مع نهاية العام 2020 طوت آلاف النساء المعنّفات في لبنان عاماً ثقيلاً حمل معه أزمات متلاحقة كنّ هنّ أكثر الفئات تأثراً بها، بدءاً من وباء كورونا وما فرضه من إقفالات متكرّرة أجبرتهنّ على البقاء لفترات طويلة وجهاً لوجه مع معنفهنّ، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة وانفجار مرفأ بيروت اللذين حوّلا التبليغ عن العنف أمراً ثانوياً، والعنف نفسه “أحسن الشرّين” ليصبح تحمّل الضرب والإهانات والتهديد أخفّ وطأة من الجوع أو البقاء في الشّارع حسب ما يكرّر عدد من النساء المعنّفات.
محاولات خنق وضرب وتهديد بالضّرب وبالرمي في الشارع أو الحرمان من الأولاد عيّنة ممّا تعرّضت له النساء في العام الذي مضى، فضلاً عن حجز الحرّية وتوجيه إهانات ومنع من التواصل مع العالم الخارجي. وفي أكثر الأحيان حصل هذا التعنيف أمام الأولاد الذين تعرّضوا بدورهم إلى الضّرب أحياناً حسب ما تُشير منظمة “كفى” التي تُعنى بمناهضة العنف الأسري في تقاريرها.
قصص عديدة روتها نساء معنّفات، وكان مُلفتاً تكرار معظم اللواتي تواصلنا معهنّ بأنّ وتيرة العنف كانت ترتفع مع فترات الحجر المنزلي بسبب كورونا حيث يتواجد المعنّف داخل البيت لفترات طويلة. كما تحدّث عدد كبير من هؤلاء النساء عن توقّف أزواجهنّ عن العمل وتحوّلهم إلى قنبلة موقوتة تنفجر عند كلّ “استحقاق معيشي” مثل حلول موعد دفع إيجار البيت أو فاتورة الكهرباء، إذ يعمد الزوج إلى إفراغ غضبه الناتج عن عدم قدرته على تأمين المال الكافي، على شكل عنف معنوي وجسدي موجّه ضد الزوجة والأولاد.
“سميّة”: عنف ازداد مع الحجر المنزلي
“لم أستطِع السّكوت هذه المرة لقد كسر يد ابنتي، قرّرت أن أرفع الصّوت، أن أنهي حالاً عنفاً عمره سنوات” تقول سميّة (اسم مستعار) لـ”المفكرة القانونية”. فقد كانت تغضّ الطّرف عن تعنيف زوجها لها على قاعدة “قتلة بتفوت، واكسري الشرّ” كما كانت تقف من دون أيّ اعتراض عندما يطلب زوجها من ابنهما (10 سنوات) أن يحضر شريط شاحن الهاتف أو الخرطوم ليضربه به.
تتحدّث سميّة عن سنوات كانت تتعرّض فيها لعنف زاد بشكل غير مسبوق مع بداية كورونا والحجر وتكرار الإقفالات، إذ لم يعد زوجها، وهو دهّان، يعمل كالسّابق “يذهب يوماً إلى العمل ويتوقّف أياماً بسبب كورونا وفي بعض الأحيان لا يستطيع تحصيل بدل عمله بسبب الضّيقة الاقتصادية التي يعيشها الجميع”. وتضيف بغصّة “هنا الأصعب فعندما يشعر أنّه غير قادر على تأمين ما أحتاجه أنا وأطفالنا الثلاثة يصبح إنساناً آخر يغضب ويفرغ غضبه بممارسة العنف اللفظي والجسدي عليّ وعلى الأطفال ولاسيّما الصبي، قبل كورونا كان العنف مقتصراً عليّ ولكنه طاول أطفالنا لاحقاً”.
