لم تُحدث حرب الإبادة الإسرائيليّة على غزّة أيّ انفراج في الوضع الحقوقيّ في شمال أفريقيا. بل على العكس، استغلّت أنظمة المنطقة عمليّة “طوفان الأقصى” لمزيد التّنكيل بخصومها، بما في ذلك أولئك الّذين انتظموا بطريقة أو بأخرى للتّعبيرعن دعمهم الحقّ الفلسطينيّ.
بعد أقلّ من أسبوع من إطلاق حركة حماس عمليّة “طوفان الأقصى”، صُدم المدافعون عن الحّرّيّات في الجزائر برفض المحكمة العليا الطّعن بالنّقض الّذي تقدّمت به هيئة الدّفاع عن الصّحافيّ، إحسان القاضي. واعتقلت السّلطات الجزائريّة القاضي، في ديسمبر 2022، على خلفيّة اتّهامه بـ”تلقّي تمويلات أجنبيّة”، قبل أن يُدان في مرحلة أولى بالسّجن 5 سنوات، منها 3 نافذة، ارتفعت، لاحقا، إلى 7 سنوات، من بينها 5 نافذة. ومنذ انطلاق القضيّة، عبّرت هيئات محلّية ودوليّة عن تضامنها مع الصّحافيّ الجزائريّ المخضرم. بيد أنّ الحرب الإسرائيليّة على غزّة أضعفت الموقف مع صدور الحكم النهائيّ في حقّه، بانشغال معظم الجماعات المناصرة لحقوق الإنسان يرصد انتهاكات دولة الاحتلال وتوثيقها. ولم تُقدّم المحكمة أيّ دليل يدين القاضي، ما دفع بمنظّمة مراسلون بلا حدود إلى دعوة الرّئيس الجزائريّ، عبد المجيد تبّون، إلى تمكينه من إجراءات العفو الرّئاسيّ، كمخرج أخير ممكن للمظلمة الّتي يتعرّض إليها الصّحافيّ. لكنّ تلك الدّعوة لم تجد آذانا صاغية، مثل معظم الدّعوات الّتي تشهدها المنطقة لخفض منسوب الانتهاكات الحقوقيّة.
مأزق السّلطات التّونسيّة في قضيّة “التآمر”
ففي تونس، حيث دعم معارضون موقف الرّئيس، قيس سعيّد، من العدوان الإسرائيليّ على غزّة، تفاقمتْ الاعتداءات على حرّيّة التّعبير والتّنظّم، مع تعاظم المخاطر المحدقة باستقلاليّة القضاء. ورفضتْ السّلطات التّونسيّة الإفراج عن المعتقلين في قضيّة “التآمر على أمن الدّولة”، ومعظمهم من قادة الأحزاب السّياسيّة في البلاد. ونظّمت عائلاتهم، منتصف أكتوبر الماضي، اعتصاما في المقرّ التّاريخيّ للحزب الجمهوريّ، الحزب الدّيمقراطيّ التّقدّميّ سابقا، وسط العاصمة. ولم يتجاوب القضاء التّونسيّ مع مطالب العائلات، في الوقت الّذي واصل فيه سعيّد شنّ حملة تخوين بحقّ المعتقلين.
وغداة انقضاء المدّة القصوى للإيقاف التحفّظيّ، لم تفرجْ السّلطات التّونسيّة عن المعتقلين. وذكرت مجموعة من أساتذة القانون، استنادا إلى قرارات تعقيبيّة جزائيّة، أنّه “إذا انتهت المّدة القصوى وهي 14 شهرا والقضيّة لا تزال لدى السّيّد قاضي التّحقيق، فالمشرّع حتّم عليه الإفراج، وإذا كانت القضيّة عند انتهاء تلك المدّة عند دائرة الاتّهام، فإنّ المشرّع حتّم عليها كذلك الإفراج”. وشنّ ستّة معتقلين على ذمّة القضيّة إضرابا عن الطّعام، احتجاجا على ما يصفه محاموهم ب “احتجازهم القسريّ”. وامتدّت التّضييقات إلى المدافعين عن الحقّ الفلسطينيّ.
