مجسّم لتمثال “الباكِيَتان” (Deux pleureuses) وهو من أعمال النحّات يوسف الحويّك حُمل في مسيرة "كلّنا ضحايا والمجرم واحد" في 8 آب 2021
تترسّخ في لبنان ثقافة اللامحاسبة والإفلات من العقاب، وهي ليست ثقافة جديدة، بل تعود إلى عقود مضت، وبخاصّة بعد انتهاء الحرب اللبنانية (1975-1990)، حين عفا أركان السلطة عن أنفسهم، وما نجم عن ذلك من طمس لقضية 17 ألف مفقود ومخفي قسرًا، لم يعرف مصيرهم حتى اليوم، وحرموا وعائلاتهم من العدالة، وأسّست لمرحلة جديدة من الانقلاب على الحق.
وها هو النظام السياسي اليوم، وبعد نصف قرن يسلك المسار نفسه في قضية تفجير مرفأ بيروت الذي لا يزال التحقيق فيه معطّلًا على نحو متعمّد، ما يجعل إنصاف 242 ضحية وأكثر من 7 آلاف جريح، من جرّاء التفجير وآلاف المتضرّرين في منازلهم وممتلكاتهم أمرًا بعيد المنال حتى الآن.
مآسٍ كثيرة وعديدة أصابت الشعب اللبناني، منها عمرها من عمر زمن الحرب، أي 49 عامًا، كقضية المخطوفين والمفقودين والمخفيين قسرًا، وأخرى عمرها 4 أعوام، كقضية تفجير مرفأ بيروت. وبالرّغم من فداحة الجرائم المرتكبة، ما يوجب ضرورة التحقيق الكامل فيهما، إلّا أنّ القضيّتين استُبعدتا من التحقيق والمساءلة، مع أنّ الجناة معروفون لكنّهم لا يسألون ولا يساءلون. وبالنتيجة لا تزال الحقيقة في هذه المآسي معطّلة أو مؤجّلة وبالتالي غائبة، إلّا أنّ نتائج ومفاعيل هذا الغياب سواء القانونية والسياسية والاجتماعية مستمرّة في التأثير في المجتمع اللبناني بجميع النواحي.
هذا ما دفع أهالي المفقودين وأهالي ضحايا 4 آب، إلى الالتقاء الأسبوع الماضي في “بيت بيروت” الشاهد على الحرب اللبنانية والحاضن لذاكرة الحرب، بدعوة من “لبنان عن جديد”، تحت عنوان “العدالة المخفيّة قسرًا”. فهؤلاء يرون أنّ ما نعيشه اليوم من حرب مقنّعة هو نتاج سياسة إدارة الظهر لكلّ ما سبّبته الحرب. ويتساءلون هل يجوز أن ننسى أنّ المسؤولين عملوا وما زالوا يعملون على انتهاج سياسة طمس الماضي، وكمّ الأفواه، وتخدير ذاكرتنا للإفلات من العقاب؟ وكأنّ الحرب لم تقع، وكأنّ تفجير 4 آب لم يحصل، وكأنّ كلّ الضحايا الذين سقطوا ويسقطون ليسوا ضحايا بل “شبّهوا لنا”. وينبّهون إلى أنّنا كلّنا في هذا البلد مشاريع ضحايا، كلّنا ضحايا مؤجّلون، إن لم نقف صفًا واحدة في وجه السلطة السياسية الفالتة من عقابها ومن عقالها.
قد يتساءل البعض عن أوجه التشابه بين هاتين القضيتين رغم الفارق الزمني ونوع الجريمة، الجواب السريع هو أنّ المجرم نفسه وهم أمراء الحرب وأركان السلطة الذين يجدّدون لأنفسهم منذ العفو العام بعد الحرب. وبالتّالي فإنّ المجرم الذي لم يحاسب بعد الحرب استمرّ في ارتكاب جرائمه وآخرها تفجير 4 آب. وقد اختصر أحد الأهالي الأمر في اللقاء نفسه بالقول: “لو جرت محاسبة أمراء الحرب اللبنانية على جرائمهم لما حصل تفجير 4 آب”.