تروي سمية الكثير من لحظات العنف التي تعرّضت لها وتخبرنا “كيف رمى عليها الحساء عندما غضب وهم يتناولون العشاء” ولكنّها تصرّ على التركيز على ما حصل قبل شهرين تقريباً حين غضب زوجها من ابنتهما (11 عتاماً) فحمل مكنسة بعصا خشبية وهجم عليها، وتقول: “لأوّل مرّة تجرّأت على الوقوف في وجهه، ضربني وأبعدني ومن ثم ضرب ابنتنا وكسر يدها فقرّرت أن أضعه عند حدّه”.
لم تبلّغ سمية المستشفى عن السبب الحقيقي لكسر يد ابنتها “لا أريد حبسه فهو والد أبنائي ومعيلنا”. لكنّها لجأت إلى إحدى الجمعيات المعنية بالعنف الأسري وهدّدت زوجها بأنّها ستترك المنزل مع أطفالها. “ومنذ ذلك الوقت لم يعنّفنا، ولكنّ الأهم في الموضوع أنّني لم أعد أخاف، سأواجهه وأحمي نفسي وأطفالي” تؤكّد سمية.
معدلات العنف ترتفع والأرقام غيض من فيض
تشير عملية الرصد الدورية التي تقوم بها الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية بالتعاون مع المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أنّ عدد الاتّصالات الواردة على الخط الساخن 1745 المخصّصّ للتبليغ عن شكاوى العنف الأسري، تصاعدت من شباط 2020 أي منذ ظهور وباء كورونا إلى تشرين الأول من العام نفسه بنسبة 51%.
وكانت نسبة التبليغات عبر الخطّ السّاخن المخصّص لتلقّي شكاوى العنف الأسري في قوى الأمن الداخلي ارتفعت بنسبة 100% في شهر آذار 2020 حين بلغت 88 اتصالاً في حين بلغت التبليغات في آذار 2019، 44.
وأوضحت المديرية أنّ ضحايا العنف الأسري من النساء كنّ 88% من الجنسية اللبنانية والبقيّة من غير اللبنانيّات، مشيرة إلى أنّ 70% من الضحايا المعنّفات تتراوح أعمارهنّ بين 21 و50 عاماً، و61% منهنّ تقدّمن بالشكاوى بأنفسهنّ، والنسبة الباقية من الشكاوى قدّمت من قبل الجيران أو الأهل أو العائلة أو الأصدقاء. ولفتت إلى أنّ 59% من الشكاوى التي ترد إليها في حالات العنف الأسري تُرتَكب من قبل الزوج.
وفي مؤشّر آخر لازدياد العنف ارتفع عدد التبليغات التي تلقّتها الخطوط الساخنة في المنظمات التي تُعنى بمكافحة العنف الأسري بشكل ملحوظ في العام 2020 مقارنة بالعام 2019. فقد ارتفع عدد الاتصالات التي تلقّتها منظمة “أبعاد” العام الماضي حتى شهر آب 61% مقارنة بالعام الذي سبقه، إذ بلغ عدد الاتصالات العام الماضي 3085 بعدما كان 1193 في العام 2019.
أمّا أرقام منظمة “كفى” فتشير إلى أنّ عدد الاتصالات ارتفع من 4723 اتصالاً العام 2019 إلى 5667 اتصالاً إلى حد آخر أيلول من العام الماضي. وارتفع عدد الاتصالات للحالات الجديدة (تتّصل لأوّل مرة) من 1107 العام 2019 إلى 1356 حتى أيلول من العام 2020.
تؤكّد معظم المؤسّسات العاملة في إطار مكافحة العنف الأسري أنّ نسبة التبليغ عن العنف وإن ارتفعت خلال العام الماضي فإنّها لا تعكس الواقع الحقيقي، “فقد كان هناك الكثير من العوائق التي حالت دون تبليغ النساء عن العنف الذي يتعرّضن له، منها وجود المعنّف لساعات طويلة مع المعنَّفة في منزل أو حتى غرفة واحدة حسب ما ترى مديرة برنامج الإيواء الآمن للنساء الناجيات من العنف في منظمة “أبعاد” جيهان إسعيد.
