بلستيا العقّاد: القصّة الصحافية في مواجهة الإبادة


2024-09-04    |   

بلستيا العقّاد: القصّة الصحافية في مواجهة الإبادة
بلستيا في غزّة (المصدر: حسابها على إنستغرام)

مع غزارة القصص وكثافة التجربة واحتشادها، يسيل كلام الصحافية والناشطة الفلسطينية الغزاوية بلستيا العقَّاد،  لكنّ الكلام يتباطأ كلّما ثقلت الذكريات ومعها وجعها، أو حين تقفز الرواية من التحليل المهنيّ، إلى الشخصيّ، والشخصيّ هنا ليس إلاّ قضيّة شعب.  

في الثانية والعشرين من عمرها، وجدت ابنة غزة نفسها أمام مسؤولية تلقائيّة لتوثيق حرب إبادة إسرائيلية على غزّة: “بيتي، هذا الجزء الصغير من فلسطين” كما تراها. تمسك بهاتفها وتتتَّبع آلة الموت منذ يومها الأول لتخرج أطفال شعبها وأهلها من الأرقام التي تحتل شاشات التلفزة وتعيدهم إلى حقيقتهم “هم أناس، بشر، وواحدهم ليس رقمًا، هو حياة”. 

وبلستيا العقّاد، هي بالأصل واحدة منهم: “وهؤلاء الذين يستشهدون، أنا أعرفهم، وهذه الأماكن التي تدمّر، فيها ذكرياتي”.

ومع هذا التوثيق تتبدى حركة صحفيّة غير عادية لصحافيّي وصحافيّات القطاع، يدعمها جهد إعلاميّ لأفراد عاديّين نبتوا في كل حي وزاوية، ومن بينهم أطفال وطفلات، نقلن قصصهن وقصص الناس بأنفسهن، في فعل مقاومة حيّة وفعّالة بوجه استهداف الإحتلال الجسم الإعلامي الصحافي لكتم الصوت وطمس الجرائم. خرجت للعالم آلاف القصص، وكانت بلستيا من أوائل الذين افتتحوا روايتها على وسائل التواصل الإجتماعي ضمن عملها الإعلامي. 

بلستيا لم تتخيل أنها ستوثّق إبادة جماعيّة. تقول: “درست الصحافة وكنت أعلم أننا في ظروف غير مستقرة وتحت حصار واحتلال، وسيأتي يوم أغطي فيه مجازر. ولم أتخيل أنني سأغطي إبادة جماعية وعدوان بهذا التطرّف”. وبالنسبة لها، لبلستيا وكذلك أقرانها، فإن الصحافة ليست مجرّد مهنة، بل حاجة شخصيّة تنبع من واقعهم المعاش كفلسطينيين تحت الاحتلال، فكيف في ظل الجرائم الحاليّة التي تقف على باب ذكراها السنوية.

نجت بلستيا – جسديًا على الأقل – من حرب الإبادة المستمرّة، وتمكنت من مغادرة غزّة بعد 6 أسابيع من الحرب، مع أمّها. ولاحقًا، أُغلق معبر رفح بشكل كامل مع سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الحدود مع مصر.

قبل أن توثّق الحرب كصحافيّة مستقلّة، وتكمل حكاية قصّتها، كان للصحافيّة الشابّة تجربة مع وسائل إعلام فرنسيّة وبريطانيّة على مدار عامين تقريبًا. مع مغادرتها غزّة، حافظت على التزامها برواية قصّة شعبها، يتابعها 5 ملايين شخص على مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ. اختارت بيروت لتتابع دراساتها العليا (الماستر) في مجال الإعلام، حيث وصلت إلى لبنان قبل أسبوع، إثر حصولها على منحة دراسيّة تحمل اسم شيرين أبو عاقلة، مراسلة الجزيرة الشهيدة التي اُغتيلت على يد إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة.

بلستيا مع طفلة من النازحين في غزّة (المصدر: حسابها على إنستغرام)

حركة إعلاميّة يقودها الجيل الجديد من الصحافيّين

“كانت الصحافة العالميّة ومعظم الصحفيين الأجانب الذين يدخلون غزّة -كي لا أعمم- يعالجون الرواية الفلسطينية من منظارهم الغربيّ الخاص”، تؤكّد بلستيا. برزت الصحافيّة ضمن جيل جديد من الصحفيّين، وأمسكت معهم بزمام المبادرة في تغطية حرب الإبادة المستمرة حاليًا، وشكّلت مع زملائها حركة إعلاميّة ناشطة، لا سيّما من خلال منصات التواصل الاجتماعي. 

وهم ساهموا بشكل رئيسيّ في وضع العالم وجهًا لوجه أمام الحقائق الوحشية لمجازر الاحتلال والإبادة الجماعية. وتجاوزوا قنوات الإعلام التقليدية، التي “غالبًا ما يتم تصفية الرواية عبرها من خلال الأجندات السياسية والتحيّزات التحريرية”، كما تؤكّد بلستيا. وهم بهذا، أعادوا، بلستيا وأقرانها، صياغة الرواية العالمية حول فلسطين، من خلال تغطيتهم الخام غير المفلترة.

والصحافيّون في غزّة ليسوا مجرّد مراقبين ناقلين للأخبار ومحيّدين عن المعركة، بل استهدفوا بشكل مباشر، ووحشيّ قاسٍ، وهم تحت نار الحرب طالما أن الإبادة تشملهم، لأنّها في طبيعتها شاملة، ليستشهد 170 صحفيا وصحفية باستهداف ممنهج. 

ورغم حجم التهديدات، فقد تكشّفت هذه التغطية عن ممارسة نقديّة عالية، طالما لم تكتفِ بلستيا وجيلها بتغطية الأخبار؛ بل كانوا يتحدّون الأنماط السائدة لكيفية الإبلاغ عن الأخبار، ويعرّون القيود والتحيزات في بعض وسائل الإعلام التقليدية والأجنبيّة، من خلال ممارستهم للصحافة المباشرة، من دون هذه القيود، وتقديم صورة حقيقية جارحة لما يحدث في غزة – من دون تصفية (فلترة) أو رقابة. 

وأهم السمات التي طبعت هذه التغطية، أنّها، رقميّة طبعًا، فينشرون محتواهم دون الحاجة إلى إعادة إنتاجه، وذاتيّة، لقيامهم بكامل مفردات العمل الصحفي بمفردهم، وفوريّة، لنقلهم الخبر فور حدوثه، بما أنّهم في قلبه، وهي تغطية مستمرّة على مدار ساعات اليوم، ولا محدودة، لتوافر مساحة لا محدودة لها على الإنترنت، رغم العوائق الجمّة التي يفرضها الاحتلال، والقيود التي تضعها المنصّات. وقد وصلت الرواية رغم القيود، ومحدوديّة الأدوات، وتقطّع الانترنت والاتصالات، والحرب الدعائيّة الإسرائيليّة عليها، عدا عن مخاطر الاستهداف.

بلستيا خلال حفل تخرّجها (المصدر: حسابها على إنستغرام)

أنسنة الموضوع أو استرداد السرديّة: ممارسة نقديّة للتغطية

“أمام هول الحرب، وحجمها، لم يكن من الممكن أن أجلس في الزاوية، وأن أكتفي بمشاهدة الأحداث”، تختصر بلستيا ببساطة. وتروي كيف بدأت منذ اليوم الأول مشاركة تجاربها على وسائل التواصل الاجتماعي: “صوّرت حزم الحقائب، والاستعداد للنزوح. في اليوم الثاني، ذهبت من منزلي إلى بيت الصحافة، 10 دقائق في السيّارة كانت كافية لرؤية أنّ هذه الحرب هي غير مسبوقة في عنفها، وأنّ أمامي تغطية استثنائيّة”. 

ومن اللحظة الأولى، كانت التغطية تأخذ شكلها الإنسانيّ. بلستيا صوّرت أمّها، تعدّ الشاي رغم كلّ ما يحدث، وفي فيديو آخر، حصل قصف وهي تصوّر، ونشرت الفيديو كما هو، بكلّ انفعالاته: “ليش؟”، تسأل، وتجيب: “لأنه إذا تم ذكر هذه الغارة في نشرة إخبارية، فستكون مجرد خبر. يعرف الجمهور أن صاروخًا سقط في هذه المنطقة، وقد يرون لقطات عامّة لآثاره، لكنهم لا يرون ما يحدث لنا كأشخاص، وما يحدث لكل فلسطيني على المستوى الشخصي. هذا ما أردت أن أنقله”.

“لكي تنقل الصورة الكاملة، من المهم نقل المشاعر والحكايات الفرديّة، وحتّى الشخصيّة، من أجل أنسنة الخبر إلى أبعد مدى، لأن وسائل الإعلام، لسنوات عديدة، جرّدتنا من إنسانيّتنا كفلسطينيين”، تشرح بلستيا، قبل أن تؤكّد: “لقد عملوا على لا أنسنتنا”.

