يوم انطلقت محاكمات الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية عجّت قاعاتها بالحضور. كانت الشخصيات الحقوقية تتنافس على كراسي الصف الأول. لكن مع الوقت، ضعفت حماستهم فغابوا ليبقى “قلة من الأنفار يحجون إلى المدن لحضور جلساتها متكبدين مشاق السفر لا شاغل لهم عن عدالة اعتقدوا فيها وسخّروا لها كل الوقت والجهد”. كان علمي الخضري في مقدمتهم والشخص الذي يحمسهم للحضور.
يخط الخضري على صفحته الشخصية للتواصل الاجتماعي الفايسبوك بشكل شبه يومي جداول جلسات الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية. يستتبع إعلان المواعيد بدعوة لمن يشاركونه الإيمان بحقوق ضحايا الحقبة الاستبدادية للحضور بكثافة نصرة للعدالة الانتقالية. وهو يواكب خارج المجال الافتراضي الجلسات من دون اعتبار للتصنيفات السياسية للضحايا، ليعود من بعدها لصفحته وينشر شهادته عن مجريات الجلسة ويتحدث عن المحكمة والضحايا والجلاد إن حضر. داخل القاعة، لا يخطئه المتابع بعينيه الباحثتين عن أخوة له شاركوه المحنة ويتقاسم معهم اليوم حلم العدالة. تراه ملازما لمكانه صامتا يتابع مجريات المحاكمة. يذكّر انضباطه بماضيه العسكري ويكشف عن احترامه لعدالة سبق لها أن خانت أمله لكنه لازال يعتقد فيها.
في آخر أيام حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، خطط وثلة من زملاء السلاح ممن ينتمون لحركة الإتجاه الإسلامي للانقضاض على الحكم. سبقهم لذلك زين العابدين بن علي الذي وبمجرد استقرار حكمه لم يخطئ الطريق إليهم معلنا رحلة تصفية مجموعتهم التي سماها “المجموعة الأمنية”، فيما كانوا هم يطلقون عليها تسمية “مجموعة الإنقاذ”.
تسارعت وتيرة الإيقافات إلى أن شملته بتاريخ 21-01-1988 متى اعتقل بمقر أمن الدولة مدة ثمانية أيام ليفرج عنه بعدها ومن كان معه، بعدما اتجه الحاكم الجديد إلى حفظ القضية منعا للإحراج، حيث هم برروا محاولتهم الانقلابية بذات المبررات التي تضمنها بيان انقلابه. كان الخضري قبل الإيقاف عسكريا ضابط صف وبصدد التكوين بالأكاديمية العسكرية ليصبح ضابطا وقد بات من بعده في حالة بطالة، يبحث عن شغل فلا يجد لذلك سبيلا. احتاج جهدا وزمنا ليؤسس لسبيل جديد لحياة في المجتمع غير العسكري. فقد تمكن في منتصف سنة 1991 من جمع مبلغ مالي قدره ثمانية آلاف دينار اكترى محلا واشترى ما يكفي من أغراض ليفتح دكانا صغيرا في حيه الشعبي لبيع مواد البناء. أيام قليلة بعد ذلك وقبل أن يباشر العمل الذي كان يمني النفس بأن يعيل به الأهل وتحديدا بتاريخ 15-07-1991 تحضر وحدة أمنية لمنزله وتعتقله. سأله الأمني حول علاقته بحركة الاتجاه الإسلامي. نفى كل صلة وأكد إنقطاعه عن الشأن العام وتفرغه لأمور أسرته: صمد في مواجهة التعذيب وتمسك بالإنكار. وتطورت قضيته لتحرير محضر بحث، كما أُحيل للمحكمة بتهمة مسك جمعية غير مرخص فيها. انتظر يوم المحاكمة واستعدّ له. كان يعتزم أن يحدث القاضي بكل ما يعرف ويؤكد له براءته من التهمة وكان ينتظر أن يفرج عنه بعد ذلك. سأله القاضي عن التهمة. وإذ أنكر، واجهه القاضي بقوله: “ولكنك كنت من المجموعة الأمنية”. وأصدر في حقه حكما بالسجن لمدة ستة أشهر دون كبير اهتمام بما سمع منه ودون أن يفسح له مجالا للدفاع عن نفسه.
قضى العقوبة متنقلا بين السجون ينتظر بصبر يوم الإفراج الذي حل موعده بتاريخ 18-02-1992. نقلته يومها إدارة السجون إلى مقر منطقة الأمن ببنزرت كما كان عرفها فيمن كان سجنهم لأجل ما نسب له من جريمة. أعلم هناك أنه مفتش عنه لفائدة أمن الدولة: لم يفهم ما يمكن أن ينسب له فيما أنه سجين. تبعا لذلك، نُقل إلى أمن الدولة حيث قضى شهرين كاملين كانت مسخرة للتعذيب والاستنطاق في تهمة لم يعلمها إلى أن أفرج عنه من دون محاكمة.
نقله الإفراج إلى رحلة عذاب جديدة، بحيث كان رئيس فرقة الأبحاث للحرس الوطني في حيه المزهو بسلطته يفرض عليه أن يحضر أكثر من مرة ليمضي في دفتر المراقبة الإدارية وكان أعوانه يتركونه ينتظر لساعات قبل أن يسمحوا له بالمغادرة. لم يكن قد صدر في حقه حكم قضائي يخضعه لتلك المراقبة لكن البوليس كان من يحكم.
أنسته الثورة آلامه السابقة، ما ذكر منها وما أخفي وجعلته يتحدث بافتخار عن عشر سنوات من الحرية ويجاهر برفض أن يظلم بعدها غيره كما ظلم هو وغيره. هو يتمسك في كل عمله بمسار المحاسبة لكنه يفاجئك بحديث عن أمنية قوية بالتقاء أحد جلاديه (ضابط الأمن الذي حرر محضر بحثه في أمن الدولة) ليحتسيا القهوة معا. يبرر رغبته الغريبة بذكريات الاعتقال الأول التي يستحضر منها كيف هدده أحد الجلادين بالانتقام من أسرته وبأن والده وشقيقه سيدفعان ثمن خطيئته. لقد تبين من كلامه أنهم تفطنوا لكون أخاه لعب دورا في تهريب زميل له انكشف انخراطه في المخطط الانقلابي إلى الجزائر لكنه استنكر إقحام والده في الموضوع فانتابه غضب كبير وأعلن دخوله في إضراب عن الكلام. دخل حينها ضابط الأمن هذا والذي يدعى “الهرابي” حسبما يذكر غرفة الاستنطاق ليخرج منها لمدة قصيرة ويعود بعد ذلك باسما قائلا “إطمئن والدك في منزلكم لم يمسه أي سوء. شقيقك هنا وكذلك إبن عمتك وأنت تعرف طبعا لماذا هما معك الآن. علمي لقد إستنطقت قبلك بذات هذه الغرفة كثيرين وجميعهم تغيرت أحوالهم. بعد فترة ستنتهي محنتك وقد نلتقي حينها في ظروف أفضل لنشرب كوب قهوة”. لا يقدم الخضري تفسيرا لإصراره على تلبية دعوة قهوة صدرت عن شخص ربما لم يكن يقصدها، لكن من البيّن أن جراحه تقارب الأمر كعلاج يستعصى فهمه.
يذكره بحثه عن جلاده بجهد بسمة البلعي التي سعت إلى جلادها طلبا لكلمات اعتذار عن ظلم دمّر حياتها. ويتذكر أيضا كيف انفعل “رشاد جعيدان” يوم شاهد جلاده يلج قاعة الجلسة. يتمنى أن تكون للجلادين جرأة طلب الاعتذار وأن يكافحهم وغيره من الضحايا فيذكرونهم بوحشية الاعتداءات ويطرحون عليهم السؤال المحير الذي ما زال يؤرقه: “لماذا فعلتم ما فعلتم؟ لماذا كنتم تبالغون في ظلمنا؟ هل هي التعليمات أم أنتم؟” لم يتسنّ له ذلك في المحكمة العسكرية التي كانت تتعهد بقضيته ولا في مقر هيئة الحقيقة والكرامة حيث تم سماعه في جلسة سماع سري.