وفي دلالة إلى صعوبة تبليغ النساء عمّا يتعرّضن له من عنف في ظلّ وباء كورونا، تشير إسعيد في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ “العام الماضي شهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الرسائل التي وصلت على تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي لـ”أبعاد” وذلك لأنّه لم يكن بإمكان المعنّفات الاتصال لذلك لجأن إلى الكتابة”.
وتربط إسعيد ارتفاع نسب التبليغ عن العنف عاماً بعد عام بأسباب تتعلّق بوصول السيّدات أكثر إلى الجمعيات المعنيّة والإضاءة على موضوع العنف من قبل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي لحملات التوعية المستمرّة.
هذا التصاعد في العنف الأسري يبدو واضحاً أيضاً في أرقام قوى الأمن الداخلي التي أشارت إلى أنّه “بعدما كان عدد الشكاوى 126 شكوى في العام 2018 ارتفع إلى 716 في العام 2019 وإلى 1276 شكوى العام 2020.
ومن الأسباب التي أعاقت النساء من التبليغ عن العنف والمرتبطة أيضاً بكورونا كانت صعوبة إيجاد ملجأ للسيدة المعنّفة حسب ما تشرح المحامية في منظمة “كفى” ليلى عواضة، مشيرة في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ هذا الأمر دفع “كفى” العام الماضي إلى اتّخاذ إجراءات استثنائية منها العمل على إيجاد ملجأ مؤقّت حيث يجرى للمرأة المعنّفة فحص “بي سي آر” لتنتقل بعد ذلك إلى الملجأ النهائي بشكل آمن صحياً.
ولكن كورونا لم يكن العائق الوحيد أمام طلب النساء المعنّفات المساعدة، فعدد كبير منهنّ اعتبرن أنّ التبليغ عن العنف في هذه الفترة ليس أولويّة في ظلّ تفاقم الضغوطات المعيشيّة بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان، حسب ما توضح عواضة. وتشير إلى أنّه خلال الأعوام الماضية كان التبليغ بمعظمه يحصل من نساء يطلبن المساعدة الطويلة الأمد إذ يكون اتصالهنّ نتيجة قرار خُطّط له، أما العام الماضي فأكثر التبليغات كانت طارئة بمجرّد التعرّض للعنف.
العنف يرتفع في الأزمات والنساء أولى ضحاياه
يرتبط ارتفاع نسبة العنف الأسري خلال العام الماضي بشكل رئيسي بانتشار وباء كورونا وتبعاته فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها لبنان، حسب ما تؤكد الاختصاصية في علم النفس العيادي رانيا البوبو، مذكّرة في حديث مع “المفكرة” بأنّ العنف يزداد في أوقات الأزمات وغالباً ما تكون ضحاياه الفئات الأضعف في المجتمعات أي النساء والأطفال.
وتشرح البوبو أنّه مع فرض كورونا إجراءات الحجر بات المُعنِّف يتواجد بشكل أكبر مع الأمّ والأطفال، الأمر الذي يعني ازدياد وتيرة العنف الأسري لأنه بالنسبة إليه طريقة للتعبير عن انفعالاته، مع الإشارة إلى أنّ الحجر قد يساعد في إظهار جانب عنفي عند بعض الرجال كان غير ظاهر في السابق، فيترجمونه بالشتم أو الضرب. وتوضح أنّ شعور الرجل، نتيجة الضائقة التي يمرّ بها لبنان، بأنه غير منتج وغير قادر على رعاية الأسرة يدفعه إلى العنف كسلوك يعوّض فيه جزءاً من صورته النمطيّة كرجل، أو يعبّر من خلاله عن غضبه.
