يوم 11 جانفي 2025، أدى وزير السياحة سفيان تقية زيارة إلى بعض مناطق السياحة الثقافية والطبيعية في ولاية باجة ومن بينها مدن مجاز الباب وتبرسق وتستور ودجبة، إضافة إلى الموقع الأثري بدقة. كانت هذه الزيارة نوعا من الاستفاقة المتأخرة لما تختزنه هذه المنطقة من موروث ثقافي وبيئي عميق، يمكن إدماجه ضمن مسلك سياحي متكامل يشمل جزءا من المناطق الأثرية في جنوب ولاية باجة، حيث يمتزج التراث النوميدي القديم بالتأثيرات القرطاجية والرومانية، فالبيزنطية من بعدها. وعلى ضفاف مجردة، وغير بعيد من التلال المشرفة على الوادي، آثر قسم من الموريسكيين الذين هجرهم الملك الإسباني فيليب الثالث بداية من سنة 1609 الاستقرار على أنقاض مدينة تيشيلا الرومانية القديمة، لكي ينشؤوا إحدى أهم حواضرهم ازدهارا واكتمالا في شمال إفريقيا، على طراز معمارهم الثري الذي تتناغم فيه التأثيرات الإسلامية والأوروبية الغربية.
ومنذ العصور القديمة، ازدهرت عديد المدن على مستوى الطريق الرومانية الرابطة بين قرطاج، عاصمة إفريقيا البروقنصلية في العصر الروماني، بدواخل البلاد وصولا إلى مدينة تبسة الجزائرية. وهذا الطريق القديم هو الذي شكل نواة الطريق الذي يربط المنطقة بالعاصمة اليوم. وبين تستور ودقة، يقبع تراث حضاري هام في حاجة إلى المزيد من إماطة اللثام عنه والتعريف به، ومن ثم البناء عليه لتأسيس مسلك سياحي ذي بُعد تنموي، يُثمن موروث المنطقة من التراث المادي واللامادي، ويخرج من الأطر البالية للتسويق السياحي، إلى كشف ما لهذا المجال الجغرافي من إمكانيات هامة، تحتاج إلى حزمة من السياسات العمومية التي لم تستغل ما تختزنه المنطقة بالشكل الكافي. ومثل هذه السياسات تحتاج إلى برامج شاملة، تخضع لتصورات تنموية قائمة على مبادئ المساهمة والتشاركية في مراحل تصوّر المشاريع وإعدادها ثمّ تنفيذها في ما بعد. ولذا من الضروري في كل عملية تنموية تخص هذا المجال، احترام الموروث المحليّ وتعبيراته الثقافية، التي لا يجبُ أن تخضع للنزعة المركزية للسلطة، حيث قد تساهم هذه النزعة في تفكيك مقومات المجال المحلي تحت شعار الضرورات التنموية. ومن المعروف أنّ السياسات المُسقطة المُعاكسة للجانب المُحلي قد تؤدي إلى فشل التجارب التنموية. وضمن هذا الإطار، سيُحاول المقال شرح هذه الثنائية، مع إبراز دور المجتمع المدني في إنتاج تصوّرات ثريّة للتنمية الثقافية بالمنطقة.
تستور، موروث ثقافي مُتفرد، يُهدده الإهمال
يقع القسم القديم من مدينة تستور في تلة صغيرة، تُطل على نهر مجردة. ويحمل شكلا شطرنجيا، مُشابها لمعظم المخططات العمرانية للمدن الأندلسية حيث شكلت الجالية الموريسكية المسلمة وعدد من اليهود السفارديم القادمين من إسبانيا أيضا، النواة الأولى للسكان، قبل التحاق مجموعات تنتمي لعدد من القبائل في الشمال والوسط، الذين استقر بعضهم في البداية بأحواز المدينة وضواحيها. ولا تحملُ البلدة كإطار حضاري انفصالا عن عمقها الريفي، حيث بساتين الرمان وأشجار الزياتين، بل إن المدينة هي استمرار للريف بشكل آخر. إذ يُقابل مخطط المدينة الشطرنجي المُنظم، تقسيم دقيق للبساتين على شكل قطع هندسية أغلبها مُسيج بسواتر. وتُعرف هذه القطع لدى السكان المحليين ب”البرجيلة”، في تحريف عن كلمة la parcella الإسبانية، وهي نفس اللغة التي ظلّ يتحدث بها سكّان البلدة المورسكيون منذ إنشائها سنة 1609 إلى حدود القرن الثامن عشر. بل وقد حافظ سكانها على عادة مُصارعة الثيران الإسبانية إلى عقود بعد إنشائهم للمدينة، حيث كانوا يقيمون بعضا من مسابقاتها في حي الرحيبة وسط البلدة. وفي الشارع الرئيسي للبلدة، تنتظمُ محلات بيع عصير الرمان ومُختلف مشتقاته من مُربى ومثلجات وغيره. وتطبع فاكهة الرمان، روح البلدة، خصوصا وأنها تحتضن مهرجانا له خلال أواخر شهر أكتوبر وأوائل شهر نوفمبر من كل سنة. وبناء على رمزية هذا المنتوج، تم الشروع في تنظيم برنامج “رمانة تور” بداية من سنة 2024 لتيسير التعريف بمختلف المحلات والاستراحات السياحية والثقافية في المدينة، بتمويل سويسري وتنفيذ منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية.