هو اليوم ينتظر من كل جلسة يحضرها جوابا لتساؤله من أفواه الجلادين ويتمنى أن يشاهد ملامحهم ليتبين بعض ما يفكرون فيه. لكنهم يخذلونه في كل مرة. من حضر منهم اختار أن يدلي بأقواله من الخلوة أي خلف ستار يحجبهم عن كل الضحايا. كما اعتصموا جميعا في ردهم عن أسئلة القاضي بالإنكار نافين ما نُسب لهم من أفعال مدعين أنهم كانوا في عملهم يحترمون حقوق الإنسان ويلتزمون بقيمها.
بعيدا عن أحلامه وآماله، يحاول الخضري كلما تحدث عن العدالة الانتقالية أن يشيد بالمسار وأن يحمل المسؤولية عن انتكاساته للسلطة أو ما يسميه “السيستام” أي منظومة الحكم بها فيها الدوائر غير الرسمية. يقول أن حجب الدولة للأرشيف عن الهيئة أضعف جهد الاستقراء وكشف الحقيقة. وهو ينسب لأعداء المسار تخريبه بإيجاد حالة تعاطف مع الجلادين في مقابل تشويه صورة الضحايا. يذكر في هذا الصدد أن أجواره كانوا أكثر احتراما له خلال فترة الاستبداد. كانت نظراتهم تشعره أنهم يعون حقيقة أنه ضحية لمحاكمة جائرة ولاستبداد أمني يمنعه من الحياة الكريمة. تغير الآن الأمر: كثيرون منهم يصدقون أنه تحصل على تعويضات قيمتها ملايين الدينارات وأنه بات من أصحاب الثروة. يحسده بعضهم في سره ويلمح البعض الآخر في حديثه معه لحق المجموعة فيما تحصل عليه من مال. يؤلمه سوء ظنهم به وبكل من كان في مثل وضعه ويعلم أن سببه دعاية مغرضة استهدفته كما جميع الضحايا. هو كما يؤكد ذلك لم يتوصل بأي تعويض. يمنعه خجله من الحديث عن ذاته وكيف يدير أمر معاشه ويتهرب من كل جواب عن مثل هذا السؤال محيلا الحوار الى تونس التي يحلم بها والتي يرى أن القضاء المستقل عمادها.
يعلق الخضري آمالا كبرى على الدوائر المتخصصة ويتجاهل ما قد يطرح من سؤال حول خرقها لقواعد المحاكمة العادلة. يقول: “الخبراء أكدوا أن تلك الدوائر لها أحكامها الخاصة وأن القضاة سيصلحون ما قد يكون بها من خلل”. ويضيف: “هي محاكمات للدولة الظالمة وهم يريدون مصالحة تعطي عفوا دون حقيقة ودون مجرد اعتذار”. لينتهي للقول بكون تمسكه بالمحاسبة لا يعني أنه يطلب القصاص. ما يطلبه إدانة للظلم لكي لا يتكرر مرة أخرى، مؤاخذة للجلاد لكي لا يتجرأ من يتحمل مسؤولية الدولة على الاستبداد، حق الضحايا في معرفة الحقيقة وهي أمور يجب أن تتحقق ليصالح الشعب ذاته. وهنا يبدو في مقاله كما في حركته صورة لآلاف غيره اعتقدوا في مسار العدالة الانتقالية وعملوا بصدق على إنجاحه ويتحملون اليوم وحدهم تبعات انتكاساته رغم انتفاء كل مسؤولية لهم فيها.
- نشر هذا المقال في العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الحقيقة والكرامة في أفق جديد