وسط البلدة القديمة في بليدا (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)
“هنا الشارع العام، وهنا المقبرة القديمة، ولكن أين القرية؟” يسأل رفيق إبراهيم، السبعيني من أبناء بليدا، وهو يشير إلى صورة حديثة ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية تُظهر آثار الدمار الواسع في البلدة الحدودية بعد التوغّل البرّي الإسرائيليّ في أجزاء منها الذي تمّ توثيقه للمرّة الأولى في 10 تشرين الأوّل في فيديوهات الجنود الإسرائيليين.
منذ 8 تشرين الأوّل 2023، تعرّضت بليدا لقصف متواصل استهدف البنية الأساسية والمرافق المدنية: شبكات المياه، والمناطق الحرجية، والأراضي الزراعيّة والكروم، والمنازل، والمزارع، والمؤسسات التجارية على طول الطريق العام. جاء ذلك ضمن قصف مركّز على كلّ المنطقة الحدودية ضمن ما كان يعرف سابقًا بـ “الشريط االحدوديّ المحتلّ” قبل تحرير العام 2000، أو “الحزام الأمني” وفق التسمية الإسرائيليّة، مع تهجير معظم السكان خلال الأسابيع الأولى من العدوان، وهو ما وضعته “المفكّرة” ضمن “سياسة الأرض المحروقة”، في تحقيق سابق.
لكن التدمير الأكثر شمولًا في بليدا وقع بعد بدء محاولات الغزو باتّجاهها. يوثق هذا التحقيق كيف أنّ التوغّل البرّي الإسرائيلي لم يستهدف الأراضي فحسب، بل استهدف بليدا ككيان حاضن للذاكرة الجماعية والموروث الثقافي، ويورد دلائل على قيام القوّات الإسرائيلية، خلال محاولات توغّلها تحديدًا، بمحو ملامح بليدا بصفتها هذا الكيان الحاضن.
يعتمد التحقيق على تحليل صور الأقمار الاصطناعية ومقاطع الفيديو المسرّبة من الجنود الإسرائيليين التي توثّق وضع بليدا بعد التوغّل البري. وبالتعاون مع “مختبر نوى للإعلام”، أُجري إحصاء دقيق وتوثيق شامل للأضرار، كما استند التحقيق إلى شهادات السكان لتقديم صورة متكاملة للأهمية التاريخية والثقافية للقرية.
دمار كبير يصاحب التقدّم البرّي
تُعدّ بليدا إحدى أكبر القرى الحدودية، وتضمّ 1818 مبنى. حتى تاريخ 5 تشرين الأوّل 2024، أظهرت صور الأقمار الصناعية تدمير 52 مبنى بشكل كامل، وتضرّر 318 مبنى آخر نتيجة القصف والغارات الإسرائيلية.
في 10 تشرين الأوّل، أظهرت فيديوهات وصور نشرها الجيش الإسرائيليّ وجرى تحليل مواقعها الجغرافية، وصول قوّاته إلى الحارة الشرقيّة، على بُعد أقلّ من كيلومتر واحد من الخطّ الأزرق، ثمّ أظهرت الفيديوهات تقدّمًا وصل أقصاه لاحقًا إلى كيلومترين في بعض المواقع بخاصّة عند أطراف الطريق العام في شرق بليدا، حيث تقع الأحياء السكنية ومسجد بليدا الأثري أو ما يشكّل “البلدة القديمة”، وكذلك في جنوب بليدا حيث المساحات الزراعية. ومع أنّ هذه المسافات توثّق أقصى نقاط تقدّم القوّات الإسرائيلية، فهي لا تعكس بالضرورة السيطرة المستمرّة على الأرض.
في غضون أقلّ من أسبوعين من التوغّل البرّي، وتحديدًا بحلول 24 تشرين الأوّل 2024، ازداد حجم الدمار بشكل كبير؛ إذ ارتفع عدد المباني المدمّرة بالكامل ثماني مرّات، من 52 إلى 426، فيما ارتفع عدد المباني المتضرّرة ثلاث مرّات، من 318 إلى 987. وأحصى مختبر “نوى” للإعلام هذه الأضرار بطلب من “المفكّرة”، وأشار في تحليله إلى أنّ نحو 70% من مباني بليدا طالتها النيران الإسرائيلية، مع تركّز الدمار في المنطقة الشرقية التي شهدت أكبر عمليات توغّل. كنتيجة لهذا التدمير، مسحت “البلدة القديمة” عن الخريطة.
مسح ممنهج لمعالم الأحياء
في أعقاب التوغّل البرّي، وفي فيديو مسرّب نشره جنود إسرائيليون في تاريخ 14 تشرين الأوّل، يظهر مسجد بليدا الأثري مُحاطًا بركام المنازل المدمّرة، قبل تجريفها، فيما تُظهر مقاطع أخرى، تمّ التحقّق منها من قبل “المفكرة” معدّات إسرائيلية تقوم بهدم المنازل وتجريف الأحياء القديمة شرقيّ بليدا.
وقد أظهرت صور الأقمار الاصطناعيّة تدمير المسجد الذي يُعدّ معلمًا حضاريًا وتاريخيًا للقرية، ويشكّل نقطة جذب روحيّة لأهاليها وأهالي المنطقة. تُظهر مراجعة الصور تدميرًا تدريجيًا واسع النطاق للأحياء التاريخيّة المحيطة بالمسجد بين 5 و24 تشرين الأوّل. كما تظهر صور حديثة لاحقة من الأقمار الاصطناعية أنّ التدمير طاول جميع المناطق التي توغّل فيها الجنود، المسجد والأحياء القديمة المحيطة به والحارة الشرقيّة. كما يظهر أنّ هذا التدمير تمّ بعد وصول هذه القوّات، وقد نفّذته بشكل مباشر، ممّا يشير إلى تعمّد تدمير البنية الحضرية ومعالم القرية التاريخية.
وقدّم “مختبر نوى للإعلام” خريطة تظهر المباني التي شملها التدمير الكامل. ويتّضح بمراجعة هذه الخريطة مسح كامل الأحياء المحيطة بالمسجد، حيث يمكن إحصاء تدمير 170 مبنى على الأقلّ.
وخلال لقاءات مع “المفكّرة”، تعرّف بعض سكان بليدا على منازلهم التي تعرّضت للهدم عبر فيديوهات الجنود التي عرضناها عليهم. وفي أحد الفيديوهات، ظهر منزل لم تطله الغارات، تُقبل نحوه آلية هدم إسرائيلية، لتقوم بتدمير المنزل والحديقة المجاورة له.
المنازل التقليدية وتاريخها الممتدّ
وفقًا لشهادات سكان بليدا، يعود بناء المنازل المدمرة إلى أجيال عدّة، ممّا يجعلها جزءًا من تاريخ القرية وتراثها المعماري. يشير أبو محمد، ثمانينيّ وعامل بناء قديم في القرية، إلى أنّ هذه المنازل مبنيّة بمعظمها بالحجر المحلّي، وكانت “تُليّس” من الداخل بمزيج من الطين والتبن وتُطلى بالكلس والنيل (صباغ ذو لون أزرق مخضرّ).
تظهر صور قديمة أنّ المباني في بليدا كانت تتنوّع من حيث نمط بنائها، ويعود ذلك إلى القدرات الماديّة لأصحابها قديمًا. ويشرح أبو محمّد أنّ البيوت الأبسط كانت تُبنى بتقنية الجدران الحاملة التي تعلوها طبقات من جذوع الأشجار والأغصان والقصب ونبتة البلّان الشوكية، ثمّ طبقة من التراب يُرصُّ بالمحدلة بشكل متكرّر، لضمان متانته وعزله من تسرّبات المياه.
يقول البنّاء العتيق في شهادته إنّه في النصف الثاني من القرن الماضي، بدأ الأهالي تدريجيًا باعتماد مواد حديثة في عملية البناء، حيث استُعمل الباطون مكان الطين لتلييس الجدران، استجابة لتطوّر أساليب البناء ولتوفير مزيد من الاستقرار للمباني. وبدل الحدل المتكّرّرّ، أصبح الناس يصبّون الأسقف بالباطون لكن مع الاحتفاظ بالجدران والقواعد والأسقف الأصلية التي يعود بناؤها إلى أزمنة أبعد. تظهر صور الأقمار الصطناعيّة تهديم هذه المنازل اليوم.