قد تُفيد مثل هذه المبادرات في التعريف بجُزء مما تكتنزهُ هذه المدينة من تُراث للزائر المحلي أو السائح، غير أن هذا لا ينفي ضرورة إيجاد برنامج متكامل يستوعب كافة الموروث الحضاري للمدينة، بداية من المنازل الأندلسية، إلى أهم المعالم العُمرانية من المساجد والزوايا وغيرها. فالمنزلُ التقليدي في تستور لوحده يُعبر عن روح هذه الثقافة ومزيج الريف والمدينة ضمن المجال الجغرافي. حيث يتحلى المنزل بأقواس ذات شكل أندلسي ويتوسطه في العادة شجرة ليمون أو أرنج أو برتقال، كما يضم أقساما لخزن المنتجات الفلاحية كالدقيق والجبن والخضروات المصبرة، إضافة إلى أنواع المياه المُقطرة من النباتات العطرية مثل مياه الورد والعطرشاء والعنبر. كما ظلت المدينة تعتمد إلى زمن قريب على الطرق الأندلسية القديمة في الري عبر النواعير الخشبية التي ترفع الماء من الآبار، قبل أن يتم اعتماد الضخ الآلي من مياه نهر مجردة ومن سد سيدي سالم الذي يبعد عن المدينة ما يُقارب اثنتي عشر كيلومترا. غير أن سنوات الجفاف التي أثرت على وتيرة مياه السد وكذلك تضاؤل إمدادات وادي مجردة قد عقدت أكثر من الوضع المائي في المنطقة عموما، رغم خصوبة أراضيها ومردوديتها الإنتاجية العالية في سنوات الوفرة.
ما يُلفت الانتباه عند التجوال داخل أنهج المدينة العتيقة عدم وجود مسالك توضيحية بمواقع أهم المعالم التراثية، ناهيك عن التعريف بأبرز المآثر بها، كما يُهدد نقص التعهد والصيانة عددا من أهم المنازل التقليدية بالمدينة. وتُشير الأستاذة الجامعية في القانون ورئيسة جمعية الزهراء للثقافة الأندلسية، وفاء زعفران الأندلسي، إلى ضرورة تطوير نموذج عمراني يُحافظ على روح المدينة العتيقة وواجهاتها العُمرانية، ونقل أسلوب المعمار الأندلسي الخاص إلى البنايات الجديدة وحتى بعض المقرات الحكومية في المدينة، مع ضرورة ترميم المعالم الموجودة.
