رفض قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي التسليم بصفة هيئة القضايا المثول في القضية المقامة ضد رياض سلامة ورفاقه باختلاس أموال من مصرف لبنان. وعليه، وبعدما منع رئيستها القاضية هيلانة اسكندر من حضور جلسة استجواب سلامة، كلفها بإثبات أمرين تمهيدا لبتّ مسألة مثولها في القضية:
الأول، إثبات موافقة وزير المال الادّعاء على سلامة معتبرًا ضمنا أنه ليس لهيئة القضايا اتخاذ قرار تمثيل الدولة من تلقاء نفسها، إنما يتعين عليها الاستحصال مسبقا على موافقة الوزير المختص. والواقع أن هذه المسألة ليست المرة الأولى التي تطرح هذه المسألة في وجه الهيئة إذ كان سبق أن أثارها سلامة والنيابة العامة أمام قاضي التحقيق الأول السابق شربل أبو سمرا في قضية عمولات “فوري”. آنذاك بينت هيئة القضايا أنها ادعت ضدّ سلامة في القضية بعدما راسلت وزارة المالية للاستعلام عن موقفه من دون أن تلقى أيّ جواب منه. وقد انتهى الأمر بعدما أرسل وزير المالية يوسف الخليل إلى الهيئة كتابا استغرب فيه توجيه طلب له في هذا الشأن مخوّلا إياها القيام بما تراه مناسبا لحماية حقوق الدولة. والواقع أن هذه المسألة ليست مسألة تقنيّة، إنما هي مسألة مؤسساتية تتّصل بمدى حيادية هيئة القضايا واستقلاليتها في القيام بمسؤولياتها في تمثيل الدولة والدفاع عنها، بحيث يكون معيار التحرك ليس إرادة هذا الوزير أو ذاك إنما القانون واعتبارات الصالح العامّ. وما يؤكد ذلك هو كون هيئة القضايا مؤلفة من قضاة فضلا عن الممارسات الفضلى دوليا في هذا المضمار. أي كلام آخر، يؤدي إلى إخضاع مصالح الدولة لرقابة السلطة الحاكمة وسقفها مما يقلل من حظوظ حماية الدولة بصورة فاعلة. وفيما يسجل للهيئة تمكسها باستقلاليتها، ينتظر من جميع القضاة التي قد تمثل أمامهم التسليم بأهمية ذلك من منطلق ولائهم للشعب الذي يصدرون أحكامهم باسمه.
أما الأمر الثاني الذي طلبه قاضي التحقيق فقد تمثل في إثبات صفة الدولة وتاليا ضررها، وبخاصة في ظل اتخاذ مصرف لبنان صفة الادّعاء الشخصي. ويستشفّ من ذلك أن قاضي التحقيق طلب من الهيئة هنا إثبات الضرر الخاص الذي تعرّضتْ له الدولة اللبنانية، والذي لا يغطيه ادّعاء مصرف لبنان الذي هو المالك القانوني للمال موضوع الدعوى والذي تمّ اختلاسه من صناديقه. وهنا يجدر تسجيل 3 أمور:
أولا، إن القضية الحاضرة تتناول مخالفات حصلت في إدارة مصرف لبنان والتي أسهمت بصورة أساسية في الانهيار المثلث غير المسبوق أي الانهيار المالي والاقتصادي والنقديّ. ومؤدّى هذا الانهيار خسارة الدّولة القيمة الفعليّة للعديد من حساباتها المصرفية المودعة لدى مصرف لبنان وقيمة مواردها وعملتها الوطنيّة فضلا عن الضرر الجسيم الذي أصاب مرافقها العامة واقتصادها وقطاعها المصرفيّ. ولا يردّ على ذلك أن القضية تقتصر على ما قيمته 40 مليون د.أ. فعدا عن أنّ هذا المبلغ ليس إلا جزءا بسيطا من المعاملات الحاصلة مع شركة أوبتيموم والتي بلغت أكثر من 8 مليارات د.أ أي ما يقارب 3 مرات الموازنة السنوية للدولة، فإنه من الثابت أن المعاملة موضوع القضية تمّت وفق تقرير التدقيق الجنائي ضمن مخطط ممنهج قوامه الهندسات المالية الحاصلة في فترة 2015-2019؛
ثانيا، إن الضرر الذي تكبدته الدولة من جراء المخالفات المعزوة إلى سلامة يكاد بكون أكبر ضرر تعرضت له دولة من جراء أعمال حاكم مصرفها المركزي، فضلا عن كونه من أكبر الأضرار التي تسبب بها موظف عام لبناني لدولته، بمعنى أن كلمة ضرر تفقد معناها المتعارف عليه منطقيا ولغويا في حال اعتبار أن الدولة لم تتضرر من أعمال سلامة؛.