“العدالة المخفيّة قسرًا”
رغم استمرار تعطيل العدالة لضحايا الحرب ولضحايا 4 آب وللكثير من الضحايا الآخرين في قضايا أخرى، وحدهم أهالي الضحايا، لا يزالون يتحرّكون سنة بعد أخرى، للمطالبة بحقّهم في معرفة ما حدث لأحبّائهم والحصول على العدالة، في وقت تراجع بعض أشكال التضامن الشعبي للقضيّتين وأبرز أسبابه استمرار السلطة في تعطيل العدالة فيهما من أجل إطفاء أي أمل لدى الناس وبالتالي إنهائهما “على البطيء”.
ولأنّ قضية تفجير المرفأ وقبلها قضية المخفيين قسرًا لا تتعلّقان بذوي الضحايا فقط، بل تطال تأثيراتهما المجتمع بأكمله، وتشكّلان انتهاكًا لحقوق الإنسان وكرامة الضحايا، يدور النقاش اليوم في أوساط الأهالي وداعميهم حول ضرورة خلق وعي مجتمعي حول هاتين القضيّتين وقضايا أخرى مثل نهب ودائع اللبنانيين وجنى أعمارهم والانهيار المالي والاقتصادي، لتصبح مناصرة هذه القضايا مسؤوليّة مجتمعية يجب أن يشترك فيها المواطنون وخصوصًا الجيل الجديد، من خلال إعلان التضامن ومواكبة تحرّكات الأهالي ومساندتهم بجميع الوسائل الممكنة.
ومن هنا انطلق النقاش بين أهالي الضحايا، فتشاركوا وجعهم وهمومهم وفظاعة ما عاشوه من عذاب ألم الفراق والقلق من عدم تحقيق العدالة لضحاياهم، مطالبين المجتمع من كلّ الفئات إلى احتضان قضيّتهم وعدم نسيانها، كما تأمل السلطة وتعمل عليه.
وطرحت الإعلامية ليال بو موسى إشكاليّة القاسم المشترك بين القضيّتين، لتشير إلى أنّ هناك خوف من أن يصبح الوقت هو القاسم المشترك بينهما. “فإذا لم نصعّد نضالنا، تستطيع السلطة أن تستفرد بالأهالي وتحوّل قضية المرفأ من قضية جماعية إلى قضية تخصّ الأهالي فقط، كما حصل مع أهالي المفقودين”، متسائلة “ما العمل؟ هل ننتظر أن ينصُب أهالي ضحايا تفجير المرفأ بعد 40 سنة خيمة في ساحة الشهداء؟”.
واذ رأت أنّ حياة وموت هاتين القضيتين في يدنا، أشارت إلى أنّ “هدفنا لا يجب أن يكون الذكرى بل إحياء الذاكرة حتى تبقى في يوميّاتنا ونضالنا من أجل إظهار الحقيقة”. ودعت إلى أن “نتخيّل أنّنا في 4 آب 2063 وما زلنا بانتظار استكمال التحقيقات في انفجار بيروت وتحقيق العدالة ومعرفة من فجّر بيروت وقتل أكثر من 240 ضحية وسبّب بأكثر من 7 آلاف إصابة، أي أن تمرّ 43 سنة، كما حصل مع المفقودين والمخفيين قسرًا، ولا نكون قد حققنا العدالة للضحايا”. وأضافت أنّ “هذا الأمر ليس صعبًا على السلطة التي ساهمت وأهملت وفجّرت وبكلّ وقاحة تعرقل التحقيق حتى تمنعنا من تحقيق العدالة ونعرف من فجر مدينتنا”.
