“
أثارت مدرسة قرآنية بمدينة الرقاب بولاية سيدي بوزيد جدلا كبير في الساحات الإعلامية والحقوقية حيث تمّ العثور على 42 طفلا (بين 10 و18 سنة) كانوا يعيشون في ظروف مهينة لا تستجيب لأدنى شروط الصحة والنظافة والسلامة. فجميعهم منقطعون عن الدراسة، كما أنهم كانوا يتعرّضون بصفة دائمة للعنف وسوء المعاملة ويتم تلقينهم أفكارا وممارسات متشددة. كما يتم استغلالهم في مجال العمل الفلاحي وأشغال البناء. هذه الحادثة تعكس فقدان سيطرة الدولة على المؤسسات التي تعتني بالأطفال إلى درجة جعلت العديد منها خارج نطاق رقابتها. وللتذكير، فإن إحداث وتنظيم مؤسسات محاضن ورياض الأطفال يخضع حاليا لنظام كراس الشروط والذي أفرز عدة إشكاليات أهمها انتشار ظاهرة الفضاءات الفوضوية والخارجة عن القانون وتردي مستوى الخدمات المقدمة ونقص المراقبة والمتابعة مما يعرض الأطفال بشكل كبير لمثل هذه الأشكال من التهديد بالإضافة إلى انعدام آليات ردع المخالفين. فقد تم حسب وزيرة المرأة والأسرة والطفولة رصد 1000 فضاء فوضوي خلال السنة التربوية 2015-2016 و300 فضاء فوضوي في الثلاثية الأولى من السنة التربوية 2016-2017. ولنا أن نذكر أيضا بأن سنوات حكم الترويكا قد شكلت مجالا خصبا لتنامي محاضن ورياض الأطفال الخارجة عن سيطرة الدولة من حيث إنشائها ونشاطها وحتى محتوى البرامج التربوية التي تقدّمها للأطفال.
وبالرغم من كل هذه المعطيات، أكّد الناطق الرسمي باسم الحكومة التونسية بأن اكتشاف ما يحدث بهذه المدرسة القرآنية قد شكّل صدمة للسلطة وللرأي العام. أمّا داخل مجلس نواب الشعب، فقد طرحت مسألة المدرسة القرآنية على الجلسة العامة يوم 5 فيفري 2019 للتباحث بشأنها. كما نظمت لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والشباب والمسنين، يوم 6 فيفري 2019، جلسة استماع لممثلة وزارة الداخلية حول مسألة المدرسة القرآنية بالرقاب. هذا الدور الرقابي للبحث في هذه المسألة لم يكن سوى رد فعل تجاه مسألة طرحت بشدة أمام الرأي العام. فلم يكن للمجلس من الناحية التشريعية أي دور، إلى حدّ اليوم، بخصوص تعديل النظام القانون المتعلق بالفضاءات التي تعنى بالأطفال.
فقد تعهّدت لجنة الصحة والشؤون الاجتماعية، منذ أوت 2016، بالنظر في مشروع القانون عدد 59/2016 المتعلق بمحاضن ورياض الأطفال. إذ كان تقديم مشروع هذا القانون قد تمّ من قبل حكومة الحبيب الصيد أياما قبل سحب الثقة منها. ومنذ ذلك الحين، قامت اللجنة بالنظر فيه والاستماع إلى عديد الأطراف، كما صادقت منذ أفريل 2017 على تقريرها بشأنه. إلا أنه إلى اليوم لم يتم إدراجه بجدول أعمال الجلسة العامة للمجلس. ويتضمّن مشروع القانون عديد النقاط التي تسعى إلى مجابهة التسيب الذي طال المؤسسات التي تعنى بالأطفال وتربيتهم ومن بينها:
يهدف مشروع القانون عدد 59/2016 المتعلق بمحاضن ورياض الأطفال، من جهة، إلى توحيد النظام القانون للمحاضن ورياض الأطفال والمدارس التحضيرية. فقرب المهمة الموكلة إلى كلّ صنف من هذه المؤسسات يجعل من الضروري توحيد نظامها القانوني بهدف ضمان وضوحه وتكريس رقابة أنجع عليها. ومن جهة أخرى، يهدف مشروع هذا القانون إلى تحسين جودة الخدمات المقدمة من طرف هذه المؤسسات تفعيلا لأحكام الفصل 47 من الدستور الذي ينص على “حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم. على الدولة توفير جميع أنواع الحماية لكل الأطفال دون تمييز وفق المصلحة الفضلى للطفل”. ومن أهم ما يطالعنا في النص المقترح، الأمور الآتية:
