لتراكم الأزمات الحاضرة أثرٌ كبير على ضمانات استقلالية القضاء والمحاكمة العادلة. من أبرز التأثيرات الآتية:
التراجع على صعيد ضمانات استقلالية القضاء
أكثر الضمانات التي نهشتْها الأزمة هي ضمانة الاستقلاليّة الماليّة وما توفّره من طمأنينة. وقد نتج ذلك بالدرجة الأولى عن انهيار القيمة الشرائية للرواتب. كما تفاقم التعرّض لهذه الاستقلاليّة بفعل الطريقة المعتمدة لمعالجة هذا الانهيار والتي قامت أساسًا على تأمين مداخيل إضافيّة لا تدخل في أساس الراتب وتبقى بطبيعتها هشّة وغير مؤكّدة فضلًا عن كونها غير واضحة المصدر. وهذا ما وثّقته “المفكرة” في حديثها مع عددٍ من القضاة بدوا غير قادرين على توقّع مقدارها ولا تحديد مصادر المداخيل التي يتقاضُونها شهريًا. وما فاقم من ذلك هو ارتباط هذه المُعالجة منذ البداية بإرادة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهو المتّهم الأوّل في التسبّب بالأزمة المالية والاقتصادية وضياع الودائع، بعدما تخلّت السلطة التشريعيّة عن مسؤوليّاتها في هذا الخصوص. وقد أتتْ هذه الزّيادة بالنسبة إلى أيّ مراقبٍ موضوعيّ خارجيّ بمثابة منفعة غير قانونية، ما حوّلها إلى سبب ارتياب مشروع في حيادية القضاء وتحديدًا في قدرته على اتخاذ المواقف اللازمة في معالجة انعكاسات الأزمة السياسية والاقتصادية، وبخاصّة لجهة مسؤولية حاكم مصرف لبنان والمصارف فيها. وقد تفاقم ذلك أيضًا فأيضًا بفعل انفتاح وزارة العدل والمحاكم على قبول هبات عينية مثل هبات الورق التي قدّمها أحد مكاتب المحاماة أو ضمان تنظيف قصور العدل من قبل بلديات أو ضمان الطاقة الكهربائية من هبة مازوت من أجهزة أمنية. هذا فضلًا عن أنّ محدودية الرواتب دفعت قضاة عديدين إلى البحث عن مصادر دخل أخرى، على حساب الجهد الذي كان يجدر تخصيصه للمحاكم أو أحيانًا على نحو يقارب تضارب المصالح (العمل كمستشارين في مكاتب محاماة خلال فترات إجازة غير مدفوعة).
تراجع آخر على صعيد ضمانات استقلالية القضاء يسبّبه اللجوء المفرط إلى المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية بعد تعطيل الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، مما يخوّل أي متقاضٍ كفّ يد القاضي الناظر في قضيّته بصورة شبه دائمة (أقلّه حتى تشكيل رئاسات غرف محكمة التمييز الذي لا يوجد أي مؤشر على قرب حصوله). ومؤدّى ذلك هو فقدان القاضي مرجعيّته وسلطته في فصل النزاعات، مما يقوض مبدأيْ استقلالية القضاء الوظيفية وفصل السلطات بشكل كامل.
يضاف إلى ذلك أنّ تعطيل مشاريع التشكيلات القضائية وتوقّف مجلس القضاء الأعلى عن إعدادها حتى، فضلًا عن قرب انحلال هذا المجلس بفعل انتهاء ولاية أعضائه، برّر التوسّع في استخدام الانتدابات وبخاصّة التكليفات (التي يقرّرها شخص واحد هو الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز أو الاستئناف) كبديل عن التشكيلات لملء المراكز الشاغرة. ومؤدّى هذا الأمر هو نشوء مفهوم “قاضي المهمة” أو “الجوكر” الذي بإمكان رئيس المحكمة التحكّم في تعيينه في مجمل القضايا التي تنظر فيها غرفة قضائيّة تعاني من شغور في مركز أو أكثر. وقد يكون المؤشّر الأهم على هذه الممارسة هو تكليف رئيس محكمة استئناف بيروت حبيب رزق الله القاضي حبيب مزهر برئاسة عدد من غرف في محكمة استئناف بيروت، وهي الغرف التي تسمح له بمراقبة مجمل الأحكام المتّصلة بالمصارف والتي قد تصدر عن المحاكم الابتدائية أو دوائر التنفيذ أو القضاء المستعجل. ومؤدّى ذلك كلّه هو تعزيز الهرمية داخل محاكم الاستئناف ومعها هشاشة القضاة الذين يصبحون إذّاك عرضة لتكليفات بمهام قضائية تُفرض عليهم من دون سؤال، في موازاة تجريدهم من إمكانيّة تقديم أيّ ترشيحاتِ لملء المراكز الشاغرة وإضعاف شعورهم باحتمال تحقيق تطوّر مهني. وإذا صحّ أنّ إمكانية الترشّح لم تكنْ يومًا مضمونة في القانون ولا في الممارسات، فإنّها باتت اليوم معدومة.