ثالثا، نذكر كل من يهمه الأمر أن الدولة هي المالك الوحيد لمصرف لبنان وأنها تتحمل وفق المادة 116 من قانون النقد والتسليف خسائره بشروط محددة، مما يجعلها طبعا متضررة من أي استيلاء على أمواله، وبخاصة إذا أدى إلى خسائر محققة. ولعله يفيد أن نذكر بالخطط والاقتراحات الهادفة إلى تسليع لبنان وتبييع الدولة أموالها ومرافقها من أجل سدّ فجوة خسائر مصرف لبنان (مثال على ذلك الاقتراحات الثلاثة المقدمة من كتل تمثل جزءا وازنا من المجلس النيابي وهي كتل لبنان القوي والجمهورية القوية والتنمية والتحرير والهادفة إلى تخصيص أموال الدولة من أجل معالجة الفجوة المالية الحاصلة في حسابات مصرف لبنان). ف كيف يمكن التدافع من أجل تحميل الدولة مسؤولية كل الخسائر التي تسببت بها إدارة مصرف لبنان بما فيها الهندسات المالية أو معظمها من دون التسليم بكونها متضرّرة من جراء أعمال هذه الإدارة؟
لكلّ هذه الاعتبارات،
وتبعا لاستئناف هيئة القضايا قرار استبعادها عن استجواب سلامة،
وإذ يتخوّف ائتلاف استقلال القضاء من أن يؤدّي استبعاد هيئة القضايا إلى حرمان الدّولة من حقّ الدفاع عن الصالح العام وضمان احترامه أو أن يندرج في مخطط لتعليب القضية ضمن إطار محدد، فضلا عن كونه يولّد سابقة خطيرة من شأنها شلّ عمل هذه الهيئة في مجمل قضايا مصرف لبنان وبشكل أعم قضايا الفساد وإخضاعه لإرادة السلطة الحاكمة ومصالحها،
يعلن ائتلاف استقلال القضاء الأمور الآتية:
1-التمسّك التامّ باستقلالية هيئة القضايا في تمثيل الدولة والذود عن الصالح العام، كضمانة لحياديّة الدولة إزاء المصالح والاعتبارات السياسية،
2-التمسّك التامّ بأحقية الدولة في التقاضي والدفاع في القضايا المتصلة بإدارة مصرف لبنان وأمواله، على ضوء الضّرر الجسيم الذي تكبّدته الدولة من جرّائها والذي بلغ مبالغ فلكية غير مسبوقة بكل ما للكلمة من معنى،
3-التمسّك بجلاء الحقيقة وتحقيق العدالة كاملة في مجمل المعاملات الحاصلة بين مصرف لبنان وشركة أوبتيموم من دون مواربة أو انتقاص، ضمن ورشة قضائية واسعة تهدف إلى تحديد المسؤوليات الجنائية عن الانهيار بعيدا عن أي انتقائية أو محاباة أو تمييز،
4-ضرورة التدخّل لنزع العوائق والألغام التي قد تعترض استمرار العدالة في هذه القضية وسواها، وأهمها الاجتهاد تشريعا وإلا قضاء من أجل وقف التطبيق العبثي للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتي باتت تشكّل أداة تخوّل أيّ مدعى عليه في أيّ قضية مهما بلغت أهميّتها الاجتماعيّة أن يعطل التحقيق فيها ولما يزال في المهد. وليس أدلّ على ذلك من التذكير أن تحقيق الهيئة الاتهامية في دعوى “عمولات فوري” معطل بفعل هذه المادة، وكذلك العديد من الدعاوى والملاحقات المقامة ضد العديد من المصارف.
لقراءة النسخة الانكليزية من البيان