وتعمّقت بلستيا في حرصها على أنسنة الرواية: “لم أكن أهدف إلى إقناع العالم بأنّنا نموت، فهناك جزء من الناس قد اقتنع أصلًا أن دور الفلسطينيّ أن يموت”، لتكمل: “كان يهّمني أن أصوّر الإنسان وهو بصورة كاملة، لأنه ليس شرطًا أن يكون الفلسطينيّ ميّتًا، أو مبتور اليد أو القدم، حتى يكون فلسطينيًّا بمعايير العالم”.

بلستيا في الجامعة الأميركية في بيروت (المصدر: موقع الجامعة)

توظيف المعرفة في صنع الحالة

قبل الحرب، كان لبلستيا خطّة أخرى، طويلة المدى: “كنت أظنّ نفسي مصوّرة فوتوغرافيّة محترفة”، تقول بفكاهة، وهي كانت قد بدأت توثيق الحياة في غزّة، القطاع بيتها. وغزة بالنسبة لها، هي “المكان الذي ولدت فيه وعشت كلّ حياتي وشهد على جميع تجاربي الأولى، والمكان الذي شكّل شخصيّتي”. لم يكن لدى بلستيا متّسعًا من الوقت، وقبل أن يكتمل مشروعها، جاءت الحرب، وبدأت توثيق إبادة هذا الشريط الساحليّ الصغير عينه.

ودرست بلستيا اختصاص “الإعلام الجديد والصحافة” في جامعة “شرق البحر الأبيض المتوسّط” في شمال قبرص، وتخرجت في عام 2022. قبل هذا، تلقّت تعليمها الابتدائي والثانويّ في المدرسة الأمريكية الدولية في مدينة بيت لاهيا في غزّة. ومكّنها تحدّثها الإنكليزيّة بطلاقة، من إتقان استعمال منصات التواصل الإجتماعيّ ضمن عملها الصحفيّ. 

وكانت الصحفيّة الشابّة، على دراية بالتقنيّات اللازمة من أجل محتوى قادر على الانتشار، وتحكي بلستيا أنّها أرادت أن تصل إلى أكبر قدر ممكن من الأشخاص في العالم، فتحدّثت بالانكليزيّة، كلغة عالميّة. وتؤكّد أنّها كانت تتوجّه إلى كلّ الأشخاص، من كافّة الفئات العمريّة لكنّها كنت على دراية بأنّ عمرها يساعدها على جذب فئات عمريّة شابّة من جيلها وأصغر، ممن لا يتابعون السياسة عادة ومعها الأخبار، خصوصًا أنّه لطالما كانت فلسطين تُقدّم كقضيّة معقّدة: “كان العالم يصوّر القضية فلسطين كقضية سياسيّة معقّدة، لكنها ليست شيئًا معقّدًا، ها هي الصورة أمامك، تفضّل إفهم”، تقول شارحة. 

لمحة عن القيود

وقد بادل أهل غزّة هؤلاء الصحافيّين الحب: “أنتم تتعبون، أنت تنقلون الصورة”، هي كلمات كانت تتكرّر على مسامع بلستيا في الميدان، إذ تُحتضن من قبل الناس، ويقبلون إليها بقصّصهم، أو حاملين لها الطعام أو الماء. لكنّ عملها، وأقرانها، لم يكن مرحّبًا به من قبل الاحتلال. إلى جانب الاستهداف المباشر “كنا نعمل بأدوات محدودة جدًا”، بطاريات تفرغ، ووصول صعب جدًا للكهرباء، وانترنت محدود، ينقطع معظم الوقت، وبطاقات ذاكرة محدودة المساحة، أماكن عمل غير مهيأة، في المستشفيات أو الخيام”. 

ولعلّ هذه المحدوديّة الشديدة، يأتي معها واقع المأساة فيه هائلة: “كنا نقف في المستشفى أمام الأطفال، كلّ واحد منهم مصاب أو مبتور الأطراف، فتجدنا ننتقي من بينهم، لأنّنا لن نتمكّن من تصوير أكثر من قصّتين، بما نملكه من شحن في هواتفنا، ومساحة للتخزين، وعلى الأغلب، قد لا نتمكّن من تحميل أكثر من مادّة بسبب مشاكل الإنترنت وانقطاعها”. لهذا، فإنه مقابل كلّ ما نقل وينقل، “فإن الواقع على الأرض أضعاف مضاعفة”. 

“وكل فلسطيني في غزّة هو صاحب قصّة ويحمل مأساته الخاصة، وفي غزّة اليوم  مليون قصّة”، تعبّر بلستيا. 

إلى هذا، فلعلّ الاستهداف يبقى الخطر الأكبر على عمل الصحافيّين: “حتى أن بعض الناس باتوا يخافون من أن يحكوا قصّتهم، أو ان يتواجد الصحافيّون بينهم، خوفًا من اغتيالهم، وهذا مبرّر”، تقول بلتسيا. 

وبلستيا نالت نصيبًا وافرًا من التحريض، وقادت مجموعات الضغط الإسرائيليّة وتلك الموالية لها، حملات تشويه وتجريم ضدّها. كان شأنها في هذا، أيضًا، شأن سائر الصحافيّين الذين تحاول حكومة الحرب الإسرائيليّة والمجموعات الموالية لها نزع الصفة الصحفية عنهم باستمرار. وهي تقول بوضوح: “إسرائيل لا تحتاج لمبرر، وهي قادرة على أن تقتل من تريد، وها هي تقتل الأطفال بالآلاف”، ليكون أثر هذه الحملات، عليها هي على الأقل “دراما من الأهل الذين قد يخافون”.

مقاومة المحو بالإصرار على الوجود

مع استمرار الإبادة الجماعية في غزة، يصبح دور صحفييّ جيل الشباب أكثر أهمية. هم يوظّفون مهاراتهم ومنصاتهم لمحاربة محو تجارب شعبهم. والصحافة التي يمارسونها متجذرة بعمق في هويتهم كفلسطينيين، وهي تعيد تشكيل الطريقة التي يفهم بها العالم الصراع.

تركّز بلستيا اليوم، من مكانها، حيث قادها النزوح إلى خارج غزّة، على رواية قصّة شعبها، وإكمال تعليمها “في وقت يستهدف فيه الاحتلال التعليم ويدمّر الجامعات”، تقول، لتضيف “الفلسطينيّون يعرفون أنّ استثمارهم بأنفسهم هو استثمار في قضيّتهم”. 

يبدو هذا الجيل من الصحافيّين مصمّمًا على المقاومة، بكل الوسائل، ومن كلّ مكان، يتحدّون المعايير المفروضة، والقيود الموضوعة، ويدفعون حدود ما يعنيه أن تكون صحفيًا في العصر الرقمي. يستمرّون برواية قصص غزّة، بل إنّهم يغيّرون عالميًّا الطريقة التي تُروى بها هذه القصص. وغزة في قصصهم، ليست فقط ساحة حرب، بل مكان يعيش فيه الناس ويكافحون من أجل حقهم في الحياة والوجود.

تقول بلستيا إنّ ما يرعبها هو أنّ حرب الإبادة دمّرت غزّة: “كل الأماكن الموجودة في ذاكرتي، كل الأماكن التي لم أكن أعرف غيرها لـ22 عامًا، هي كل عمري، مُسحت، قُصفت ودُمّرت، ولم يعد لها وجود سوى في ذاكرتي، ولا وجود فيزيائيّ لها على الإطلاق”. ويبرز الخوف في عينيًها وهي تقول: “ذاكرة الإنسان قد تخونه”. وتفكّك بلستيا في كلماتها هذه، آخر فصول أحجية الصمود والمقاومة. بمقابل خيانة الذاكرة لصاحبها، يأتي التوثيق، لحفظ الذاكرة، وحتى التاريخ. 

والمسؤوليّة الجماعيّة لمن تصلهم القصّة

تشطب بلستيا العقاد وجيلها من الصحافيّين فكرة لطالما كانت راسخة بأنّ الحقيقة غالبًا ما تكون الضحية الأولى للحرب. وتباعًا، عملوا ويعملون على تغييّر السرديّة للأبد، من مواقعهم، بمنشور واحد، وبقصّة واحدة، وبمقطع فيديو واحد، في كلّ مرّة. 

ولكنّ العمل الصحفيّ هو موجّه بطبيعته لجمهور، فتبقى المسؤوليّة على الجمهور، والرأي العام، والعالم، كيف يتعامل مع المعلومة الآتية من غزّة.

 لعلّ حرب الإبادة هي العار الذي لا يمكن أن يغسل يده منه كلّ متواطئ فيه وصامت عنه. وصحافيّو غزّة، بلستيا، وأقرانها، الناجون منهم، والصامدات تحت النار في غزّة، ومن استشهدوا، يضعن بيد العالم كلّ ما يلزمه من معلومات ووقائع، ليغسل عاره ويكسر صمته. وهم يحفظون لشعبهم، روايته وقضيّته وقصّة نضاله التحرّريّ، الذي تختصره بلستيا: “شعبي متمسّك بحياته، والشخص الفلسطينيّ إنسان، لا كائن مصمّم للاحتلال. هو لم يختر الاحتلال، ويبقى هدفه ونضاله من أجل أن يعيش حياة طبيعية، في وطنه كاملًا، حرًا دون احتلال”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين ، إعلام ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني