كان يفترض أن تدرس حكومة تصريف الأعمال اليوم اقتراح مرسوم جديد بشأن تنظيم المقالع والكسارات. إلا أنّ وزير الصّناعة جورج بوشيكيان عاد وطلب إزالة البند عن جدول أعمالها بحجّة أنه يحتاج إلى مزيد من الدرس. ويرجّح أن يكون إرجاء بحث المرسوم قد تمّ بعدما تفطّن بوشيكيان أنه لم تتمّ استشارة مجلس شورى الدولة بعد من دون أن يعني ذلك التراجع عنه.
وإذ يأتي هذا المقترح ضمن جهود يقودها وزير الصناعة منذ 2022 لفرض إرادة شركات الإسمنت ومصالحها بصورة شبه كاملة، فإن استعجال وضعه على جدول الأعمال يأتي كردّ على قرار مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ القرار الحكومي بمنح شركات الإسمنت امتيازا غير قانوني في تفجير الجبال، وهو القرار الذي تبلّغت الحكومة ووزارة الداخلية صيغته التنفيذية في 30 آب الماضي. فلئن نجح بوشيكيان في استصدار قرار حكومي بمنح شركات الإسمنت مهلة إدارية (سنة كاملة) لاستثمار مقالعها في تاريخ 28 أيار المااضي، فإن صدور قرار الشورى بوقف تنفيذه عاد خلط الأوراق ودفع الوزير إلى بذل مزيد من الجهود من أجل تحرير هذه الشركات من الضوابط القانونية التي تكبّلها وبشكل خاص من أحكام المرسوم 8803/2002 الناظم للكسرات والمقالع. وفيما يوحي ظاهر الاقتراح أنّ المرسوم التنظيميّ المذكور يلغى بمرسوم تنظيمي آخر، فإن التدقيق في أحكام هذا المرسوم إنما يبيّن إنه ليس كذلك بل لا يعدو كونه تسليما بانتظام اللاقانون. فعدا عن أنه يسقط مسؤوليات شركات الإسمنت عن جرائم الماضي وآثارها، فإنه يمنحها بطاقة خضراء في مواصلة استثمار المقالع المخالفة مستقبلا من دون أي ضوابط وبكلمات يصعب تصديق أنها وردت في نص تنظيمي. فكأن السلطات العامة تقرّ قانونا يعلن انتهاء حكم القانون. وإذ شدّدت الأسباب الموجبة للمقترح على وجوب ضمان استدامة عمل شركات الإسمنت، فإن مؤدى الاقتراح في حال إقراره هو ضمان استدامة الجريمة البيئية.
وقبل المضي في إبداء الملاحظات على المرسوم، يجدر التذكير أنه علاوة على القرار الحكومي الصادر في 28 أيار 2024 بمنح شركات الإسمنت مهلة سنة لمخالفة القانون والذي تم وقف تنفيذه، فإن وزيريْ الصناعة والبيئة كانا أصدرا في 1 تموز 2024 قرارا مشتركا يسمح لهذه الشركات بمواصلة استثمار مقالعها بما يتجاوز هذه المدة تحت غطاء إعادة التأهيل. وإذ طعن اتّحاد بلديات الكورة بالتعاون مع المفكرة القانونية في هذا القرار الذي ندرسه على حدة، يلحظ أن يوشيكيان أعاد دمج معظم أحكامه ضمن مقترح المرسوم الذي أحاله إلى مجلس الوزراء.
تنظيم اللاقانون
لم يكتفِ المرسوم المقترح بإلغاء المرسوم 8803 وضمنا ما احتواه من شروط ضامنة للبيئة (وأهمها عدم جواز إقامة مقالع على مقربة من المناطق المأهولة)، بل تضمّن في أحكامه الانتقالية مادّة من شأنها أن تنسف أي تنظيم مهما كان معاديا للبيئة. فقد نصت المادة 42 من المقترح حرفيا: “استثنائيا وبصورة مؤقتة يسمح لشركات الإسمنت القائمة بتاريخ نفاذ هذا المرسوم بالاستمرار بالعمل بعد نفاذه ولغاية صدور قرار المحافظ بالبت بطلب الترخيص وفقا لأحكامه”.
