يميزه من جمودلم يحقق الغاية المرجوة منه مما اكد الحاجة لحلول بديلة.
بادرت المحكمة الادارية بموجب قرار صدر عن رئاستها بتاريخ 22-11-2013 الى ارساء مؤسسة الناطق الرسمي باسم المحكمة الادارية لتكون بذلك اول محكمة تعالج مشاكل ظهورها الاعلامي بالاتجاه نحو الاعتراف للإعلام بالحق في المعلومة من مصدرها. ويبدو ان وزارة العدل استوحت الفكرة من قضاة المحكمة الادارية فأعلنت في الاسبوع الموالي عن نيتها تعيين ناطقين رسميين باسم كل المحاكم التونسية لتصدر لاحقا قائمة في المكلفين بخطة ناطق رسمي باسم المحاكم.
لم يرحب القضاة بالمبادرة الوزارية لاعتبارين على الاقل اولهما ان هياكلهم المهنية كانت تدفع في اتجاه تدعيم استقلالية المحاكم عن الوزارة في قرارات تسييرها الداخلي واتت خطوة التعيينات المسقطة لتؤكد حرص الحكومة على مواصلة التحكم في القضاء وثانيهما ان تصور الجهة الحكومية لمؤسسة الناطق الرسمي كما برز في بلاغ الاعلان عنها يجعل من الناطقين الرسميين باسم المحاكم خاضعين للمكلف بالإعلام بديوان وزير العدل ومطالبين بالتنسيق معه بما يؤكد السعي لاستعمال المؤسسة لخدمة الوزارة اكثر من استعمالها لحاجات العمل القضائي.
لم تمنع الاعتراضات المبدئية على اهميتها من ارساء مؤسسة الناطق الرسمي باسم المحاكم. وكشفت تجربة النصف عام الاول عن تحول كبير في ثقافة القضاء الرسمي. فقد ادى ارساء مؤسسة الناطق الرسمي باسم المحاكم الى بروز صوت القضاء الرسمي في المشهد الاعلامي وبات الناطق الرسمي مصدر المعلومة الموثوق الذي يلجأ اليه الاعلاميون لمعرفة "الحقيقة القضائية". كما كان الناطق الرسمي يلجأ بدوره للإعلام ليتمكن من تقديم روايته للقضايا التي تشغل الرأي العام. وتراجع بمفعول الممارسة مفهوم التحفظ لفائدة السعي الى النجاح في الاقناع. كما تآكلت مقولة سرية الابحاث في قضايا الرأي العام لينتصر عليها الحق في المعلومة.
ملأ الناطق الرسمي باسم المحكمة الكرسي الشاغر الذي خلفه القضاء الصامت وباتت العلاقة بين القضاء والإعلام بفضله لأول مرة في تاريخ القضاء التونسي مؤسساتية بما يخدم صورة القضاء ويضمن للإعلاميين ومن خلفهم متتبعيهم الحق في المعلومة من مصدرها. الا ان احتكار وزير العدل لصلاحية تعيين الناطق باسم المحاكم وقدرته على تغيير ناطق باسم محكمة بآخر دون ضابط او حاجة للتعليل يؤدي الى امكانية استعمال المسؤول الحكومي للمؤسسة التي كان يفترض انها اداة تحقق تواصل القضاء مع عالمه الخارجي كوسيلة يوظف بها الصوت القضائي في خدمة مشروعه السياسي. ويستدعي التعامل الايجابي مع مؤسسة الناطق الرسمي باسم المحكمة تسجيل الاثر الايجابي للتجربة وما حققه من تطوير للعقلية القضائية ولتصور القضاء عند الرأي العام بما يؤكد الحاجة لتطوير المؤسسة والحفاظ عليها. ويعد العمل على تحقيق استقلالية الناطق الرسمي باسم المحاكم عن ممثل السلطة التنفيذية المدخل الوجوبي لتطوير حضور القضاء الرسمي في المشهد العام بصوت مستقل يدافع عن استقلالية القضاء.
الصورة منقولة عن موقع www.twenssafm.com
متوفر من خلال: