في موقف لافت، أصدر نادي قضاة لبنان اليوم بيانا، على خلفية ما تردد لجهة إضرام جورج زريق، وهو من سكان الكورة، النار بنفسه تبعا لعجزه عن تسديد الأقساط المدرسية المتوجبة على تعليم ابنته في مدرسة خاصة. وكان تردد أن المدرسة رفضت إعطاءه إفادة مدرسية تمكنه من نقلها إلى المدرسة الرسمية. وإذ عبّر النادي عن ذهوله وألمه إزاء هذه الحادثة، فإنه لم يكتفِ بالمجاملات الكلامية أو بإعلان المواقف الحقوقية (1)، بل ذهب إلى التذكير بدور القضاة السابق بحماية ذوي التلاميذ العاجزين عن تسديد أقساط المدارس (2) وأيضا إلى الإعلان عن خطوات عملية لتوسيع هذه الحماية القضائية وتسهيل الوصول إلى العدالة (3). وقد بدا النادي من خلال ذلك وكأنه اعتبر انتحار زريق بمثابة طلب حماية بالنيابة عن كل شخص يعجز عن تسديد أقساط أولاده في المدارس الخاصة، فبادر إلى الاستجابة إلى هذا الطلب بما يقدر عليه. ولعل أهم ما في هذا البيان هو أنه أبرز أهمية وجود النادي بحد ذاته، كمساحة تسمح بتطوير تصور القضاة لوظائفهم وتسهم في استعادة ثقة الناس بالقضاء (4). وهذا ما سنحاول تبيانه أدناه:
خطاب حقوقي نقديّ للسلطة الحاكمة
أول ما يميز خطاب النادي هو طابعه الحقوقي في مواجهة السلطة الحاكمة. وقد مضى النادي في هذا الإطار إلى تعداد أسناد “الحق في التعليم” الذي “هو من الحقوق الأساسية الملازمة للفرد”، ومن أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة. لكن أكثر ما يلفت في هذا المضمار هو أن البيان لم يكتفِ بالتذكير بأسس هذا الحق (الدستور والمواثيق الدولية)، بل ذهب بوضوح وإن بدبلوماسية إلى انتقاد السلطة الحاكمة على التعرض له.
وهذا ما نتبينه من خلال الدعوة “إلى إعادة البحث في مستوى التعليم الرسمي الذي لا يشجع المواطن على اللجوء إليه”. وهي دعوة تتضمن نقدا ضمنيا واضحا للسياسات العامة التي أدت إلى تراجع نوعية التعليم الرسمي ومعه مبدأ المساواة في حظوظ الأطفال في تحصيل التعليم بمعزل عن القدرات المالية لذويهم.
كما نتبينه في إشارة البيان إلى غياب الرقابة الفعلية على أقساط المدارس الخاصة. ونستشف من هذه الملاحظة نقدا واضحا لوزارة التربية التي ما لبثت منكفئة عن حماية ذوي التلاميذ إزاء مخالفات المدارس المتكررة للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء، سواء لجهة تحديد الأقساط المدرسية أو لجهة رواج الممارسة غير القانونية بالامتناع عن تسليم إفادات للتلاميذ الذين يعجزون عن تسديد الأقساط المتوجبة عليهم. فأيا يكن مستوى الحماية القضائية (وهذا ما تعرض له البيان في أماكن أخرى نستعرضها أدناه)، هل يعقل أن تستمرّ هذه الممارسة غير القانونية من دون أن تتخذ وزارة التربية أي تدبير بحق هذه المدارس؟ كما يضاف إلى ذلك (وهذا ما لم يذكره البيان) استمرار تعطيل العدد الأكبر من المجالس التربوية التحكيمية والتي تتولى النظر في مدى قانونية القرارات في رفع الأقساط المدرسية.
الوظيفة القضائية هي حماية الحقوق والحريات
الموقف الثاني المتميز في بيان النادي تمثل في إعلان تصور النادي للوظيفة القضائية، والذي يقوم على حماية الحقوق والحريات. ولا يمكن إدراك أهمية هذا الموقف إلا من خلال مقارنته بالموقف الرسميّ الموروث عن الثورة الفرنسية والذي غالبا ما حصر وظيفة القاضي في تطبيق القانون وخدمته وفق مقولة أن “القاضي هو خادم القانون” أو أيضا “القاضي فم القانون”. وفيما يستتبع هذا المفهوم الكلاسيكي تحويل القضاء إلى أداة لتطبيق إرادة السلطة الحاكمة بما تضعه من قوانين مهما كانت جائرة، يفتح مفهوم “حامي الحقوق والحريات” على العكس من ذلك تماما للقاضي مجالات حقوقية واسعة للعمل على ضمان مواءمة هذه القوانين مع مبادئ العدالة الاجتماعية والمنطق السليم ومواثيق حقوق الإنسان بما تتضمنه من ترسانة حقوقية.