محدودية الرواتب دفعت قضاة عديدين إلى البحث عن مصادر دخل أخرى على حساب الجهد الذي كان يجدر تخصيصه للمحاكم
ومؤدّى كلّ هذه العوامل هو نشوء ظروفٍ تعزّز لدى القاضي الشعور بعدم الأمان الوظيفي وتدفعه تاليًا إلى الانفصال أكثر فأكثر عن وظيفته وعن التعويل عليها وعلى نحو يجعله أقلّ استعدادًا للدفاع عن استقلالية القضاء.
وأكثر ما نخشاه هو أن يؤدّي تعطيل عمل الهيئات القضائية (مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي) إلى مفاقمة التدخّلات في القضاء على أنواعها، على خلفية أنّ غياب مجلس القضاء الأعلى يفرض توسيع صلاحية وزير العدل حفظًا للانتظام العام وضمانًا لحسن سير عمل المحاكم. أخطر من ذلك، هو أنْ تعتبر الجهات النافذة بأنّ غياب هيئة التفتيش القضائي يشرّع الباب أمامها لمزيد من التدخّل أو التنمّر على القضاة، بحجّة تصويب مسار أعمالهم في ظلّ غياب أيّ مرجع مختصّ.
ومن المخاوف المشروعة أيضًا، هو أنْ يشكّل الشغور الكبير في القضاء لاحقًا حجّةً لاعتماد آلياتٍ وإجراءاتٍ مختصرة لتعيين قضاة أصيلين جدد بهدف الحدّ منه، كأنْ يتمّ تعيين محامين من دون مباراة (كما حصل بعد حرب 1975-1990) أو بموجب مباراة شكلية لا تضمن شروط الكفاءة، ومن دون أن يستتبع دخولهم القضاء أيّ تدريب في معهد الدروس القضائية. ويخشى طبعًا أنْ تشكّل هذه الآلية حصان طروادة لتعيين قضاة محسوبين على جهات سياسية عملًا بمعايير المحاصصة.
التّراجع على صعيد ضمانات المحاكمة العادلة
أكثر الضمانات التي نهشتْها الأزمة أيضًا هي التمتّع بحقّ اللجوء إلى قاضٍ مُحايد وفاعل، وهي من الضمانات ذات القوّة الدستوريّة.
فمن جهة أولى، تعطّل العمل في عدد من المحاكم بشكل شبه دائم، ممّا أفقد المُتقاضين إمكانية اللجوء إليها وتاليًا إلى المرجعٍ القضائيّ المختصّ، لبتّ مطالبهم أو إبداء دفاعهم وأحيانًا استرداد حرّيتهم. وهذا ما شهدناه مع تعطيل الهيئة العامّة لمحكمة التمييز ممّا منع المتقاضين من الحصول على أحكام في دعاوى مخاصمة الدولة في حال الأخطاء الجسيمة من جهة فضلًا عن تمكين أيّ متقاضٍ من تعطيل أي دعوى مقامة ضدّه في مواجهة أخصامه بمجرّد تقديم دعوى مخاصمة من جهة أخرى. وبفعل ذلك، وجد ضحايا تفجير المرفأ وكذلك ضحايا العديد من المصارف أنفسهم أمام تجميد شبه دائم لمطلبهم للعدالة. وهذا ما يعاني منه أيضًا اليوم الموقوفون في القضايا المحالة إلى المجلس العدلي تبعًا لتعطيله، والذين لم يعد لديهم أيّ مرجع لمطالبته بإخلاء سبيلهم أو إنجاز محاكمتهم. الأمر نفسه نشهده اليوم بما يتّصل بتعطيل مجالس العمل التحكيمية بنتيجة إضراب مفوّضي الحكومة لديها أو تعطيل لجان تنفيذ العقوبات.
ثمة خطر أنْ تعتبر الجهات النافذة أنّ غياب هيئة التفتيش القضائي يشرّع الباب أمامها لمزيد من التدخّل في القضاء
ومن جهة ثانية، نهشت الأزمة حقوق المتقاضين باللجوء إلى مرجع محايد. يتأتّى هذا الأمر من جهة عن تراجع ضمانات استقلالية القضاء ولكن أيضًا عن تعطيل آليات تأديب القضاة وتاليًا محاسبتهم، فضلًا عن تعطيل آليات مخاصمة الدولة على خلفية أعمالهم. يضاف إلى ذلك تآكل ضمانة هامّة من ضمانات حق التقاضي أمام مرجع محايد وهي ضمانة القاضي الطبيعي. إذ بنتيجة شغور العديد من المراكز بفعل تقاعد عددٍ من القضاة واستقالاتِهم والامتناع عن إجراء تشكيلاتٍ قضائيّة، تمّ التوسّع في اعتماد آلية التكليف والتي تُخوّل الرّئيس الأوّل للمحكمة تحديد هوية كلّ أعضاء الهيئات الحاكمة أو بعضهم في هذه القضية أو تلك بحسب الشغور الحاصل فيها، علمًا أنّ هذه الآلية تسمح بتغيير هؤلاء خلال المحاكمة، من جلسة إلى جلسة، إلى حين اختتامها. وهذا ما شهده عدد من المتقاضين في عدد من القضايا، تمّ فيها تبديل الهيئات الحاكمة أكثر من مرة، من جلسة إلى أخرى.
وأخيرًا، فقد المتقاضون إمكانية اللجوء إلى مرجع قضائيّ كفؤ وقادر على البتّ في النزاعات ضمن مهلٍ معقولة، وذلك في ظلّ إطالة أمد المُحاكمات على نحوٍ غير مسبوق. وهذا ما شهدناه من خلال تعطيل المحاكم لسنوات بفعل قوانين تعليق المهل والإضرابات المتتاليّة احتجاجًا على انهيار القيمة الشرائيّة للرواتب. يُضاف إلى ذلك أنّ من شأن تعطيل المحاكم أو إطالة أمدها أن يؤدّي في حالات كثيرة إلى تجاوز المهل الملزمة قانونًا وبخاصّة لجهة المهل القصوى للتوقيف في قضايا الجنح أو الجنايات في مختلف مراحل المحاكمة. كما من شأنه أن يؤدي إلى تقويض الحقّ وبخاصة في القضايا التي يقتضي بتّها بصورة ملحّة تحت طائلة سقوط الحق أو إلى دفع المتقاضين إلى تسويات خارج المحاكم غالبًا ما تنتهي لمصلحة الطرف الأقوى بعد تنازل الطرف الأضعف عن جزء كبير من حقوقه بفعل استشعاره افتقاد أيّ نوع من الحماية. وهذا ما لحظناه بشكل خاصّ في القضايا العالقة أمام القضاء المستعجل الذي فقد صفته تلك. ويلحظ أنّ النقص في إنتاجية القضاء (والذي ما زلنا غير قادرين على قياسه على حقيقته نظرًا لردّ طلباتنا بالحصول على أرقام الدعاوى من المحاكم) يؤدّي فضلًا عن المسّ بضمانات المتقاضين حاليًا بالوصول إلى العدالة، إلى تكدّس الملفّات العالقة والتسبّب في اختناق عدد كبير من المحاكم، وتاليًا إلى تأخير المحاكمات المستقبليّة ومعها ضمانات المتقاضين مستقبلًا. وللأسف، حتى اليوم، لا نجد داخل وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى أو هيئة التفتيش القضائي أيّ مسعى لاستشراف سبل معالجة هذا الاختناق أو الحدّ من مفاعيله.
وجد ضحايا تفجير المرفأ وكذلك ضحايا العديد من المصارف أنفسهم أمام تجميد شبه دائم لمطلبهم للعدالة
نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لتحميل الملف بصيغة PDF