بين ركام البيوت في الضاحية مَن لا يزال يبحث عن تفاصيل تختصر عمرًا بحلوه ومرّه 


2024-12-10    |   

بين ركام البيوت في الضاحية مَن لا يزال يبحث عن تفاصيل تختصر عمرًا بحلوه ومرّه 
منزل أم أسامة المدمّر في الضاحية

في الأسبوع الثاني لوقف إطلاق النار وفيما كان معظم أهالي الضاحية الجنوبية لبيروت يتلمّسون طريق العودة، كانت حنان تتفقّد منزلها في حارة حريك للمرّة الأولى، تبحث بين جدران رأتها تستحيل ركامًا في فيديو وثّق لحظة استهداف المبنى، عمّا يُمكن لملمته من ذكريات، وهي الواصلة مباشرة من الأردن مسقط رأسها ومكان نزوحها وزوجها اللبناني زمن الحروب.  

على كرسي بلاستيكي أسندته إلى حائط مبنى صمد بين مبان دمّرت بالكامل، تجلس حنان تنفض الغبار عن يديها، هي التي أيقنت لتوّها أنّ ما تبحث عنه بين ركام منزلها لم يعد موجودًا، لا ألبوم  الصور، ولا دفتر الإملاء الذي يعود لابنتها التي خسرتها قبل أعوام برصاصة طائشة، كلاهما احترق يوم دمّرت إسرائيل منزلها، فزادت فصول قهرها فصلًا.

أن تخسر حنان منزلًا اشترته قبل أكثر من 30 عامًا يوم عادت وزوجها من غربتهما في الكويت قهرٌ، وأن تخسر أثاثًا انتقته قطعة قطعة قهر أيضًا، ولكنّ كلّ القهر اجتمع حين وقفت على ركام ما تبقّى من شقّتها تبحث عن تفاصيل تختصر عمرها بحلوه ومرّه. تفاصيل تُشبه دفتر إملاء ابنتها التي لم تتجاوز سبع سنوات وكانت “شاطرة” بالإملاء فاحتفظت لها بالدفتر. تفاصيل تُشبه  ألبوم الصور الذي خبّأت فيه وبحرص كما تصرّ أن تُعيد وتُكرّر لنا، أوّل كلمة وأوّل خطوة وأوّل حمّام لأربعة أبناء تجاوز صغيرهم الثلاثين عامًا اليوم.

 قبل وصولها إلى الضاحية الجنوبيّة، ظنّت حنان أنّها تحضّرت مرارًا لهذه اللحظة وأنّها ستكون أقلّ وطأة، فهي حين خرجت من منزلها كانت تعرف أنّه قد لا ينجو وهو كان تضرّر في حرب تمّوز. وحين أرسلت لها ابنتها خريطة نشرها المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي وشقّتها داخل المربّع الأحمر وفوقه دائرة حمراء رسمتها ابنتها، عرفت أنّه سيُستهدف. كما أنّها شاهدت فيديو تفجير المبنى الذي أرسلته لها ابنتها. ولكن رغم كلّ ذلك، حين وقفت على الركام أيقنت أنّه لا يمكن الاستعداد لمثل هذه اللحظة.

لا يمكن الاستعداد لمثل هذه اللحظة

فكيف يُمكن الاستعداد للحظة تزدحم فيها الذكريات مرّة واحدة ومن دون خطٍ زمني يُساعدك على ترتيبها، فاليوم بكت حنان جيرانها وكأنّها أيقنت الآن أنّ كلًا منهم أصبح في مكان وهي التي بكت معهم ومن أماكن نزوحهم منذ أسبوع  أو أكثر أقارب فقدوهم في هذه الحرب. اليوم بكت ابنتها مرّة أخرى بكت دفتر الإملاء وألبوم الصور بكت وبكت. وكلّ ما بكته “فداء لغزّة ولكلّ من يقف بوجه إسرائيل” كما تقول، ولكنّ هذا لا يمنع الغصّة، فويلات الحرب كثيرة، والويلات تصبح أكثر إيلامًا عندما تكون ويلاتنا: “بكيت كلّ الشهداء من غزّة إلى لبنان، بكيت شقيق جارتي، بكيت منازل كثيرة وبكيت منزلي” تقول.

بينما كانت حنان تُحدّثنا، كان زوجها وابنتها مستمران بالبحث بين الركام عمّا يُمكن إخراجه من المنزل، وعندما عادا حاملين كيسيّن صغيرين ركضت حنان مسرعة صوبهما، طلبت من ابنتها أن تُريني فستانًا صغيرًا عثرت عليه بين الرّكام وبعدها أخرجت تنّورة وبنطالًا “هذه كلّها لها حين كانت في أشهرها الأولى، اليوم هي صبيّة عمرها 36 عامًا، هذه هي البيوت التي نبكيها وليس الحجارة” تقول قبل أن تستقلّ السيّارة إلى منزل جديد استأجرته، وقبل أن تلوّح لي مؤكّدة أنّها ستعود إلى منزلها، كما عادت بعد حرب تموز، ولكنّه لن يكون كما كان.  