يُفهم من ذلك أن مقترح المرسوم احتوى ما يُجيز للشّركات الاستمرار في استثمار مقالعها من دون حاجة للحصول على أيّ ترخيص من أيّ نوع كان. وهو بذلك يكون شرّع للشركات الاستمرار في تفجير الجبال كما تريد من دون وضع أيّ ضوابط عليها. وفيما يشكّل استثمار المقالع الآن جرمًا جزائيّا، جاء المقترح لينزع الوصمة الجرميّة عنها من خلال جعلها مجرّد تدبير انتقاليّ لضمان استمرارية عمل المقالع وشركات الإسمنت من دون توقف. وما يزيد من قابلية هذه المادة للانتقاد، هو أنها لم تربط تطبيقها بأيّ مهلة محددة لتتحول بذلك إلى مهلة إدارية مفتوحة بمواصلة استثمار المقالع من دون أي قواعد تنظيمية. وبذلك، وفي حال إقرار المرسوم المقترح، فإن الحكومة تكون استخدمت سلطتها التنظيمية من أجل إلغاء أي تنظيم، وكل ذلك خلافا لقانون حماية البيئة 444/2002 والذي فرض على العكس من ذلك وضع مراسيم تنظيمية لمجمل المنشآت المؤثرة في البيئة وكشرط ضروري لحمايتها.
في الاتجاه نفسه، نصّ المرسوم المقترح على إرساء آلية ترخيص لمواصلة استثمار المقالع القائمة تحت غطاء إعادة التأهيل، على غرار ما كان ورد في القرار المشترك الصادر عن وزيرتيْ البيئة والصناعة بتاريخ 1 تموز 2024. وعدا عن أن هذه الأحكام تحوّل إعادة التأهيل من موجب يترتب على مستثمر أي مقلع إلى إمكانية متاحة لهذا الأخير وفقط إذا رغب بذلك، فإنها تخوّل المرخص له إجراء أعمال حفر وتفجير واستخراج، وهو أمر لا يمكن تفسيره إلا على أنه مواصلة للاستثمار. وقد بدت هذه الأحكام وكأنها تؤسس لمكافأة غير مستحقّة لكل من استثمر مقلعا مخالفا للقانون أيا يكن موقعه (وحتى ولو لم تتوفر فيه شروط إقامة مقالع)، قوامها تمكينه من مواصلة استثماره تحت غطاء الترخيص بإعادة تأهيله.
كما من المعبّر أيضا أنه حتى في الحالات النادرة التي قد يحصل فيها ضبط مقلع مخالف، فإن وزير الصناعة استعاد قيمة الغرامات كما حددت في 2002 من دون أن يتنبه إلى انهيار قيمة العملة الوطنية. بنتيجة ذلك، سيترتّب على مخالفة السير غرامة أعلى من الغرامة المتوجبة في حال تفجير الجبال.
تحفيز الإسمنت يحجب اعتبارات حماية البيئة
أمر آخر يجدر التوقّف عنده هي الأسباب الموجبة المعلنة للمقترح. فقد شدّدت هذه الأسباب على أن المقترح يسعى إلى سدّ ثغرة تشريعية تمثلت في إغفال المرسوم 8803، ذكر “مقالع شركات الإسمنت”، علمًا أن هذه المقالع هي “من المعطيات الأساسية التي حفّزتها على الاستثمار وعلى نيلها الرخص الصناعية الملزمة” وأن لحظها في المرسوم الجديد شرط ل “وضع حلّ مستدام للمقالع”, وقد تأكدت أهمية هذا الأمر من خلال التركيز على أهمية استدامة صناعة الإسمنت “التي لها دور أساسي في تطوير قطاع البناء الحيوي الذي يساهم في النمو الاقتصادي وعملية التعافي والنهوض كما يؤمن مداخيل كبيرة للخزينة من خلال الضرائب والرسوم”. وما يلفت بشكل خاص هو تكثيف استخدام عبارة “مستدام” لضمان مصالح شركات الإسمنت من دون أي اعتبار لحماية البيئة أو ما اصطلح على تسميته ب “التنمية المستدامة” التي تجدر أن تقوم أولا على احترام الاعتبارات البيئية. وقد عكس هذا الأمر الاهتمام الفائق لوزير الصناعة في حماية مصالح الشركات وضمان استمرار عملها وأرباحها ومحفزاتها من دون أن يعلق أي أهمية على الأضرار البيئية الجسيمة والتي تسبّبت فيها هذه الشركات في الماضي (والتي قدرتها وزارة البيئة بأكثر من مليارين ونصف د.أ) أو قد تتسبب بها في المستقبل. ويتأكد تغليب مصالح شركات الإسمنت على اعتبارات البيئة في كون مبادرة وضع مرسوم تنظيمي لمنشآت مؤثرة للبيئة جاء من وزارة الصناعة وليس من وزارة البيئة صاحبة الصلاحية الأساسية وفق قانون حماية البيئة في هذا المضمار.