تجريم التعاطف مع فلسطين
بدورها، الدّائرة الجناحيّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس قضتْ بخطيّة ماليّة في حقّ الشّابّ، نسيم بن سلامة، على خلفيّة إعادة نشره رسما كاريكاتوريّا لأحد الملوك العرب على حسابه الشّخصيّ على موقع فيسبوك، بعد إيقافه عدّة أيّام على ذمّة التّحقيق.
وكان بن سلامة محظوظا، مقارنة بمواطنين آخرين في المغرب. في هذا المجال، يؤكد الحقوقيّ المغربيّ البارز، المعطي منجب، للمفكّرة القانونيّة أنّ 13 شخصا على الأقلّ لوحقوا على خلفيّة دعوتهم إلى مقاطعة البضائع الإسرائيليّة أو المنتجات الّتي لمصنّعيها علاقة بالكيان الصّهيونيّ. ويذكر منجب أنّ هناك استهدافا واضحا للحراك الداعم للحقّ الفلسطينيّ، خاصّة أنّه مثّل فرصة للتّقارب بين مختلف القوى السّياسيّة المعارضة في المملكة. يُذكر أنّ المغرب طبّع علاقاته الدّيبلوماسيّة مع إسرائيل، نهاية عام 2020، في اتّفاق رعتْه الولايات المتّحدة الّتي اعترفت بسيادة الرّباط على منطقة الصّحراء الغربيّة المتنازع عليها. والمُعطي منجب، الملاحق بدوره مع 6 نشطاء آخرين في قضيّة “المسّ بسلامة أمن الدّولة الدّاخليّ”، يتعرّض، منذ السّابع من أكتوبر الماضي، إلى حملة تشويه تقوم أساسا على اتّهامه بـ”التّواصل مع أحزاب سياسيّة إسرائيليّة”. وكانت المفكرة القانونية نشرت حكما صدر عن المحكمة الابتدائية بالمحمدية (ضواحي مدينة الدار البيضاء المغربية) في 9 أبريل 2024 بالسجن النافذ لمدة خمس سنوات وغرامة مالية قدرها 50 ألف درهم (تعادل 5 آلاف دولار)، في حق المدون عبد الرحمن زنكاض، على خلفية تدوينات نشرها على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ينتقد فيها استمرار تطبيع السلطات المغربية مع الكيان الصهيوني رغم الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزة.
وعلى عكس تونس والمغرب، لم تشهد الجزائر زخما شعبيّا في التّعبير عن التّضامن مع الشّعب الفلسطينيّ، وذلك بسبب القيود المفروضة على التّظاهر. ولم يسلم المتظاهرون المشاركون في المسيرات النّادرة التي شهدتها البلاد من الاعتقال.
مخاوف من مزيد انهيار الوضع الحقوقيّ
ومع دعم معظم الحكومات الغربيّة للكيان الصّهيونيّ في حرب الإبادة الّتي يشنّها على غزّة، تدهورتْ صورة المنظّمات الحقوقيّة المحليّة والدّوليّة في المنطقة، وسط حملات تشويه واسعة في وسائل الإعلام التّقليديّة وعلى شبكات التّواصل الاجتماعيّ.
وفي منتصف أكتوبر الماضي، تقّدم نوّاب بمشروع قانون لتنظيم عمل الجمعيّات، في تونس، بشكل يفرض قيودا صارمة بل ويسمح لسلطات البلاد بالتّدخّل في عملها. وذكرت منظّمة العفو الدّوليّة أنّ المشروع يمنح “السّلطات التّنفيذيّة سلطات واسعة وغير مقيّدة تتعارض تعارضا تامّا مع القانون الدّوليّ والمعايير الدّوليّة لحقوق الإنسان فيما يخصّ حرّيّة تكوين الجمعيّات أو الانضمام إليها”.
ويعتبر المعطي منجب أنّ الانتهاكات الحقوقيّة قد ازدادت فعلا في المنطقة، منذ بداية العدوان الإسرائيليّ على غزّة. لكنّه يؤكّد قِدَم هذا التّكتيك. فبينما تتّجه أنظار العالم إلى القطاع، توغل أنظمة المنطقة في مزيد التّنكيل بخصومها.
ويُخشى تعاظم الانتهاكات الحقوقيّة، في ظلّ حالة عدم اليقين الّتي تُخيّم على المنطقة، لا سيّما في تونس والجزائر، حيث بدأ الأفق الانتخابيّ يسيطر على النّقاش العامّ.