على بعد أمتار قليلة من بيت حنان، تتفقّد أم أسامة منزلها للمرّة الأولى أيضًا، مقابل مبنى سوّي بالأرض. تبحث عن أيّ شيء يُمكن إخراجه، عن شيء يواسي ابنتيها وابنها “ماما لا تنسي الثياب لا تنسي الكتب، ماما لا تنسي ولا تنسي، وكلّ ما بقي من المنزل هذه..”، مشيرة إلى حقيبة جمعت فيها ما وجدته ممّا تبقّى من ملابسهم، وإلى كرسي أزرق معلّق بين ركام غرفة أولادها.  

إلى جانب أم أسامة يقف زوجها يمسح درّاجة ناريّة أخرجها لتوّه من تحت الركام، والدموع واضحة على خدّيه، بالطبع لا يبكي أبو أسامة درّاجته الناريّة، ليس فقط لأنّها لا تزال بحالة جيّدة، بل لأنّ كلّ ما خسره  يُمكن تعويضه إلّا الذكريات، فهذا المنزل هو منزل والديه قبل أن يصبح منزله، وعلى جدرانه صورهما وصوره وهو طفل وجنبها صوره وهو أبٌ وصور أبنائه.

كانت أم أسامة تُسابق الوقت لتصل إلى منزلها، كانت تعرف أنّه متضرّر فالغارات استهدفت مبان كثيرة قريبة منه، ولكنّها لم تكن تعلم أنّه سويّ بالأرض. أرادت أن تأتي لتفقّده منذ اللحظة الأولى لإعلان وقف إطلاق النار، ولكنّها كانت نازحة إلى سوريا بلدها الذي انتقلت منه للعيش في الضاحية بعد زواجها. “لم تكن الأمور مسهّلة، إسرائيل قصفت المعابر، لم نستطع الوصول قبل اليوم، واليوم أيضًا سنعود إلى  سوريا” تقول.

قرّرت أم أسامة وزوجها أن تبقى العائلة في سوريا حاليًّا فمدارس أبنائها ستعتمد حاليًا التعليم عن بعد بسبب تضرّر المباني، وعملها وهي مدرّسة وعمل زوجها متوقّفان منذ بداية الحرب، ولا قدرة لهما على تحمّل كلفة استئجار منزل، ولا البداية من جديد “عمري 40 عامًا، تعبت جدًا أنا وزوجي حتّى استقرينا، واليوم علينا أن نبدأ من جديد” تقول.

العودة إلى الضاحية وتحديدًا إلى المنزل أمر محسوم بالنسبة لهما ولاسيّما أنّ أبناءهما يريدون العودة إلى المكان الذي كبروا فيه كما كبر والدهم، يُريدون العيش حيث يشعرون أنّه شارعهم ومنطقتهم وبلدهم.

الحقيبة التي تحدّثت عنها أم أسامة ويبدو ركام منزلها

عندما وصلت أم أسامة وزوجها إلى الحي طلبت منهما ابنتهما الصغرى التي لا تتجاوز العشر سنوات تصوير الباحة المقابلة للمبنى حيث اعتادت أن تلعب، ومدرستها التي تقع في آخر الباحة على الزاوية، لم يجدا ما يصوّرانه لها وحين أخبراها بالأمر قالت: “يعني لا البيت بقي ولا الشارع ولا المدرسة، أين سألعب وأين سأدرس، لم يُبقوا لي شيئًا”. 

يعني لا البيت بقي ولا الشارع ولا المدرسة

لم تستطع أم أسامة أن تمنع دموعها وهي تُخبرني عن ردّة فعل ابنتها وبكت كثيرًا، بكت حزنًا على منزل العائلة وتفاصيله الصغيرة على قرآن ابنتها والقصص التي كانت تقرأها لها، على كتب حضّرتها لعام دراسي جديد لم يبدأ، على كلّ هذه الأمور التي جاءت تبحث عنها. بكت خوفًا أيضًا “فالخوف لا ينتهي مع انتهاء الحرب” تقول، مشيرة إلى أنًّ الرعب الذي عاشته وعائلتها قبل نزوحها حين استهدف العدو الإسرائيلي الضاحية قبل توسّع العدوان حتّى، يسكنها ويسكن أطفالها حتّى باتوا لا يطيقون سماع أيّ صوت عال، وأخيرًا بكت فرحًا لأنّها خرجت مع عائلتها سالمة وإن كانت الفرحة منقوصة بغصّة فقدان البيت وفقدان جيران ومعارف قريبين منهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني