مع أنّ سنوات الستينيات وبداية السبعينيات كانت الممهدة عملياً للحرب في لبنان، إلّا أنّ تلك الفترة يتذكّرها اللبنانيون اليوم بصفتها الحقبة الذهبية من تاريخهم الحديث، وينظر إليها بطريقة نوستالجية، لا تنفصل عن صورة بيروت النمطية المستوحاة من الإعلانات السياحية والأفلام السينمائية االتي كانت تنتج في تلك الفترة (تظهر فيها كمدينة للسهر والإستجمام).
لكن ما لا تظهره تلك الصورة، هو الجانب المتعلق بالفئات الشعبية والتغيّرات التي كان يشهدها "عمق المجتمع اللبناني" بسبب السياسات الإقتصادية التي اتبعتها الدولة. شهدت بيروت خلال الخمسينيات والستينيات نزوحاً هائلاً من الريف، بعد ضرب القطاع الزراعي الذي أجبر الفلاحين على ترك أراضيهم والبحث عن فرص عمل جديدة. لم يكن الوضع أفضل بكثير في بيروت بسبب الغلاء وتراجع القطاعات الإنتاجية وعدم قدرة القطاع الصناعي على استيعاب أكثر من جزء صغير من العاطلين عن العمل، ما عرّض القادمين الجدد لشتى أنواع الإستغلال.
كانعكاس لهذه الأزمات، حصلت موجات من الإضرابات والإعتصامات الجماهيرية في العاصمة ومناطق لبنانية أخرى شاركت فيها النقابات والروابط الطلابية والأحزاب المنضوية تحت خانة اليسار. يبدو اليوم من الضروري تقديم قراءة نقدية لما حصل يومها، أو أقلّه إعادة استذكار تلك الحركات لتجنّب الوقوع في أخطائها. يمكن اللجوء لفيلم المخرجة اللبنانية، ماري جرمانوس سابا "شعور أكبر من الحب" الذي يوثّق أجواء تلك الفترة ويعتبر العمل البصري الوحيد الذي يقدم نقداً ذاتياً لاحتجاجات مزراعي التبغ وعمال غندور خلال الستينيات وبداية السبعينيات (عرض منذ أيام في مركز "برزخ" في الحمرا بالتعاون مع "قطاع الشباب في الحزب الشيوعي اللبناني").
يضم الفيلم مقابلات مع أشخاص شاركوا في تلك الإضرابات التي امتلكت فرص ثورية حقيقية، من عمال، ومزارعين، وحزبيين، بالإضافة إلى مشاهد من أفلام نضالية صوّرت في الفترة نفسها لمخرجين مثل مارون بغدادي، وبرهان علوية، وكريستيان غازي، وجوسيلين صعب. ينقل الفيلم الأجواء التي كان يعيش ضمنها العمال والمزارعون، والتحدّيات التي كانوا يواجهونها للإستمرار في العمل. كما يخبرنا بعض تفاصيل العلاقة بين الحزبيين (بشكل خاص المنضوين ضمن "منظمة العمل الشيوعي") والعمال والمزارعين، وكيفية حصول التحريض على الإضراب، والمفاوضات مع أصحاب المعامل.
تناقضات الماضي والحاضر
تعاملت تلك التحركات مع تناقضات كثيرة – لا تقلّ حدة عن التي تواجهها إنتفاضة 17 تشرين اليوم – جزء من تلك التناقضات يتعلق بالطبيعة الطائفية للمجتمع اللبناني يومها التي استغلّها النظام لتحويل أي صراع مطلبي أو طبقي إلى صراع طائفي وسياسي. جزء آخر يتعلق بالصبغة القومية العربية لليسار اللبناني الذي كان يقود التظاهرات يومها، ما زاد الحساسيّات مع الفئات الشعبية والعمالية التي تمتلك خلفية قومية لبنانية (بدون أن ننسى التناقضات ضمن الحركات اليسارية نفسها وتبنّي بعضها أساليب تفاوض وضغط بالغة الراديكالية أدّت أحياناً إلى فشل التحركات بالكامل).
بدون شك، تختلف تلك الاحتجاجات كليّاً عن التي تجري اليوم. كان الإعتماد أساسياً يومها على النقابات العمالية والفلاحية التي تحوي فئات شعبية بالدرجة الأولى، مع حضور للإتحاد العمالي العام والأحزاب اليسارية التي تمتلك قدرة على التجييش الجماهيري. اليوم النقابات منعدمة التأثير، بسبب سياسات الدولة التي ساهمت في تدميرها وتحويل ولاءاتها نحو السلطة، وإن وجد حضور للإنتفاضة فيها، فهو عند النقابات الأقرب للطبقات الوسطى، أي نقابات المهندسين والمحامين والأطباء وغيرها (وليس النقابات التي تضم فئات شعبية). تحاول الإنتفاضة اليوم استرداد النقابات او خلق نقابات بديلة، لكن هذا يحصل أولاً ضمن فئات مهنية "نخبوية" مثل الصحافيين والفنانين والسينمائيين والعاملين في مؤسسات المجتمع المدني (بالإضافة طبعاً إلى المهندسين والمحامين والأطباء…) كأن الإنتفاضة تنتقل من أعلى إلى أسفل وليس من أسفل إلى أعلى كما كان الحال في السابق.
كان لليسار في احتجاجات غندور والريجي الحضور الغالب، ما ينطبق على حركات عمالية ونقابية اخرى حصلت خلال الستينيات والخمسينيات وحاول اليسار تثويرها والدفع بها لتبنّي برامج تغيير سياسي (استطاعت الضغط لإقرار قانون الضمان الإجتماعي عام 1963 وإعادة الإعتبار للإتحاد العمالي العام في بداية السبعينيات). أما اليوم فحضور اليسار أصبح متواضعاً بشكل عام، لكن هذا لا يمنع أن فئاته هي الأكثر نشاطاً في الإنتفاضة، خاصة بوجه سلطة المصارف، ولا تزال تمتلك برامج إقتصادية تنادي بالمساواة وبحقوق الفئات الشعبية، ولو أنها فقدت اتصالها الشعبي بسبب زوال سيطرتها على النقابات.
السياسة ومواجهة رأس المال
إحدى الفوارق الأساسية بين تلك الإحتججات والإنتفاضة الحالية أنّ الأخيرة تمتلك نظرة سلبية إلى السياسة بخاصة بالنسبة للأجيال الجديدة التي ترى هذا العالم ملوثاً وسلبياً، ما يقف حجر عثرة أمام تأسيس أحزاب جديدة. من أسباب ذلك، هيمنة أيديولوجيا الخبراء والإختصاصيين التي يتبنّاها بعض العاملين في المجتمع المدني، ومن تجلّياتها المطالبات بحكومة تكنوقراط. لم يكن المجتمع المدني حاضراً بالزخم نفسه قبل الحرب، ويبدو أنه حلّ جزئياً مكان اليسار المتراجع. ينظر الأخير بطريقة سلبية إلى هذا المجال بسبب طبيعة بعض مؤسساته النيوليبرالية والعلاقات التي تربطها بالمصارف والشبكات التمويلية الغربية.
وكما يواجه اليسار اليوم سلطة رأس المال المتمثلة بالمصارف، واجه في السابق سلطة أصحاب المعامل والمصانع، مثل الريجي الذي كان يشتري محاصيل المزارعين بأسعار منخفضة ويمنع زيادة الأراضي المزروعة بسبب الضغط الذي كان يشكله مستوردو الدخان على الدولة لمنع وجود صناعات منافسة. حصلت تظاهرات عمالية حاشدة أمام معمل غندور أيضاً، قتل عمال خلالها وامتدت إلى مناطق أخرى من لبنان. نادت هذه التظاهرات بمجموعة مطالب، منها حصول العمال على تأمين صحي ومنع الطرد التعسفي وتحسين ظروف العمل (درجت المعامل على توظيف عمال ينتمون إلى فئات عمرية صغيرة جداً) وهي المطالب نفسها التي نادى بها العمال في مصانع لبنانية أخرى.
أحد الفوارق المهمة بين الماضي والحاضر، أنّ التظاهرات اليوم غير مركزية، ولا ترتبط بفئات مهنية محددة ولو أنه يوجد صبغة طبقية على تظاهرات بيروت ( تبدو أقرب إلى الطبقات الوسطى) وطرابلس (يغلب عليها حضور الفئات الشعبية). أما بما يخص الوضع الطائفي، يمكننا القول إن احتجاجات اليوم جامعة بشكل أكبر من السابق رغم أنّ تدنّي الفئات الشيعية بالمقارنة مع الحضور السنّي والمسيحي يشكل مشكلة ستتفاقم لا بد في المستقبل، ما يشبه إلى حد ما المشكلة مع الطائفة المسيحية التي لم تكن حاضرة كما يجب في الإحتجاجات العمالية والنقابية قبل الحرب.
بكل الأحوال، وصلت الحركات الإحتجاجية التي حصلت في تلك الفترة إلى احتمالات ثورية حقيقية، واستطاعت في بعض المراحل خلق تآزر شعبي واسع معها وصل حد الإضراب العام. إحدى النقاط المتشابهة بين الماضي والحاضر، هو تساؤل المحتجين حول طبيعة ما يقومون به، إن كان إنتفاضة أو ثورة، وقد بالغ اليسار تحديداً في تقييم تلك الإحتجاجات حيث نظر إليها كفرصة لتغيير أكبر، ما ينطبق على مرحلة ما بعد العام 1975 حيث بقي ينظر إلى النزاع المسلح بصفته ثورة حقيقية وليس حرباً أهلية.
سلوكيات اليسار وحضور المرأة
يظهر فيلم سابا أيضاً كمّ التشابه بين سلوكيات الأجيال المختلفة من اليساريين عبر المقارنة بين الهتافات والأغاني التي تظهر في مشاهد الأفلام النضالية قبل الحرب وتلك التي يؤديها المحتجون خلال تظاهرات إسقاط النظام الطائفي عامي 2010 و2011. يمكن إجراء المقارنة نفسها مع الإنتفاضة الحالية، فعند التجوّل اليوم في التظاهرات التي تضم مجموعات يسارية شبابية، يمكننا سماع الهتافات نفسها التي كانت تتداول سابقاً، مثلاً "رصّوا الصفوص، مع اليسار ضدّ اليمين، مع العمال والفلاحين"، مع أن هذه الهتافات لم تعد قادرة على الإحاطة بالواقع كما أنّ فئات العمال والفلاحين حلّت مكانها فئات جديدة من الموظفين الذين يزاولون عملاً غير يدوي مثل أساتذة المدارس وموظفي المصارف والشركات، بالإضافة إلى الأعداد الضخمة من الـfreelancers الذين يتعرضون لاستغلال نفسي وفكري بدون إعطائهم تأمينات صحية وتعويضات.
أما بما يخص حضور المرأة، يظهر في فيلم ماري جرمانوس سابا أن تظاهرات مزارعي التبغ وعمال معمل غندور ضمت عدداً ضخماً من النساء، يفوق أحياناً عدد الرجال. المرأة يومها شاركت في جميع مراحل النضال، من العمل الحزبي إلى التنسيق النقابي والعمالي، كما كانت حاضرة في الإضرابات، التظاهرات، والحركات الطلابية. كان يفترض أن يتطور هذا الحضور مع الوقت ليترجم في القيادة التي لم تضم نساء كما يجب، لكن هذا لم يحصل بسبب اندلاع الحرب التي ستهمش المرأة بشكل كلي، وتجعلها مجرد تابع للرجل – المقاتل الذي يهيمن على المجال العام. اليوم الوضع أفضل بدون شك، حيث أعداد النساء تفوق الرجال في الشارع في أحيان كثيرة، ما ينطبق أيضاً على المواقع القيادية، وبخاصة في المجموعات المرتبطة بالمجتمع المدني.