-
الفصل 3 من مشروع القانون الذي ينصّ على أن يكون التعهد بالأطفال “تربويا بما يساهم في نموهم الذهني والبدني والنفسي والحركي والعاطفي والاجتماعي، من خلال تنشئتهم، بالتعاون مع الوسط العائلي، على محبة الوطن وثقافة حقوق الإنسان والاحترام المتبادل وقيم التسامح ونبذ العنف والكراهية والتمييز وتأصيلهم في هويتهم العربية الإسلامية مع التفتّح على الثقافات الأخرى”. وهنا نتساءل عن مدى انفتاح محاضن ورياض الأطفال على الأطفال الذين لهم ثقافة مغايرة للثقافة العربية الإسلامية من التونسيين أو من الأجانب. فالطفل حينها سيجد نفسه في حالة ارتباك معرفي بين الثقافة التي يعيش بها مع عائلته والثقافة التي تقدّم إليه من قبل المحضنة أو الروضة. وهو ما يتعارض مع المصلحة الفضلى للطفل التي تسعى الدولة إلى تحقيقها عبر محاضن ورياض الأطفال. فالفصل 39 من الدستور يعني من جهة المرحلة التعليمية ومن الفروض أن لا ينسحب على المراحل التي قبلها كما أنه من جهة أخرى، يعمل على تأصيل الناشئة “في هويتها العربية الاسلامية” أي الأطفال الذين تتم تربيتهم في وسط عربي إسلامي لا غيرهم.
-
ضرورة معاينة الجهات الإدارية المختصة لفضاء محاضن ورياض الأطفال قبل فتحها لمعاينة استجابتها للشروط اللازمة (الفصل 9 من مشروع القانون). وهو ما ينقص النظام القانوني الحالي الذي يكتفي بمصادقة المسؤول عن المؤسسة على وصل إيداع كراس الشروط لمباشرة نشاطه. فضلا عن ذلك، يطرح هذا الأمر إشكالا أساسا بالنسبة للمعايير الصحية التي يجب أن يتمتّع بها الأطفال في المحاضن: فالدولة لم تعد تتكفل بتكوين الإطارات المختصة في هذا المجال ممّا يستدعي التساؤل حول الإمكانيات المخولة لمصالح الرقابة الإدارية لتحقيق رقابة فعّالة بخصوص المرافق الصحية لمحاضن الأطفال. وهذا ما يهدف إليه مشروع القانون أيضا من خلال تعويض النقص الحاصل في تكوين إطارات محاضن ورياض الأطفال، إذ أنه يجبر أصحابها على تدارك نقص التكوين الحاصل لدى المنشطين والمربين المباشرين لعملهم (الفصل 29).
-
اشتراط توفر التكوين اللازم في الإطارات التي تعمل في هذه المؤسسات. فقد اشترط مشروع القانون بخصوصها توفّر “شروط الاختصاص والتكوين في مجال الطفولة والمجالات ذات العلاقة” مع إمكانية التكوين والتدريب (الفصل 12). كما أسّس مشروع القانون على ضرورة التزام هذه المؤسسات بالبرامج البيداغوجية الرسمية (الفصل 13) وتم التأسيس لنظام رقابة بخصوص هذا الأمر وهو ما يستدعي أن يكون تكوين الإطارات متماشيا مع هذه البرامج.
-
تأسيس ثقافة القرب بين محاضن ورياض الأطفال من جهة والوسط العائلي من جهة أخرى. فقد وضع مشروع القانون على عاتق الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية إحداث محاضن ورياض أطفال عمومية حتى يتمكن جميع الأطفال من الحصول على الإحاطة اللازمة بتكلفة معقولة.
-
إلزام الباعثين العقاريين ب “تخصيص مقاسم أو فضاءات لمحاضن ورياض الأطفال” (الفصل 6) حتى تتمكن الدولة والخواص من بعث مثل هذه الفضاءات وتعميم انتشارها وبالتالي تقريبها إلى الوسط العائلي.
أخيرا، جاء مشروع القانون بحلّ قانوني لمسألة عدم قبول الأطفال ذوي الإعاقة التي تمت معاينتها بعدد كبير من محاضن ورياض الأطفال. فقد حجّر مشروع القانون هذا المنع في حالة قدرة الطفل للاندماج مع بقية الأطفال. وقد بينت جلسات الاستماع أن هذا الإشكال متأتٍ أساسا من عدم قدرة المؤسسات على توفير التكلفة المادية التي تتطلبها العناية بالأطفال ذوي الإعاقة. وهو ما جعل النواب يؤسسون لمسؤولية الدولة في هذا المجال من خلال مساهمتها في التكلفة الإضافية للعناية بهذه الفئة من الأطفال (الفصل 14).
يهدف مشروع القانون من خلال الإجراءات التي تضّمنها أساسا إلى التصدي إلى ظاهرة تفشي الفضاءات الخارجة عن القانون من حيث تكوينها أو من حيث نشاطها. وفي هذا الإطار، تم إقرار آلية للإشعار عن المخالفين (الفصل 20) أي أنه يمكن لأي مواطن يعاين وجود فضاء لا يحترم أحكام مشروع هذا القانون التبليغ بشأنه للمصالح المعنية.
ولضمان نجاعة هذه الآلية، أسس مشروع القانون إلى حماية هذا المواطن، خاصة من خلال عدم إمكانية تتبع الشخص الذي قام بحسن نية بالإشعار، من جهة، ومنع الإفصاح عن هويتهم، من جهة أخرى (الفصل 21). وبالتالي، فإنه يمكن تتبع الأشخاص الذي يقومون بالإشعار مع الإفصاح عن هويته إن لم يقوموا بذلك عن حسن نية، علما أن تقدير هذا العنصر (حسن النية أو سوؤها) يعود للقضاء أي أنه لاحق لعملية الإشعار ويمكن أن تمتد عملية معاينته في الزمن. ومن هذا المنطلق، من شأن هذه الأحكام أن تؤدي تاليا إلى ثني الأشخاص عن القيام بالإشعار.
كما منع مشروع القانون أيضا على أصحاب هذه المؤسسات انتداب أشخاص خارج القانون أي في وضعية هشة بدون عقود مكتوبة وأجبرها على إعلام الوزارة المختصة بالانتدابات التي تقوم بها (الفصل 12) وهو ما يؤسس أيضا لمراقبة مدى ملاءمة التكوين الذي تلقاه الإطار مع المهام التي سيقوم بها داخل المؤسسة.
كما وضع مشروع القانون عديد العقوبات، تصل إلى درجة العقوبات السالبة للحرية في صورة العود، مع الإيقاف الفوري لنشاط الفضاءات التي تستقبل وتحتضن أطفالا أعمارهم دون سن 3 سنوات (بالنسبة لمحاضن الأطفال) وبين ثلاث وست سنوات (بالنسبة لرياض الأطفال) دون احترام الإجراءات الواردة به مثل التدريس وفق مناهج بيداغوجية مخالفة للمناهج الرسمية أو الاعتداء على طفل. كما أسس مشروع القانون لمنع كل شخص ارتكب جريمة بحق طفل أو أطفال من ممارسة أي نشاط بمحاضن ورياض الأطفال (الفصل 25).
خلاصة
من دون شك، سمح تأخر مجلس نواب الشعب في المصادقة على مشروع هذا القانون بتواجد عدد كبير من المؤسسات التي تعنى بالطفل الخارجة عن القانون، وهو ما يضاعف عدد الأطفال الضحايا. فلئن توصّلت السلطات في قضية المدرسة القرآنية بالرقاب إلى تتبع الأشخاص المتورطين فيها، فإن ذلك قد تم على أساس قوانين أخرى خاصة منها القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المؤرخ في 3 أوت 2016 المتعلق بمنع الإتجار بالأشخاص ومكافحته ولذاك نظرا للاستغلال الذي تعرض له الأطفال داخل هذه المدرسة وكذلك القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة الذي يؤسس لمفهوم “الضحية” والذي يشمل “المرأة والأطفال المقيمون معها الذين أصيبوا بضرر بدني أو معنوي أو عقلي أو نفسي أو اقتصادي، أو تمّ حرمانهم من التمتع بحرياتهم وحقوقهم، عن طريق أفعال أو أقوال أو حالات إهمال تشكل انتهاكا للقوانين الجاري بها العمل”. وعليه، لا يسعنا إلا التأكيد على ضرورة المصادقة في أقرب وقت ممكن على مشروع هذا القانون لتفادي النقص القانوني المحيط بمحاضن ورياض الأطفال وما يسببه من خطر عليهم.
“