ورأت بو موسى أنّ “من واجبنا أن نواجه لأنّ هذه السلطة قادرة بوقاحتها ألّا تحقق العدالة”. ورأت أنّ التغيير ممكن من خلال الإعلام وتشكيل مجموعات ضغط من كلّ المناطق، لتكون الصاعق أو الشرارة لتُشعر السلطة بالقلق، لافتةً إلى “أنّنا حتى اليوم لم نقدر على إقلاقها كما يجب”. ودعت إلى كسر هذه الدائرة ليس من الناس التابعة لهذه السلطة بل من الناس التي لا ترضخ ولا تنكسر، كونها ترى أنّ العدالة هي أهمّ شيء.
الأهالي: الجريمة التي لا تحصل فيها محاسبة تجرّ جريمة
رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وداد حلواني، زوجة المفقود عدنان حلواني قالت بدورها إنّ: “نصف عدالة تعني عدالة منقوصة، ونحن رغم مرور عشرات السنين لا نزال نطالب بعدالة كاملة”.
وأشارت إلى أنّه “في العام 1990، تمّ الإعلان رسميًا عن انتهاء الحرب وإقفال كلّ الملفّات المتّصلة بها، من ضحايا ومصابين ومهجّرين، واعتبروا كأنّه ما صار حرب. طالبوا الشعب اللبناني بعدم الالتفات إلى الوراء، وتركوا خلفهم آلاف من الضحايا والمصابين والمعوّقين والمخطوفين والمفقودين”.
وتابعت: “لكن العائلات والأهالي لم يسكتوا، فنحن لم نولد اختياريًا لنكون أهالي مفقودين ولا نحن من كوكب آخر، ولا لنا القدرة على التحمّل أكثر من غيرنا، كلّ ما أردناه أن يكبر أطفالنا الذين أصبحوا اليوم آباء وأمّهات، في وطن تسوده العدالة، وطن يحاسب الفاسدون فيه والمجرمون، وليس في بلد تعوّد مسؤولوه على الإفلات من العقاب”.
واعتبرت حلواني أنّه “عندما نصل بنضالنا إلى محطّات متقدّمة فيقولون لنا: كان في حرب وكلّ الناس شاركت، يعني خلص، ثمّ تحصل جريمة بالـ 2020 أي بعد 34 عامًا من السلم المعلن، جريمة متكاملة الأطراف، تقتل وتدمّر، فما هو تفسيرهم اليوم؟ حصلت الجريمة، فما هي الحجّة حتى لا يتمّ التحقيق فيها بعد 4 سنوات، أو الأصحّ ما الذي يمنع التحقيق في الانفجار؟”. وخلصت إلى أنّ كلّ جريمة لا تحصل فيها محاسبة تجرّ جريمة.
وشدّدت حلواني على أهمّية مواصلة النضال والوقوف يدًا واحدة من أجل منع الطريق على السلطة لارتكاب جرائم جديدة، مذكّرة بنضال أهالي المفقودين الذي بدأ برفض القانون رقم 434 في عام 1995 حول الأصول الواجب اتباعها لإثبات وفاة المفقودين والذي هدف إلى دفع الأهالي إلى توفية العدد الأكبر من مفقوديهم، وصولًا إلى صدور القانون 2018/105 بعد 36 عامًا من النضال اليومي انتزع فيه الأهالي اعترافًا بحقّهم في معرفة مصير مفقوديهم.
من جهتها المحامية سيسيل روكز شقيقة الضحية جوزيف روكز، اعتبرت أنّ “السلطة تريد إخفاء جرائمها، لأنّها اعتادت على عدم محاسبتها، فباتت تتعاطى مع كلّ الجرائم في لبنان، على مبدأ: عفا الله عمّا مضى، فالنظام فاسد وفساد السلطة متفشّي والمجرمون محميّون”.
ورأت أنّ الرابط بين الجريمتين هو اللاعدالة، إلّا أنّها مع ذلك أعربت عن إيمانها بأنّ “قضيّتهم بيد قاضٍ نزيه وأمين على مهنته وعدالته، لذا فهي ليست خائفة على تحقيق العدالة بوجود القاضي طارق بيطار”. وتابعت: “قناعتنا أنّنا سنصل إلى حقّنا بواسطة قاض نزيه، كل الدولة مجتمعة عليه للاطاحة به”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.