في الاتجاه نفسه، لم يعر المقترح أي اهتمام لمرسوم ترتيب الأراضي والذي يحدّد المناطق التي تنحصر فيها إقامة المقالع ضمن رؤية اقتصادية وتنموية تشمل الأراضي اللبنانية كافة، بحيث أجاز الترخيص للمقالع المملوكة من شركات المصنعة للإسمنت من دون حصرها في أي منطقة جغرافية.
بقي أن نشير إلى كون الأسباب الموجبة مبنيّة على إدلاءات خاطئة تماما. ومنها أن إنعاش قطاع البناء الحيوي يرتبط بإنتاج الإسمنت في لبنان، في حين أن العكس هو الصحيح. وليس أدلّ على ذلك من كون أسعار بيع الإسمنت تبلغ ضعفي سعر استيراده، ليس بفعل كلفة صناعته إنما بفعل إرادي يقوم على منع الاستيراد وتاليا ضمان الاحتكار وفرض أسعار فلكية، كل ذلك على حساب حق السكن وقطاع البناء. وهو أمر ما كان يمكن حصوله لولا تغطية من القوى السياسية الحاكمة فيما يمهد لما أسميناه سياسة “تحاصص الحصى”. وتمكين هذه القوى من مضاعفة السّعر على هذا النحو إنما يؤشّر إلى التداخل والترابط بين الشركات والقوى السياسية، كما يؤشر إلى أن المقصود باستدامة قطاع الإسمنت هو على الأرجح استدامة موارد القوى السياسية الحاكمة تمهيدا لاستدامة حكمها.
علاوة على ذلك، وبخلاف ما أوردت الأسباب الموجبة للمرسوم المقترح من إسهام نشاط شركات الإسمنت في تعزيز موارد الدولة، يلحظ أنّه لم يتضمن أيّ آليات تسهّل تحصيل الدولة حقوقها من رسوم وضرائب تقدّر بمليارات الدولارات، وهي مبالغ من شأنها في حال استيفائها أن تسهم في التعافي طبعا.
ومن هنا بدا ربط خدمة قطاع الإسمنت بالتعافي الاقتصادي من دون ربط أيّ منفعة تُمنح لهذا القطاع بالواجبات المستحقّة في ذمّتها بمثابة ثرثرة مخادعة أو ذر للرماد في العيون.
إقصاء البلديات: رأي غير ملزم
الأمر الثالث الذي يجدر لفت النظر إليه هو تهميش دور البلديات وتحويله من دور تقريري إلى مجرد دور استشاري (إبداء رأي). ففي حين نصّ المرسوم 8803/2002 على أن قرار البلديات بشأن طلبات الترخيص ملزم، فإن التعديل المقترح نصّ صراحة على أن رأيها هو غير ملزم وأنه لا يكون كذلك إلا في حال وافق عليه المجلس الأعلى للمقالع والكسارات (وهو المجلس الذي يضم وزير البيئة إلى جانب مدراء عامين لثماني وزارات). ويؤشر ذلك إلى إرادة في احتكار القوى السياسية القرار الذي ستمارسه السلطة المركزية مع تهميش دور السلطات المحلية وما قد تمثله من مصالح مباشرة لأهالي المناطق المتضررة مباشرة بالمقالع وإنتاج الإسمنت.
ويواصل وزير الصناعة في هذا المضمار ما كان بدأه مع وزير البيئة في القرار المشترك الصادر عنهما في 1 تموز 2024 والذي وضع آليات لمنح تراخيص لإعادة تأهيل المقالع المخالفة، في موازاة تجريد البلديات من أي سلطة تقريرية. وهو القرار الذي كان اتّحاد البلديات قد طعن فيه.
وقد بدا المقترح من هذه الجهة مخالفا للمبادئ التي يقوم عليها الدستور وتحديدا الفقرة ز من مقدمته حيث جاء أن “الإنماء المتوازن للمناطق ثقافیاً واجتماعیاً واقتصادیاً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام”، وهو الأمر الذي يفترض بالضرورة إشراك السلطات المحلية والبلديات في اتخاذ القرار، وتاليا تعزيز صلاحيات البلديات ومعها اللامركزية لا تقليصها. وهذا ما كان شورى الدولة أعلنه في قراره المؤرخ في 5/5/2021 (بلدية فيع ورفاقها ضد الدولة) ليمنح بذلك دور البلديات في اتخاذ قرارات كهذه قوة دستورية.
التضحية بحقوق الدولة
إذ يغدق المرسوم العطايا والمزايا على شركات الإسمنت معلنا في الوقت نفسه شديد حرصه على تحفيزها وضمان ازدهارها واستدامتها، فإنه خلا كما أسبابه الموجبة من أي معالجة للموجبات المستحقة في ذمتها والمتمثلة في تسديد التعويض عن الضرر البيئي الذي تسببت به وإعادة تأهيل المواقع، فضلا عن الرسوم والغرامات غير المدفوعة كما سبق بيانه.
وكان من الممكن أن يلحظ المرسوم ذلك ضمن أحكامه الانتقالية أو في سياق تحديد شروط طلب الترخيص أو فقدان أحقية الحصول عليه. وما يعزز ذلك هو أن المرسوم 8803 وضع بشكل لا يقبل الشك مبدأ قوامه وضع مخالفي أحكامه على لائحة سوداء تمنع حصولهم على أي ترخيص لآماد طويلة. فإذا بالمرسوم المقترح ينتهي إلى نتيجة معاكسة تماما مؤدّاها وضع هؤلاء على لائحة الشرف بدل اللائحة السوداء، من خلال تمكينهم من مواصلة استثمار المقالع من دون حتى انتظار درس طلبات الترخيص، ومن دون انتزاع أي اعتراف منهم بتحمل مسؤولية إصلاح أضرار الماضي. وتتجلّى أيضا سياسة التخلي لدى وزير الصناعة في عدم تحديد أي بدل أو رسوم لمواصلة استثمار المقالع من دون ترخيص والتي أجازها المرسوم المقترح ضمن أحكامه الانتقالية كما سبق بيانه.
عفو عامّ مقنّع
أخيرًا، فإنّ إخراج شركات الإسمنت من اللائحة السوداء والسماح لها باستثمار مقالع في مناطق مأهولة أو أيضا بمواصلة استثمار مقالع مخالفة (سواء تم ذلك وفق أحكام الفترة الانتقالية أو تحت غطاء رخصة إعادة التأهيل) لا يؤدي فقط إلى تأبيد المخالفة مستقبلا إنما ضمنًا إلى إسدال ستار على إمكانيّة المحاسبة أو الملاحقة عن الماضي. وهو أمر يوازي في عمقه استصدار عفو عام في تعدّ على صلاحية المشرع الذي له وحده أن يقرر ذلك. إذ كيف يعقل لأجهزة الدولة أن تلاحق عن الماضي أفعالا ما برحت الحكومة تشجع على الاستمرار فيها حاضرا ومستقبلا؟
من هذه الزوايا كافة، يكاد التسليم بسلطة شركات الإسمنت أن يشكل شاهدا بليغا آخر على انقلاب مفاهيم الدولة والقانون. وهذا ما يزيد من نبالة المعركة التي تُخاض ضدّ هذه الشركات وأعوانهم وفي مقدمتهم وزير الصناعة. فلنراقب.
للاطلاع على مشروع المرسوم الذي يرمي الى تعديل رقم 8803 بتاريخ 4/10/2002 وتعديلاته المتعلق بتنظيم المقالع والكسارات.