ومن بين أهم معالم مدينة تستور، الحي الأندلسي المعروف برحيبة الأندلس، ويضم المسجد الجامع الأول، الذي بناه المورسكيون الأوائل الذين أنشؤوا البلدة في أوائل القرن السابع عشر والمعروف بجامع الأندلس، وقد قصف جزؤه العلوي من قبل الطيران الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية ولم يتبقّ منه سوى قاعدته السفلية. ويضم الحي كذلك المسجد الجامع الكبير الحالي، الذي بنته الجالية الموريسكية الثانية التي قدمت إلى المكان. ويعود إنشاء هذا المسجد إلى سنة 1630 عن طريق المعماري الأندلسي محمد تغارينو أو الثغري، ويضم ساعته الشهيرة التي تدور باتجاه عكسي، وقد عادت إلى الدوران منذ سنة 2014 بعد ثلاثة قرون من التوقف بمُبادرة من المجتمع المدني المحلي في المدينة. ويضم المسجد عناصر يهودية كالنجمة السداسية، ومسيحية كالكرات الثلاث التي ترمز إلى الأقانيم المسيحية الثلاث للآب والإبن والروح القدس، وشكل الصومعة الشبيه بشكل كبير بأبراج الكنائس المسيحية. كما حرصت عمارة المسجد على تمثيل المذهبين الرئيسيين في تونس ، المالكي في القسم السفلي المربع، والحنفي في القسم الأعلى المثمن، الذي تزينه بعض الزخارف من الزليج. وقد دخلت بعض المكونات المعتادة في الأبنية الإسبانية ضمن بناء الجامع كالقرمود والرخام الإسباني والخزف. وداخل أحد الأنهج الجانبية لتستور، يقع المنزل المعروف بمنزل “حبيبة مسيكة”، الذي بناه عشيق القنانة المعروفة، الثري اليهودي “إلياهو ميموني” في العشرينات من القرن الماضي، قبل أن يحترقا معا في شقة داخل تونس العاصمة. هذا البناء الفريد الذي أضحى دارا للثقافة، لا زال يُعاني الكثير من الإهمال. فلا توجد إشارات تُرشد إلى مكانه لغير ساكني المدينة، حيث يقع المنزل في أحد الأنهج الجانبية. كما أن عددا من قطع الجليز داخله قد بدأت في فقدان لونها وأضحى الكثير منها باهتا، مما يستدعي التعجيل في إعادة تهيئته وترميمه. وتقترح بعض الجمعيات إنشاء متحف يستوعب مجمل التراث الموجود في المدينة ويُعرف به، حيث تُشير السيدة وفاء الأندلسي إلى ذلك بالقول: “إن طريقة عرض التراث الموريسكي تحتاج إلى أطر واضحة، غير أن الفكرة لم تجد طريقها بعدُ إلى التنفيذ، كما أن تراث المدينة من مخطوطات ووثائق مكتوبة يُعاني من التفرق وعدم جمعه في مكان واحد، خصوصا وأن بعض العائلات قد لا تقبل التنازل عن موروثها منه”. و قد يُمكّن هذا المشروع إن وجد أصحاب الفكرة طريقا لتحقيقه، من التعريف بموروث المدينة في الحرف (صناعة الشاشية، مواد البناء التقليدية كالقرميد والجليز) وتراث الري في المدينة، وهو ما سيُساعد على تقديم المدينة كمثال نموذجي للمدينة الأندلسية خارج حدود إسبانيا، وبالأخص تواصل التراث الموريسكي بعد عمليات الطرد في أرض الشتات، ما يُمكن أن يروج للمدينة بشكل أوسع لدى الأوساط الأكاديمية ولدى المهتمين بالتاريخ الأندلسي الذين يشهد عددهم تزايدا مستمرا في السنوات الأخيرة. وتُشير وفاء الأندلسي كذلك إلى تنوّع النسيج الجمعياتي في المدينة واهتماماته، داعية إلى مزيد من التنسيق المشترك بين مكوّناته قصد تحقيق الهدف المشترك المتمثل في حماية موروث المدينة وتثمينه.
وما سبقت ملاحظته من علامات الإهمال في دار حبيبة مسيكة، يظهر مثيله في عديد المعالم الهامة الأخرى للمدينة، كزاوية الولي سيدي نصر القرواشي ذات القبة الخضراء المستوحاة من قباب الأندلس والقرميد المحلي، حيث تُعاني الزاوية وجدرانها من عدم العناية والتهيئة، في حين أنها من أهم معالم المدينة. وكذلك الحارة اليهودية التي آوت سابقا بعض اليهود السفارديم، تبدو بعض مبانيها هي الأخرى آيلة للسقوط، مما يتطلب التدخل المعماري المُباشر لترميم عدد من معالمها. وتُشير وفاء الأندلسي إلى الخطر الذي يتهدد التراث الأندلسي في المنازل خاصّة بسبب الإهمال وغياب الوعي لدى الكثير من السكان حول أهمية هذا التراث، خاصة منذ بداية الألفينات. كما تقترح كذلك التعريف المستمرّ بالفنون والحرف المميزة للمدينة، مثل النسيج وصناعة القرمود التي تُعاني من الاندثار.
وعلى العموم، هناك مساع حثيثة على مستوى المجتمع المدني في مدينة تستور، للحفاظ على تراث المدينة المادي والتعريف بأهم المعالم بها ، أو لإحيائها عبر تنظيم نشاطات ذات علاقة بالثقافة والفن الأندلسي، مثل مهرجان المالوف الدولي والملتقيات حول التراث الأندلسي وعرض أفلام باللغة الإسبانية وتنظيم نقاشات حولها، أو المُساهمة في تواصل التراث الموريسكي وعاداته.
عين تونقة: أكبر من مجرد محطة عابرة
على بعد 12 كيلومترا من مدينة تستور في اتجاه مدينة تبرسق، ومباشرة بعد لافتة تحمل اسم “عين تونقة” تظهر للمار إلى طريق الكاف مجموعة من المباني الأثرية إلى جانب الطريق، دون حدود أو علامات توضيحية لهوية المكان. كما لا توجد لافتة تعريفية بالموقع الذي تتخلله مجموعة من أشجار الزياتين، في حين تتعالى بعض أصوات الحيوانات قرب المنازل المُتاخمة للآثار بشكل مباشر. ويُشكل هذا الموقع بقايا مدينة “تيقنيكا” القديمة ذات الأصول النوميدية، حيث يُخمن بعض المؤرخين معنى الإسم بالصفاء والطهارة. وعُدّت المدينة قديما نقطة ربط هامة على الطريق الرومانية القديمة باتجاه تبسة، حيث تربض تحت تلة جبلية تٌعرف بجبل بوصالح وعلى تخوم عدد من السهول الخصبة المجاورة.
كان الموقع ذو الجذور النوميدية متأثرا في جانب كبير بالثقافة القرطاجية البونية، وتحتل آثاره ما يُقارب 300 هكتارا. وفي جنوب الموقع بأقل من كيلومتر واحد تتواجد مئات من الأنصاب الأثرية المُهداة للإله “ساتورن” وهو الرديف الروماني للإله البوني القديم “بعل حمون”. وتُعد القلعة البيزنطية الكبيرة أهم الآثار الموجودة في الموقع وهي ذات خمسة أبراج، فضلا عن الحمامات والجدار الخارجي الدائري لمسرح المدينة، وبقايا منزل روماني فاخر وبقايا صغيرة لقوس نصر وكذلك بقايا للخزانات والكنيسة. وقد بدأت الحفريات الأثرية في المدينة منذ عهد الاستعمار الفرنسي في أواخر القرن التاسع عشر بشكل أكثر تنظيما. ومنحت بعض الآثار التي تم اكتشافها عددا من المعلومات حول تاريخ المدينة ونفوذها في المنطقة، ومن بينها معبد الإله “ديس باتر”. كما ترقت المدينة من رتبة “مُستعمرة” في زمن يوليوس قيصر إلى رتبة “بلدية” زمن الإمبراطوري الروماني “سبتيموس سيفيروس” المولود في شمال إفريقيا. وقد شارك اثنين من قساوسة المدينة، أحدهما من المذهب الملكاني والآخر من المذهب الدوناتي في مؤتمر قرطاج الكنسي سنة 411 ميلادي، وهو ما يُعد دليلا على ازدهار المدينة ونموها حينذاك.
لا يزال موقع عين تونقة، على ثراء إمكانياته الأثرية يُعاني من إهمال عدد من مكوّناته، وعدم استغلاله بشكل مُثمر في المسالك السياحية، بالرغم من محاذاته المباشرة للطريق الوطنية بين تستور وتبرسق. فالمشاكل العقارية وإمكانية وجود بعض اللقى الأثرية داخل الأراضي الخاصة التي يقع ضمنها الموقع الأثري من العوامل المعرقلة لعمليات البحث والتنقيب، ولحماية الموقع الأثري نفسه الذي تعاني عدد من آثاره من العوامل المُناخية، ومن التدخل السكاني وعمليات الرعي داخل الموقع. ومع ذلك عادت بعض عمليات التنقيب خلال السنوات الأخيرة بالتعاون مع بعض الأوساط البحثية العالمية. ومن بين هذه العمليات مهمة “Thignica” في سنة 2012، التي تم الاستعاضة عن عدد من بحوثها الميدانية بمحاولة الاشتغال بشكل رقمي على بعض الآثار المكتشفة سابقا لإعادة تخيّل الهندسة الكاملة للحصن البيزنطي بتونقة وتقديم دراسة كاملة حول القوس الصغير الذي شكل مدخل الحي السكني في المدينة القديمة. كما شملت عين تونقة عملية تنقيب أخرى أشرف عليها سمير عون الله وباولا روجيري بداية من أكتوبر 2022 كجزء من أنشطة البعثة الأثرية التونسية-الإيطالية. وشمل التنقيب جزءا مستطيلا مساحته حوالي 50 مترا مربعا من داخل القلعة البيزنطية، وتحليل جزء من اللقى الأثرية من العصور القديمة والعصر البيزنطي والعصر الإسلامي. وقد تمكّنت هذه المهمة من جمع بيانات جديدة عن مرحلة أواخر العصور القديمة وما بعدها في عين تونقة وفقا لنموذج قلعة “أوتشي مايوس” البيزنطية. ومع ذلك، تبقى عديد المناطق في الموقع الأثري في حاجة إلى المزيد من التنقيب وخصوصا المعابد والحمامات، وكذلك المسرح الروماني الذي يظلّ جزء كبير منه غير مُكتشف إلى حد الأن. وهو ما يحول دون الإستفادة التامة من الموقع لإدماجه ضمن مسلك دقة-تستور. كما وجب التوصل إلى حل مع سكان القرية لضمان تواصل عمليات الترميم وحماية الآثار المتناثرة الموجودة، من خلال إقرار تعويض الأراضي الخاصة التي تحتوي على آثار كي تُنظم عمليات التنقيب داخله بشكل جدي ويتم استغلال الموقع سياحيا بشكل مُنظم. ويُمكن الإستفادة هنا من تجربة موقع دقة المجاور، والذي تم إنهاء كافة مشاكله العقارية قبل بضعة سنوات.
دقة: موقع للتراث العالمي في حاجة إلى مزيد من الترويج
على بعد سبعة كيلومترات من مدينة تبرسق، تُشرف مدينة دقة القديمة، أو دقة آثار كما كُتب على لافتة طريقها، على مجموعة من التلال والهضاب الممتدة. وقد نشأت المدينة في العصر القرطاجي، ولكن كان سكانها أساسا من اللوبيين، حيث يعني اسمها القديم، المكان الحصين أو المحمي. ولا يخطئ الزائر ملاحظة ذلك، فموقع المدينة الاستراتيجي الحصين يُيسّر عمليات المراقبة العسكرية لكامل المجال الجغرافي المجاور. وقد ساهم تصنيف المدينة ضمن التراث العالمي لليونسكو سنة 1997 في تعزيز مكانة المنطقة الأثرية وتنظيم عملية التنقيب في آثارها، حيث تم تصنيفها كأهم مدينة رومانية محفوظة في كافة منطقة شمال أفريقيا. وتحتضن المدينة جملة من الآثار الهامة، وعلى رأسها الكابيتول الروماني الذي يضمّ معبدا لآلهة البانتيون الروماني الثلاثة جوبيتر و مينيرفا ويونون، والمسرح نصف الدائري الذي أُنشئ بين سنتي 166 و 169 ميلادي، وهو يتسع لما يقارب 3500 شخص، حيث كانت تقام المسرحيات الغنائية في العصر الروماني وأين يتم الآن إحياء عدد من الحفلات ضمن فعاليات مهرجان دقة الدولي. ويضم الموقع الأثري كذلك ساحة الفوروم، التي كان يتم التداول فيها في شؤون المدينة التي عرفت تطورا في مكانتها خلال العصر القديم، من مرتبة البلدية الرومانية إلى رتبة المستوطنة سنة 262 ميلادي. وتضم المدينة عددا هاما من المعابد بخلاف الكابيتول الرئيسي الكبير، ومنها معبد الإله ساتورن، وريث الإله بعل حمون المعبود في الفترتين النوميدية والقرطاجية، ومعبد إله التجارة مركور، الذي يقع قبالة ساحة الفوروم وكذلك معبد الإلهة سايلستيس. كما تحتوي آثار المدينة على مجموعة من الحمامات التي كانت تضم قاعات مختلفة، كقاعات المطالعة، مما يدل على ثراء سكان المدينة قديما، وبعض الفيلات الرومانية لأثرياء المنطقة بحدائقها البيضاوية والتي لازالت تحتفظ بأشكالها. وأسفل المدينة، يطل ضريح نوميدي قديم لأحد حكام المنطقة سابقا، بطول 23 مترا، ويحتوي نقوشا باللغتين اللوبية القديمة والقرطاجية، تعرف بصاحب القبر وبمهندس هذا المعلم المدعو “أتبان”، الذي يعد من أوائل المهندسين المعروفين من خلال أسمائهم المدونة في المنطقة المغاربية.
وتبلغ مساحة الموقع الأثري المحمي الآن قرابة 70 هكتارا، وهي المساحة التي شملتها عمليات البحث. ويبقى جزء كبير من المدينة الأثرية وكنوزها مختفيا تحت الأرض ويحتاج إلى المزيد من عمليات الحفر والتنقيب، يبلغ حسب الناشط في المجتمع المدني في مدينة تبرسق، لطفي المدوري، ما يُقارب ال70 بالمائة. ويبين المدوري كذلك أن الجزء الأكبر من الموقع تحت الأرض موجود في مناطق صخريّة، مما قد لا يُسبب مشاكل في الحفر الأثري. وقد عانت نشاط عمليات التنقيب حسب المدوري، من عديد المشاكل العقارية سابقا نظرا لتملّك عدد من السكان هناك لبعض الأراضي التي تقع عليها الآثار، إلا أن هذه المشاكل قد تمّ حلها قبل حوالي خمسة سنوات من الآن، مما قد يُيسّر عمليات التنقيب. وبالقرب من دقة كذلك، تقع مجموعة من المعالم الأثرية بمدينة تبرسق، أهمها بقايا الحصن البيزنطي. كما يعود تاريخ المدينة إلى العصر القرطاجي، حيث كانت تُسمى THUBURSICUM Burré أي سوق الجلود، وتحتوي هي الأخرى على مجموعة من المعالم التي يعود بعضها للعصور الإسلامية. وقد نشط المجتمع المدني في المدينة في تقديم مُبادرة تسعى لضم مدينة تبرسق كموقع للتراث العالمي، ويمكن لهذه المبادرة أن تضم كلا من موقعي عين تونقة وعين جمالة إلى هذا الملف كما تسعى لرصد كافة التراث الأثري في المدينة ضمن مشروع المواقع الأثرية بتبرسق.
في المجمل، يحتاج الموقع الأثري بدقة إلى شبكة كاملة من المرافق التي يُمكن لها أن تروج له. وقد تم اقتراح عدد من الأفكار من قبل المجتمع المحليّ، ومن بينها إعادة إحياء مشروع المتحف في المنطقة، على غرار بعض المواقع الأثرية الأخرى التي تتواجد متاحف قربها مثل متحف الجم، حيث أن جزءا هاما من آثار دقة الفسيفسائية موجودة في متحف قرطاج، كما يُمكن لهذا المتحف أن يضم بعضا من الآثار الأخرى الموجودة في ولاية باجة، مثل تيبار وعين تونقة وعين جمالة، أو في المناطق المجاورة من ولاية سليانة والمرتبطة بمدينة دقة قديما، مثل منطقة الكريب. يُشار إلى أن أحد أهم النقوش الموجودة في دقة وهو النقش المنحوت باللغتين البونية واللوبية القديمة موجود الآن في المتحف البريطاني على إثر تخريب القنصل البريطاني “توماس ريد” للضريح النوميدي القديم بغرض البحث عن أحد الكنوز في أواسط القرن التاسع عشر، مما سبب ضررا في الضريح، الذي أُعيد ترميه سنة 1910 في زمن الاحتلال الفرنسي. ويوجد النقش الآن في مخازن المتحف البريطاني ضمن الآثار غير المعروضة، لذا يُمكن العمل على استعادته. وقد كانت فكرة متحف دقة موجودة منذ سنة 2009 كما يُشير إلى ذلك الناشط لطفي المدوري، وقد أضاف بأن هنالك برنامجا لتعبيد طريق سياحية جديدة عوض الطريق الحالية المارّة وسط أزقة تبرسق الضيقة والتي تحمل التواءات داخل المناطق المرتفعة، حيث تم اقتراح طريق جديدة أكثر اتساعا وتحتوي جوانبها على محلات صغيرة للمنتجات الحرفية، غير أن المشروع لم ير النور إلى الآن. وينشط المجتمع المدني في دقة كذلك من خلال مهرجان دقة الأثري الذي ينتظم على مدى يومين خلال شهر أفريل، حيث يحتضن مُحاضرات هامة لعدد من المتخصصين حول مدينة دقة. كما اقترح المجتمع المدني التفكير في معارض دائمة قرب الموقع للمنتوجات التقليدية في مدينة تبرسق وربط المدينة أكثر بها، هذا عدا عن إمكانية ربط المدينة بالمواقع الأثرية الموجودة في ولاية جندوبة، مثل مدينة بولاريجيا وشمتو. وقد سبق للمجتمع المدني حسب لطفي المدوري إمكانية ربط الموقع ببعض المواقع الأثرية في ولاية الكاف المجاورة، لعميق ترابطها مع موقع دقة.