ويكتسب هذا الموقف أهمية إضافية في تتمة الجملة التي ورد فيها. فما أن أكد النادي على أن “القضاء كان ولا يزال وسيبقى حامي الحريات والحقوق”، حتى أردف أن القضاء يصبح ملزما انطلاقا من ذلك ب “الأخذ بيد من ضاقت به السبل وأعيته الوسائل، ومن واجباته الأساس فتح الطرق وتعبيدها أمام الناس ليصلوا إلى حقوقهم”. وتأكيدا على هذه الوظيفة، ذكر البيان بالقرارات التي أصدرها عدد من قضاة الأمور المستعجلة في هذا الخصوص، “والذين انبروا في غير مرة للدفاع عن الحق في التعليم بسرعة قياسية، وتحديدا في اتجاه إلزام المدارس الإفراج عن المستندات التي تتيح إكمال الطالب مسيرته تحت طائلة غرامات اكراهية باهظة، صوناً لحق الطلاب في التعليم وذلك بمعزل عن حساب الأهل لدى الصرح التعليمي”. وكانت “المفكرة” توقفت عند عدد من هذه القرارات، منوهة بأهميتها. من أبرزها، القرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في طرابلس (12/4/2010) والذي جاء فيه “أن استحصال التلميذ على الافادة المدرسية أمر ملازم لحقه بالتعليم، طالما أن من شأن حرمانه منه أن يحول دون تسجيله في مدرسة أخرى، وأن يؤدي تاليا إلى تسربه” و”أن حق التعليم هو حق دستوري، بقدر ما هو التزام دولي”، وأنه على ضوء سموّ حق التعليم في المنظومة القانونية، فلا يجوز المس بهذا الحق بحجة الحفاظ على حق هو حكما أقل قيمة وقدرا، كحق تحصيل قيمة الأقساط. وقد انتهى القاضي آنذاك إلى دعوة المدرسة إلى تحصيل حقوقها بطريقة مشروعة. ومن القرارات الهامة أيضا، القرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في جويا بلال بدر بتاريخ 29/11/2012 والذي ذهب فضلا عما تقدم إلى القول بأنه لا تلازم بين موجب والد تلميذين بدفع الأقساط المتوجبة وبين موجب المدرسة بتزويده بإفادتين مدرسيتين، لأن موجب إعطاء الإفادة يقابله موجب الولدين بالحضور إلى المدرسة وتلقي التعليم، فطالما أن الولدين حضرا إلى المدرسة وأتمّا دراستهما، فذلك يعني أنهما قاما بالموجب الملقى على عاتقهما لهذه الناحية”. يُضاف إلى هذين القرارين عشرات القرارات الأخرى الموثقة في مختلف المحاكم، ولا مجال لتعدادها هنا.
ختاما في هذا المضمار، يجدر التذكير بحكم حديث صدر عن قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح بتاريخ 24 أيلول 2018، من باب الدلالة على دور القاضي في صون العدالة الاجتماعية. وقد ذهبت القاضية شواح إلى تعليل حكمها هذا بتجميد زيادة الأقساط المدرسية ب “الظروف الإقتصادية الدقيقة التي يعاني منها الشعب اللبناني بشكل عام وأولياء الطلبة بشكل خاص”.
تسهيل حق الجميع بالوصول إلى العدالة
تكملة لما سبق، سعى النادي إلى أداء دور أساسي قوامه تسهيل حق الجميع بالوصول إلى العدالة، على اعتبار أن الحق يبقى حرفا ميتا في حال عجز الفرد عن ذلك. ونتبين هذا التوجه من خلال موقفين إثنين: الأولى، إعلان النادي عن استعداده التام لنشر القرارات الحمائية في هذا المجال من باب تعزيز المعرفة القانونية للجميع، والثانية، التأكيد على أن مراجعة ذوي التلاميذ للقضاء المستعجل لإلزام المدارس بتسليمهم الإفادات المدرسية تقدم بأمر على عريضة ومن دون حاجة إلى التمثيل بواسطة محام. وقد هدف البيان من خلال ذلك إلى إزالة الحواجز المعرفية أو المادية أمام لجوء المواطنين إلى القضاء.
النادي أداة لتطوير الوعي الحقوقي وتعزيز ثقة الناس بالقضاء
الأمر الأخير الذي يتوجب التنويه به، هو دور النادي في تطوير الوعي الحقوقي داخل القضاء وخارجه، والذي نستشفه من البيان المذكور. فمن اللافت مثلا أن النادي حديث العهد كان أول من رفع الصوت من بين المنظمات الحقوقية بشأن مأساة انتحار زريق، فيما لزمت وتلزم نقابتا المحامين (اللتين أكملتا مائة عاما) الصمت إزاء هذه المشكلة المعيشية والحقوقية المتفاقمة وما يتفرع عنها من مظالم وانتهاكات قانونية جسيمة. أهم من ذلك، هو تضمين الخطاب المفاهيم والمضامين التي أسهبنا في تبيانها أعلاه، والتي ينتظر منها أن تمهّد ليس فقط لتعديل تصورات العامة للقضاء وتعزيز ثقة الناس فيه، بل تصورات القضاة أنفسهم لوظائفهم. ويؤمل أن يشكل خطاب النادي محفزا دائما لتحفيز غالبية القضاة على تطوير أدائهم، بما يستلزمه تصوره الجديد لوظيفتهم.
مقالات ذات صلة:
حكم رائد في قضية الليسيه-فردان: “الظروف الاقتصادية الدقيقة تحتم تدخل المحكمة“
أقساط المدارس على أطلال المدرسة الرسمية: باب جديد للفرز والإفقار
أقساط المدارس تنفض الغبار عن قانون 515: لماذا تبقى المحاكم التربوية معطلة؟
كيف تحولت مسألة زيادة الأقساط إلى قضية عامة؟ حديث مع الخبير التربوي نعمة نعمة
حقوق عالقة عند المجلس التحكيمي التربوي
حملة منع زيادة الأقساط المدرسية في المدارس الكاثوليكية