على وقع استمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين المحتلّة، يتوّجه اليوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نيويورك للمشاركة في اجتماع الجمعية العامّة للأمم المتحدة، فيما لا تزال الغرفة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية تلتزم الصمت حول إصدار أمر قبض بحقّه.
في تاريخ 20 أيّار 2024، طلب المدّعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية كريم خان من الغرفة التمهيديّة للمحكمة إصدار أوامر قبض في حقّ نتنياهو ووزير “الدفاع” الإسرائيلي يوآف غالانت، وثلاثة من قياديي حركة “حماس” (يحيى السنوار، محمد الضيف، وإسماعيل هنية علمًا أنّه تم إسقاط الطلب في حق هنية بعد اغتياله في آب 2024) لوجود شبهات جديّة بارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بعد 7 أكتوبر 2023. وبعد مضي أربعة أشهر على طلبه، لم تصدر الغرفة التمهيدية أيّ قرار في شأن أوامر القبض هذه، في ظلّ تصاعد التهديدات والضغوط لمنع قضاة المحكمة من إصدار أيّ إجراء لملاحقة القادة الإسرائيليين دوليًا.
سرعان ما هاجم مسؤولون إسرائيليون وأميركيون خطوة خان، واصفين إيّاها بالعمل “الشنيع” والمعادي للسامية. وكان نتانياهو قد استبق صدور هذا الطلب، وطالب جميع الدول مواجهة محاولات ملاحقته أمام المحكمة الجنائية الدولية، وناشدهم باستخدام جميع الوسائل المتاحة لوقفها. على إثرها، أكّد كريم خان تعرُّض المسؤولين في المحكمة لتهديدات مرتبطة بممارسة عملهم، مطالبًا بوقفها لما تشكّله من مسٍّ باستقلاليّة العاملين في المحكمة وحياديّتهم وإعاقة حسن سير العدل. وفيما لم يسمِّ خان الجهة التي وجّهت هذه التهديدات، سرعان ما تبيّن أنّ 12 سيناتورًا في مجلس الشيوخ الأميركي قد وجّهوا إليه رسالة تضمّنت تهديدًا مباشرًا بإنزال عقوبات في حقه وفي حق المحكمة في حال إصدارها لأوامر القبض ضدّ نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين. وقد كشفت تحقيقات إعلامية استقصائية عن عمليات التنصّت الممنهج والتهديدات التي تمارسها إسرائيل في حق العاملين في المحكمة منذ أن بدأ التحقيق في قضية فلسطين. كما هدّد نتنياهو بمعاقبة السلطة الفلسطينية في حال صدور أوامر في حقّه، وهو ما تُرجم في إصدار الولايات المتحدّة الأميركية قانونًا ينصّ على وقف بعض المساعدات عن السلطة الفلسطينية في حال دعمها لتحقيقات المحكمة.
في هذا الإطار، دان خبراء الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التصريحات الإسرائيلية والأميركية التي تهدّد بمعاقبة المحكمة وموظّفيها وأفراد عائلاتهم، مطالبين جميع الدول بحماية استقلالية المحكمة. كما أصدرت رئاسة جمعية الدول الأطراف في المحكمة بيانًا يدين التصريحات العلنية المتعلّقة بالتحقيق في قضية فلسطين التي تعتبر تهديدًا بالانتقام موجّهًا ضدّ المحكمة ومسؤوليها في حال ممارسة هذه الأخيرة لوظائفها القضائية. كما أصدرت 93 دولة بيانًا مشتركًا لدعم المحكمة واستقلاليتها مؤكدّين على تمسّكهم بمرجعيّتها لضمان العدالة والأمن الدوليين ومطالبين جميع الدول بالتعاون معها. إلّا أنّه وبالرّغم من هذه البيانات، فإنّ مجمل التهديدات في حق المحكمة بقيت من دون أي محاسبة فعلية ولم يترتّب عليها أية إجراءات قضائية أو متابعة في مجلس الأمن، فيما استمرّت إسرائيل في ارتكاب جرائمها في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، واستمرّ القادة الإسرائيليون بالتشكيك علنًا في عمل المحكمة والمسّ بمصداقيتها.
نتيجة هذه الضغوط، يستمرّ تأخّر الغرفة التمهيدية في البتّ في طلب خان بصورة غير مبرّرة. وكانت بريطانيا قد قدّمت أوّلًا مذكّرة بصفتها صديقة للمحكمة (Amicus Curiae Brief) – قبلتها المحكمة – لمطالبتها بعدم النظر في الطلب بحجّة غياب صلاحيتها سندًا لاتفاقيات أوسلو. وقد أتى موقف الغرفة في تناقض مع اجتهادها المستقرّ بعدم اللجوء إلى هذا النوع من المذكّرات إلا بشكل استثنائي في المرحلة التمهيدية. بعدئذ، تراجعتْ بريطانيا عن مذكّرتها من دون توضيح سبب تراجعها، ورفضت محكمة العدل الدولية في لاهاي صراحة أن يكون من شأن اتفاقيات أوسلو أن تقيّد تطبيق القانون الدولي (الرأي الاستشاري في 19 تموز 2024). إلّا أنّه رغم ذلك، فتحت الغرفة التمهيدية الباب لجهات أخرى لتقديم مذكرات مماثلة (قبلت المحكمة حوالي 60 مذكرة) ممّا أدّى إلى إطالة الإجراءات التمهيدية. ورغم ختم مهلة تقديم المذكرات في 6 آب 2024 وتقديم المدعي العام جوابه عليها في 23 منه حيث طالب الغرفة بالإسراع في البت في طلب إصدار أوامر القبض، لا تزال الغرفة تمتنع عن البت في طلبه لغاية اليوم.
أمام هذا الواقع، لم يكتفِ نتنياهو وغالانت بالمضيّ في جريمة الإبادة الجماعية في فلسطين المحتلة فحسب، بل وسّعا نطاق جرائم الحرب الإسرائيلية لتطال لبنان، حيث قامت القوّات الإسرائيلية في يوم واحد فقط في 23 أيلول 2024 بقتل أكثر من 569 شخصًا، من ضمنهم ما يُقارب 50 طفلًا و100 إمرأة، وإصابة حوالي 5000 شخصًا بجروح وتهجير عشرات آلاف السكّان نتيجة سلسلة من الغارات الجوية في مختلف المناطق اللبنانية، في ما شكّل عنفًا غير مسبوق واليوم الأكثر دمويًة في تاريخ لبنان الحديث. ورغم دموية المشاهد المأساوية، ما تزال الغرفة متأخّرة عن إصدار أي قرار.
إزاء هذه الوقائع، يتأكّد أنّ المحكمة الجنائية الدولية ما تزال عاجزة عن ممارسة دورها في ردع الجرائم الأكثر خطورة وحماية المجتمعات المهدّدة وتحصين السّلام الأهلي، بفعل التأثيرات والتهديدات العلنية وغير العلنية الموجهة إلى أعضائها بصورة أو بأخرى وأيضًا بفعل تخلّف الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان استقلالية قضاة المحكمة وحماية أمنهم الشخصي. ومؤدّى ذلك هو تعطيل مسار العدالة الدولية بشأن فلسطين المحتلّة وتمادي الجرائم الإسرائيلية في لبنان، فضلًا عن تحصين القادة الإسرائيليين إزاء أيّ محاسبة واستمرار تنقّلهم خارج إسرائيل من دون أي قيود وصولًا إلى اعتلاء أهم منابر الأمم المتحدة. كما إنّه يسهم في إضعاف ثقة شعوب المنطقة في قدرة المحكمة على القيام بمهامها وضمان العدالة الدولية بوجه الجرائم الإسرائيلية.
فمَن عطّل عمل المحكمة الجنائية الدولية في فلسطين المحتلّة أو أهمل اتخاذ إجراءات لمحاسبة التهديدات الموجهة لأعضائها، إنّما يشرّع الباب أمام استمرار الإبادة في حق فلسطين في غزة والضفة الغربية كما يشرّع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب بحق اللبنانيين.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.