وتشير البوبو إلى أنّه من العوامل التي تساهم في ارتفاع العنف أثناء الحجر أيضاً صعوبة إيجاد ملجأ للسيّدات المعنفات فيعمدن إلى العضّ على جراحهنّ ما يشجّع المعنّف على المزيد من العنف، هذا فضلاً عن ميل بعضهنّ إلى التبرير للرجل المعنّف انطلاقاً من كثرة الضغوطات الاقتصادية عليه أو باعتباره رجلاً غير معتاد على الجلوس في المنزل، مضيفة أنّه عند الأزمات ترتفع احتمالات تبرير المعنّفة للمنعنّف وإيجاد الأسباب التخفيفيّة له.
وفي حين تذكّر البوبو بأنّ العنف عادة ما يكون دورة من الأقوى إلى الأقلّ قوة إلى الأضعف لذلك نرى في بعض الأحيان الأم ترد العنف الموجّه إليها من الزوج بعنف منها على الأطفال، تؤكد أنّ الأطفال غالباً ما يكون لهم حصّة من العنف الأسري إمّا بشكل غير مباشر عبر مشاهدتهم أبيهم يعنّف والدتهم أو عبر تعرّضهم للعنف المباشر من الأب أو في بعض الأحيان من الأم.
تفجير مرفأ بيروت عنف من نوع آخر
بعد تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب والذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص بينهم 63 امرأة ودمّر جزءاً من العاصمة وبيوت مئات الآلاف من الناس، رأت بعض المؤسّسات التي تعنى بمناهضة العنف ضدّ المرأة ومنها” كفى” أنّ الخدمات القانونية والاجتماعية والنفسية التي تقدّمها للنساء وأولادهنّ في العادة لم تعد كافية فبادرت إلى أعمال الإغاثة كما تؤكّد عواضة، مشيرة إلى أنّ أولويات النساء المعنّفات تبدّلت فبتن يطلبن مساعدات إغاثيّة.
وأمام هول التفجير، تمّ الاتّصال بكلّ المستفيدات من مركز الدعم في “كفى” لمعرفة حاجاتهنّ وسُبل تلبيتها فضلاً عن الاتّصال بنساء من خارج “كفى” يسكنّ في المناطق المحيطة بمكان التفجير ومنهنّ معيلات لعائلاتهنّ تضرّرت منازلهنّ أو خسرن أقارب لهنّ أو عملهنّ.
ويُشار إلى أنّه وبعد التفجير ارتفع طلب السيّدات المتّصلات بمركز الدعم لجلسات متابعة نفسية.
المسار القضائي بطيء أو متوقّف
لم يكن من السّهل بالنسبة إلى النساء المعنّفات اللجوء إلى القضاء خلال العام الماضي بسبب وباء كورونا. فمحاكم الأحوال الشخصية لم تعتمد نظام الجلسات عن بعد، حسب ما توضح عواضة، مشيرة إلى أنّ المسار القضائي كان بطيئاً جداً العام الماضي إلى حدّ الجمود التامّ في قضايا الأحوال الشخصية ولا سيّما في ما خصّ الحضانة والطلاق.
وانطلاقاً من هذا الواقع، لا يُمكن الحديث عن ارتفاع في نسبة الطلاقات ولا سيّما أنّ معظم المعنّفات اللواتي يلجأْنَ إلى الجمعيات ويكون مطلبهنّ الأول الطلاق يتراجعن عن الأمر بعد فترة بخاصة وأنّ الإجراءات تأخذ وقتاً طويلاً، وهذا لا ينفي اللجوء في بعض الأحيان إلى عقد اتفاقية طلاق يتمّ تسجيلها لاحقاً في المحاكم.
مقابل جمود القضاء في قضايا الطلاق والحضانة، كان يتمّ اللجوء إلى قاضي الأمور المستعجلة في قضايا تتعلّق باستلام الأولاد أو المشاهدة أو النفقة و”غالباً ما كان القاضي يستجيب سريعاً في الحالات الطارئة” حسب ما تؤكّد عواضة، مشيرة في الوقت نفسه إلى استجابة سريعة أيضاً من قبل دوريات قوى الأمن الداخلي عند التبليغات عن عنف طارئ.