وبين البيوت التي هدّمت، تلك الأكبر والتي بنيت أسقفها بطرازَي “القبو” أي “العقد الواحد”، و”العقد المتقاطع” الذي كان أعلى كلفة، وهي أسقف صخريّة تحملها قناطر حجريّة. وتنتشر هذه البيوت في البلدة القديمة المحيطة بالمسجد. مع التوسّع السكّاني للبلدة، أضيفت طوابق حديثة فوق تلك البيوت القديمة، مع الحفاظ عليها.
وتؤكد مريم (27 عامًا) أنّ هذا التحوّل لم يغيّر من طابع البيوت الأساسي: “رغم التعديلات، ظلّت الجدران والأُسس هي نفسها التي ورثناها عن أجدادنا”. وهي تتحدّث عن أنّ هذه البيوت كانت تجسيدًا للاستمرارية الثقافية والمعمارية في القرية، وشاهدة على مراحل مختلفة من حياة البلدة وتطوّرها.
وكانت بليدا تعدّ من أغنى بلدات جبل عامل بالتراث المعماري المتنوّع وبالشواهد الهامّة عليه، ومقصدًا للمهتمّين بالتراث الثقافي والمعماري المحلّي. وبالتالي فإنّ تهديم هذه المنازل، لا يضرب فقط ذاكرة بليدا وأهلها، بل أيضًا، ذاكرة هويّة كلّ المنطقة التي تعد بليدا جزءًا منها.
البعد المعنوي والآثار الاجتماعية للتدمير
تقول الصحافية إيمان العبد، ابنة القرية، إنّ بليدا كانت تتميّز بـ “المحافظة على طابع أحيائها وبيوتاتها القديمة، رغم توسّعها إلى أحياء جديدة غربًا وشمالًا”. وتتميّز هذه الأحياء ببيوتها التقليدية المتلاصقة، وأبوابها وشبابيكها الخشبية القديمة، والعناصر التراثية الغنية التي كانت تحويها، من جرار وكواير وجواريش ومحادل ودواخين وبوابير ومدقّات وبلاطات اللحمة (يشتهر الجنوبيون باللحمة النيئة المدقوقة على البلاطة).
وتضيف إيمان: “ما مسح هو القرية الأصليّة، والحارات التي كنّا نقضي فيها فترة العصرونيّة، فنتمشّى بين بيوتها، وداخل أزقتها التي لا تدخلها السيّارات”. والواقع أنّ حتّى تلاصق البيوت يعكس تراث القرية، حيث كان الجيران يقدّمون لجيرانهم جدران منازلهم ليستفيدوا منها في بناء منزل جديد لأحد أبنائهم، وهو ما يعرف محليًّا بـ “إعارة الكتف”. وتقول في شهادتها: “كفتاة تربّت في بيروت، ما جرّف هو بليدا، القرية الأصليّة، والضيعة، بمعناها القديم، وهي ذاكرتي وطفولتي وما أعرفه من وطن أصلي”. وتختم شهادتها: “كلّ هذا تمّ نسفه. لقد هُدّم وطني، ولم أعد أتعرّف إلى المكان في الفيديوهات أو من الصور الجويّة”.
وتشير مريم إلى منزل جدّتها بالقرب من المسجد قائلة: “قيمته تتجاوز قدم البناء، فهو يحمل ذاكرة عائلية تربط الأجيال ببعضها”.
إذًا ترتبط هذه المنازل بذاكرة السكان وهويّتهم العائلية، وتشير الشهادات إلى أنّ هذا التدمير يتجاوز البعد المادي للمباني، حيث يُسهم في قطع الروابط الثقافية والاجتماعية التي تربط السكان بماضيهم وذاكرتهم الجمعية، مما يمثل تهديدًا لهوية القرية الثقافية والاجتماعية.
وتشكّل الأفعال الإسرائيليّة عدوانًا على هذه الهويّة، خصوصًا مع الدلائل التي تشير إلى أنّ المسح والتجريف تمّ بعد دخول القرية، ما يعزّز النيّة الجرميّة، باعتبار أنّ هذه المواقع المدمّرة كانت تحت سيطرة القوّات الغازية لحظة تدميرها. كما يدلّل تجريفها وتهديمها إلى غياب أهداف عسكريّة مزعومة، ما يجعل من هذه البيوت المدنيّة هي الهدف بحد ذاته.
ويكشف نمط التدمير الشامل في بليدا عن غياب مبدأ التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية خلال أفعال القوّات الإسرائيلية. ويُحظر بوضوح استهداف الأعيان المدنية مثل القرى، المساكن، أو المباني العزلاء التي لا تشكّل أهدافًا عسكرية بأيّ وسيلة كانت (المادة 8 من نظام روما الأساسي). كما ينصّ على أنّ أيّ شك حول استخدام الأعيان المدنية لأغراض عسكرية يجب تفسيره لصالح اعتبارها غير مستخدمة لتلك الغايات (المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف).
التدمير الشامل يرافق الجيش الإسرائيلي
على عكس البيوت القديمة المتلاصقة، بنى أهالي بليدا بيوتًا ومزارع في الأراضي المحيطة بالقرية مع تزايد عدد السكّان، ووثّقت صور الأقمار الاصطناعيّة تدمير هذه المباني خلال تواجد الجيش الإسرائيليّ فيها.
ومع مقارنة صور الأقمار الاصطناعيّة قبل 8 تشرين الأوّل 2023، وبعد التوغّل الإسرائيليّ اليوم، يظهر أنّ التدمير والتجريف طال كروم الزيتون حول الأحياء، وهي مصدر دخل رئيسيّ وجزء أساسيّ من المشهد العام في القرية. وكانت هذه الكروم قد تعرّضت للإحراق من خلال القصف بالفسفور الأبيض والأسلحة الحارقة في تشرين الثاني الماضي.
في 20 تشرين الثاني 2024، نشر جنود إسرائيليّون فيديو مسرّبًا بدون شعار رسمي، يظهر عملية نسف ثلاثة مبانٍ متجاورة محاطة بأراضٍ زراعية. وحدّدت “المفكرة” الموقع الجغرافي لهذه المباني في جنوب بليدا، على بعد 560 مترًا من الخط الأزرق.
أظهر تحليل الفيديو أنّ الانفجارات حدثت فوق سطح الأرض وبشكل متزامن، بما يدل على تفخيخ المباني مسبقًا، وينفي تدميرها خلال اشتباكات. وفي الدعاية الإعلامية المرافقة لهذا الفيديو، روّج إعلاميّ يعمل في قناة “14” الإسرائيلية المقرّبة من رئاسة الحكومة، وهو نقيب سابق في الجيش الإسرائيلي، أنّ هذه المباني كانت تستخدم “في التخطيط لهجوم برّي”.
من جهته، قدّم صاحب أحد هذه المباني صورًا من داخله لـ “المفكرة” مؤكدًا أنّ المنشآت المستهدفة كانت مزارع دجاج، حيث كانت مزرعته وحدها تضم 15 ألف دجاجة نفقت جوعًا خلال فترة العدوان. وأوضح صاحب المزرعة أنّ الادعاء الإسرائيلي يشبه سلسلة من الادعاءات بحق منشآت مدنية في القرية، مشيرًا إلى أنّها مجرّد منشآت زراعية وسكنية. ساخرًا من هذا الاتهام، صمّم أحد أبناء المالك ملصقًا يظهر دجاجة تحمل صاروخًا، ليشاركه بين الأهالي على “واتساب”.
برز منذ اليوم الأوّل لبدء الغزو البرّي، لجوء الدعاية الإسرائيلية إلى نزع الصفة المدنية عن منازل وأحياء جنوب لبنان، كما حدث في غزة، كوسيلة لتبرير تدميرها ومحوها من الوجود. فتروّج الرواية أنّ هذه المنازل والمباني القديمة هي “مواقع عسكرية” أو “مخازن أسلحة”، لإضفاء “شرعية” على عمليات التدمير الممنهج والشامل وتبرير استخدام القوّة المفرطة والمعدّات الثقيلة لطمس ملامح القرية وتهديد هويتها. وقد وثّقت “المفكرة” في تحقيق سابق استخدام الجيش الإسرائيلي إعلامًا أجنبيًا ليقدّم منازل في بليدا كـ “مخازن أسلحة”، وقد نفى أصحاب المنازل بشكل قاطع تلك المزاعم، خلال تحقيق “المفكّرة”. وكشف التحقيق أنّ هذه الرواية تفتقر إلى المعايير المهنية وتقع في إطار الدعاية الإسرائيلية الهادفة إلى تبرير جرائم الحرب والترويج لها.
الجيش الإسرائيليّ مسح المقابر حيث وصل
لم تسلم المقبرة في المنطقة التي دخلتها القوّات الإسرائيلية في بليدا من التدمير. فقد وثّقت فيديوهات تحقّقت منها “المفكرة” عملية تهديم نفذتها جرّافة إسرائيلية شملت بوابة المقبرة الجديدة التي أُنشئت بعد عدوان 2006 وضمّت شهداء البلدة، بالإضافة إلى سورها ومصلّى تابع لها. وتظهر صور الأقمار الاصطناعية تجريف الجزء الأكبر من قبور المقبرة القديمة، التي تضم رفات أجيال من أهالي بليدا، ويعود تاريخها إلى مئات السنين.
تقول الحاجّة فاطمة، وهي ستّينيّة من أهالي بليدا، إنّ قبر جدّها الذي يضمّ رفات جيلين من عائلتها، كان من بين القبور التي طالتها عمليات التجريف، معبّرة عن مشاعر صدمة عميقة بسبب هذا الاعتداء على حرمة الموتى. كما عبّر عدد من الأهالي، في لقاءات أجرتها “المفكرة”، عن استنكارهم الشديد تجاه تدمير المقابر. يقول علي، البالغ من العمر 33 عامًا: “للقبور حرمة ولا يجوز أن ندوس عليها حتى، فما بالك بتدميرها؟”
تُعدّ المقابر جزءًا أساسيًا من التراث الثقافي والروحي للمجتمعات، وهي محمية بموجب قوانين الحرب كأعيان مدنية وممتلكات ثقافية. ووفقًا للمادة 53 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف والمادة 4 من اتفاقية لاهاي لعام 1954، يحظر استهداف المقابر أو تدميرها إلّا إذا استُخدمت لأغراض عسكرية، وهو ما لم يتمّ إثباته في بليدا.
يمثّل تكرار نمط من عمليات التجريف للمقابر المرافق لتقدّم القوّات الإسرائيليّة في قرى حدودية عدّة، منها محيبيب وميس الجبل، عدوانًا على الذاكرة الجماعية لسكان البلدة، ويندرج ضمن انتهاكات تهدف إلى طمس المعالم الثقافية والروحية للقرية، مما يجعل هذا التدمير جريمة حرب وفقًا للقانون الدولي.
هدف المحو
تشير الأدلة المجمّعة إلى أنّ بليدا تشهد اليوم تدميرًا ممنهجًا وواسع النطاق تجاوز سياسة الأرض المحروقة ليشمل مسح القرية والمعالم الثقافية والدينية والتاريخية فيها. هذا الاستهداف الممنهج للمنشآت المدنية والمعالم الأثرية، في كلّ مكان يصل إليه الجيش الإسرائيليّ، يجعل الخسائر أبعد من خسائر مادية، خسائر تمتدّ إلى عمق الهويّة المجتمعية التي تربط السكان بتراثهم.
توثّق هذه الأدلة نمطًا من جرائم الحرب وتُظهر سياسةً تهدف إلى عزل السكان عن ماضيهم واستهداف ارتباطهم بأرضهم. ويكشف هذا التدمير عن استراتيجية تتجاوز أي ادعاءات حول “أهداف عسكرية” لتستهدف محو الهوية التاريخية للمجتمعات الحدودية، وتفريغها من معناها الثقافي والحضاري.
إنّ هذا التوثيق للدمار ليس مجرّد توثيق للأضرار، بل هو خطوة أساسية لإثبات أنّ هذه العمليات تتعدى إطار الحرب التقليدية لتصل إلى استهداف المجتمعات والأفراد ووجودهم الماديّ والمعنويّ بهدف منع عودتهم إليها. بليدا هنا تُمثّل نموذجًا لما يجري على نطاق أوسع في القرى الحدودية، كتكرار وحشيّ عمّا شهدته وتشهده غزّة، حيث يكون المستهدف ليس قوّة عسكريّة أو مجرّد أهداف سياسيّة غير مشروعة، بل يكون الهدف هو المجتمع ونسيجه، بهدف إعادة تشكيل المشهد الإنساني والثقافي بشكل يريد من ينفّذه ألّا يترك مجالًا لقدرة الناس لاحقًا على استعادته.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.