في المحصلة، تظهر جملة من المشاريع التي يقترحها المجتمع المدني كنماذج لسياسات ثقافية وتنموية جديدة، مع إمكانية ضغط النسيج الجمعياتي في المنطقة نحو إعادة بعض المشاريع القديمة إلى دائرة الضوء، وهي التي بقيت حبيسة التصورات والأفكار أو لعدم توفر الإرادة السياسية لتنفيذها. كما يُشدد عدد من الناشطين حول الإحجام عن تقديم بعض الأفكار والمشاريع بسبب توقعهم مُسبقا بعدم إمكانية توفر مصادر لتمويلها. وهذا الإشكال يدفع نحو نقاش مدى نجاعة السياسات العمومية في حفظ الذاكرة وتثمين الموروث الثقافي وعن التأثير السلبي والفادح لسياسة التقشف الاقتصادي على التراث والاعتناء به عموما. فموقع دقة المحظوظ نسبيا بتصنيفه ضمن التراث العالمي لليونسكو، قد مكّنه من الاستفادة من عدد من مشاريع الصيانة والترميم ضمن البرامج الدولية، ومع ذلك يظل الموقع في حاجة إلى ارتباط أوسع بالتراث الأثري في مدينة تبرسق وبشبكة التنمية هناك، من خلال دعم المشاريع الصغيرة في المدينة بهدف خلق ارتباط دائم للتنمية لا يقتصرُ على فعاليات الجانب الموسمي مثل المهرجانات. ومن الممكن هنا العمل على رقمنة التراث الأثري في المنطقة، وإحداث تطبيقة تُساعد السائح في مدينة دقة على التنقل بين أجزاء الموقع وأخذ لمحة تعريفية عن كل مكوّن ضمنه، كما هو معمول به في معظم المواقع الأثرية والمتاحف العالمية. كما يجدرُ اتخاذ سياسات عمومية مُساندة لمبادرات المجتمع المدني، مثل مُبادرة ضم مدينة تبرسق في التراث العالمي لليونسكو، عبر الترويج للموقع دوليا وتهيئة آثار المدينة وحمايتها من التهديدات العمرانية.
كما يُمكن أن يتم تسويق تستور كعاصمة للتراث الأندلسي في تونس بالاشتراك مع عديد القرى والمدن الأندلسية الموجودة في تونس، مثل مدينة سليمان وبلدات الشمال الشرقي لولاية بنزرت والمنطقة الوسطى من الوطن القبلي، ولم لا إحداث برامج شراكة مع عدد من المدن الواقعة في إقليم الأندلس أو المدن المغاربية ذات التراث الأندلسي في الجزائر والمغرب، مثل مدن تلمسان وتطوان وشفشاون، كما يطمح إلى ذلك عدد من مكونات المجتمع المدني في تستور. وانطلاقا من تستور يُمكن التفكير في تهيئة منطقة عين تونقة لقربها من المدينة ولتكاملها مع التراث الموجود بها، وربط كافة هذا المجال بتراب مدينة تبرسق والموقع الأثري بدقة على وجه الخصوص. ومن المقرر أن تُصبح بلدية تبرسق إضافة إلى بلدية نفزة من ضمن البلديات السياحية في مدينة باجة. غير أن هذا القرار لا معنى له إذا لم تتوفر الإمكانيات المادية الكافية لتطوير البنية التحتية وبناء عدد من الإقامات الفندقية التي تُمكن من التجول أكثر في المنطقة دون اتخاذها كمحطة عابرة فقط. ويُمكن أن تتطور دقة كذلك إلى نموذج لحديقة أثرية متكاملة تشمل مسالك ترفيهية وعلمية للأطفال والناشئين، أو إحداث مسلك لمحبي المغامرات والطبيعة عبر ربطها بالغابات المحيطة.