عند مدخل مدينة بعلبك، وأمام فرن مشهور بخبز الصفيحة البعلبكية، تحمل السيدة الخمسينية كرتونة صغيرة مليئة بالصفيحة، وتقترب نحو ثلاثة رجال ينتظرون طلبيتهم بين عائدين كثر رغبوا، ربما اشتياقًا، ببعض من صفيحة بعلبك الشهيرة. تمدّ يدها بالكرتونة وتقول لهم: :تفضلوا، بعدهن سخنين”. يعتذر الرجال بتهذيب: “شكرا حجة، شوي وبيجي دورنا”. تصرّ السيدة بمحبة واضحة: “تفضلوا، سمعت إنكم عم تقولوا إنكم من الجنوب، فرحوا لي قلبي، وخلّيني ضيفكم”. بعد هذه الجملة، اكتست ملامح وجوه الرجال ابتسامات خجولة، ومدوا أياديهم و”تفضلوا” حبة صفيحة لكل منهم.
الأول، علي، من النبطية، والدته من بلدة الخضر البقاعية، نزح إلى منزل جدّه لأمه قبل 23 أيلول 2024، تاريخ تهديد البقاع. بعد هذا التاريخ، وتحديدًا إثر استهداف الخضر بمجازر عدة، حطّ رحال العائلة في منزل الخالة في بلدة النبي عثمان، في المنطقة الوسطى بين بعلبك والهرمل. عندما بدأ الطيران الحربي الإسرائيلي غاراته على المنطقة “قررنا ما بقى ننزح، ونسلّم أمرنا لله”، يقول للمفكرة.
الثاني، بسام، من يارون، قضاء صور، نزح إلى الضاحية قبل استهداف الشهيد فؤاد شكر. يومها اتصلت به عمته المتزوجة من بلدة اللبوة “جيب عيلتك وتعا يا عمتي لهون”، وهكذا كان. مع استهداف اللبوة بعد 23 أيلول أيضًا، نزحت العائلتان، العمّة وضيوفها إلى منزل عائلة صديق زوج الأولى في عرسال.
الثالث، زياد، من مارون الراس. دعاه صديقه من الهرمل إلى ضيافته “صرلي زمان بقلك تعا ومش عم تجي، بشرفك جيب عيلتك ونحن ناطرينكم، بدي آخدك ع الصيد، وعرّفك ع نهر العاصي لتشوف إنه بعده أحلى من الليطاني”، قال له ممازحًا. بعد 23 أيلول وتصاعد العدوان على الهرمل، نزحت العائلتان إلى سوريا.
يقترب زياد لاستلام الصفيحة التي طلبها، فيبادره مسؤول المحل بالقول:”جوّهت الله عليك ما بتدفع، إنتو ضيوفنا”. يصرّ ابن مارون الراس على الدفع فيما يعاند الرجل البعلبكي: “نحن مشهورين بعنادنا وراسنا يابس، ما رح تدفعوا كلكم، يعني ما رح تدفعوا”. يرد زياد المعروف بأحسن منه: “والله خجّلتونا وفضلكم ع راسنا، استقبلتونا وكرّمتونا وحسستونا إنا ببيوتنا”.
يتدخل علي النبطاني ليدلي بدلوه “قديش بشعة هالحرب وقديش همجي الإجرام الإسرائيلي، بس في شي حلو عمله، قرّبنا من بعضنا وخلّانا نتعرف أكتر ع مناطقنا وناسها، ونحن ممنونين لأهل البقاع، كل عمركم أهل الكرم“.
أما بسام فيحتفل بتعرّفه إلى عرسال “ما كنت بحياتي فكر إني رح روح ع عرسال ويصير إلي فيها أصدقاء، مع إني بعرف إنها قدمت شهدا بالجنوب ومن الستينات”.
طبعت عودة أهل بعلبك الهرمل إلى قراهم مع سريان وقف إطلاق النار ومعه العدوان الإسرائيلي على لبنان، في مواكب ازدحمت بها طرقاتها الأساسية أمس، احتفالية بشقيّن: توقف العدوان الذي لم تشهده المنطقة بهذا الإجرام سابقًا، فارتاح البقاع الشمالي وناسه من الطيران الحربي الذي احتلّ سماءه لـ 66 يومًا موزعًا مجازره الستّين على قراه وبلداته ليقتل 1060 شهيدا من أهالي المنطقة الممتدة بين شتورا والحدود اللبنانية السورية في الهرمل، من بينهم أكثر من 1000 شهيد في بعلبك الهرمل وحدها. ومع الطيران الحربي، غادرتهم المسيّرات التي استهدفت أيضًا أبناءهم على الدراجات النارية أو في سياراتهم، وحتى في منازلهم، وخَفَت طنين مزعج لم يتعرّفوا إليه سابقًا كما الجنوبيون الذين أسموا الجيل الأول منها ب “أم كامل”، عندما كانت مهمات ال “إم. كا” تقتصر على المراقبة والتصوير ولم تكن قد طُورت إلى حمل الصواريخ بأحجام مختلفة، لتنضم إلى أسراب السلاح القاتل.
وتمظهر الاحتفال الثاني ب”امتنان” الناس لبعضهم البعض، للاحتضان، والحب والمساندة في الأوقات العصيبة التي مروّا بها، مما خفف من حجم معاناتهم. الجنوبيون الذين لحق بهم العدوان إلى البقاع، يشكرون ويعدون بالعودة في السلم “لازم نضلّ عم نزور بعضنا، تشرفونا ع الجنوب، بكرا بس نعمّر بيوتنا”. ومن سيارة ابنها الذي جاء من بيروت لإعادتها، وأبيه المقعد، من مدرسة شليفا الرسمية إلى بوداي، بلدتها، تمدّ رسمية يدها لتفتح زجاج النافذة وتلوّح لأهالي البلدة التي احتضنتها لأكثر من شهرين “بخاطركن، وممنونتكم، ما قصرتوا، انشالله ما بتشوفوا ضيم”. وفي صالة كنيسة مار نهرا في دير الأحمر، تطلب الحجة زينب من كنتها التريّث بالمغادرة “لازم ننطر الأبونا حتى نشكره يا بنتي، هات نشوفه بعد، وانشالله تنذكر بالمحبة، بس ما تنعاد”.
هذا النصف “المليان” من الكأس، أما الثاني فـ “مرً”. في تكميلية دير الأحمر حيث كان جزء من النازحين من قرى قضاء بعلبك قد انتظروا انبلاج الصباح ليعودوا إلى قراهم بعدما وضّبوا أغراضهم ليلًا مع الإعلان عن وقف إطلاق النار، وفيما كان آخرون، وخصوصًا ممن لديهم أطفال، يغادرون، تغمرهم فرحة العودة إلى قراهم ومنازلهم وانتهاء جلجلة نزوحهم، كانت فاطمة (23 عامًا) تجلس على جدار تصوينة مدخل المدرسة مسندة رأسها إلى راحة يدها. تنتظر فاطمة عودة شقيقها الذي غادر يبحث عن شقة أو أي مكان يستأجره: “بيتنا راح ب بوداي، ما عنا محل نرجع عليه نحن وتلات عائلات بالمدرسة”. لا تريد فاطمة الحزينة أن تتصور “شو بدي قول لقول، ل فينا مكفينا”. تمسّد جارتها في النزوح، ابنة فلاوى، على رأسها وتدعوها إلى مرافقتها: “تعو معنا، والله مش عزيمة مراكبية” (أي مجرد كلام). تبتسم فاطمة للجارة المُحبة، وإن لم تمح الإبتسامة تجهمها “يسلم البيت لصحابه، بس تعبنا وبدنا محل إلنا نرتاح كعيلة، ما بدنا نتقل ع حدا”.
كيف نلّم كل هذه الجراح؟
تبعد فلاوى عن شليفا ثلاث دقائق بالسيارة لكن هذا الزمن القصير كفيل بنقلك من عالم إلى آخر. تستقبلك البلدة، التي لم أكن أعرفها قبلًا أنا ابنة بعلبك الهرمل، بكومة ركام هي لمنزل من طابقين يعلو ثلاثة محلات دمّرته إسرائيل. لم أعرف كم من الشهداء قضوا هنا، إذ يبدو أن جيرانه لم يعودوا من تهجيرهم بعد. على بعد 500 متر من هذا الركام، تتفرع الطريق نحو سفح السلسلة الغربية: “فوق الضيعة”، يرشدني فتى كان قد نزل من حافلة صغيرة وبيده ربطتا خبز، على المنعطف نفسه.
على الطريق الملتوية نحو الأعالي، مررت بأكثر من 20 منزلًا متكومًا على نفسه وربما الناس الذين سكنوه. المنازل السليمة مقفلة الأبواب، فيما تطاير زجاج نوافذ بعضها القريب من مواقع الاستهداف. كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحًا، ويبدو أن البلدة الجميلة ذات البيوت الحجريّة القديمة والأخرى الحديثة يزيّنها القرميد، ما زالت تنتظر أهلها. في رأس البلدة، وعلى الطريق الفرعية نفسها كان رجل يساعد زوجته في تكنيس الزجاج المكسور المتشظّي على أرض مصطبته، فيما تلحق به ابنته بنبريش الماء تغسل الأرض والتراب الذي يغطّيها. اعترضت الزوجة على أن يجري زوجها مقابلة معي: “ما عنا وقت، الأولاد بردانين لازم نظبط البيت لنقدر نسكنه”. كانوا قد وصلوا للتو من دير الأحمر. يحاول الرجل أن يعوضني عن عدم إجابة أسئلتي بإرشادي إلى تلة مقابلة لمنزله: “هونيك ارتكبت إسرائيل مجزرة كبيرة أبادت فيها إسرائيل عائلة عسكريين في الجيش اللبناني، أحدهما كان قد وصل للتو من خدمته، فيما نجا الثاني ليتألم وحيدًا”.
في نهاية الطريق، كما في بدايتها، أسأل نفسي: “كيف أننا لا نتعرف إلى قرانا وناسها ومعهما بلادنا إلا من بوابة المآسي والكوارث؟ كيف لم أتعرف إلى هذه الفلاوى الجميلة قبلًا”. ما تبقى من شجيرات البيوت المدمرة تحولت إلى منشر علقت به ثياب الشهداء أو ما تبقى من ملابس تركها من نزحوا عنها. ألبسة ملونة لا تشبه تلك السوداء التي تتشح بها نساء كثيرات في يوم العودة المفترض أنّ يكون “سعيدًا”. لُعب أطفال، أثاث محطم قذفت الصواريخ ما تبقى منه لمسافات. هنا حيث تتكاتف بيوت الأقارب والجيران، لا تقتصر الخسائر، عدا عن البشرية، على البيوت المستهدفة التي لم يبق منها شيئا، فيما تتراوح الأضرار اللاحقة بالبيوت القريبة تبعًا لمدى قربها من مكان سقوط الصاروخ. وعليه، تحلّ النكبة بدرجات في محيط لا يقل عن 300 متر. هنا لا يرغب أحد بالحديث عن جثامين الشهداء التي جُمعت، في أغلب الأحيان، أشلاء. تبني هذه الحرب سردية لم يعتدْ عليها أهل البقاع، وإنّ كانوا قد بكّروا في مواجهة العدوان، ولكن على أرض الجنوب، ومن بوّابته. تقول ذلك صور الشبّان التي تستقبلك في مداخل القرى، وتُثبّت على جذوع الأشجار التي يرغب الأهالي أن تتصدّر مداخل بلداتهم. لكن بعلبك الهرمل التي تتركن في أبعد نقطة لبنانية عن الحدود مع فلسطين المحتلة لم تواجه إسرائيل من أرضها يومًا ولم تعِشْ إجرامها في ميدانها بهذا الحجم قبلًا، بأحدث الأسلحة التي تزودها بها دول الشمال السياسي.
مع إرسال الهاتف المقطوع حينًا، والسيئ في كل الأحوال، أطاح العدوان أيضًا بأنظمة الطاقة الشمسية، ومعها الكهرباء التي رهنت العديد من النساء مصاغها للتزود بها في منطقة تعيش تقنينًا قاسيا أو حضورًا شبه معدوم لكهرباء الدولة. من لا يملك بئرًا أرتوازيًا وسلمت مضخة مياهه، كما مولد الكهرباء الذي يدعم نظام الطاقة النظيفة شتاء، يفتقر إلى المياه، في فلاوى، كما بوادي جارتها.
أكثر من 100 شهيد في بوداي وحدها
على الطريق العام لبوداي التي شهدت أعنف المجازر، ينشغل الثمانيني حسين ناصيف في ملء غالون مياه بلاستيكي من قسطل انفجر أمام منزل ابن عمه المتكوّم ركامًا، فيما ترتجف يداه، يدا الختيار، من برد يوم شتائي قارس.
هنا قضت ابنة حسين، التي كانت تملأ حياته، مع أطفالها. وهنا استشهد في المنزل الذي كان فيه لحظة استهدافه، في 23 أيلول، يوم تهديد البقاع كله بالإخلاء، 22 شخصا من أقاربه ومعهم، إضافة إلى ابنته وأولادها، ابنة ابنه، واستشهدوا جميعا.
يقول الرجل الذي لم يترك البلدة على مدار 66 يومًا، أن حصتها من القتل الإسرائيلي تجاوزت المئة شهيد وشهيدة، بينهم الكثير من الأطفال: “ما فليّت، أنا بعمري مش تارك بودّاي، ومن بعد ما استشهدت بنتي ل كانت معباية حياتي، قلت مش مهم إذا بضل عايش أو بموت”. لم تكن هذه الحسرة التي يصفها بـ “الكاس المرّ”، تليق بـ “هذه الشيبة” يقول، وهو يمسح ما تبقى من ماء عالق بيديه على لحيته. “كنت قلها ادفنيني حدك، لأنه أنا لازم موت قبلها”، لكنه “أكل”، كما يقول حسرتها في ما يسميه “أخر العمر”.
ينشغل من كان قد وصل إلى بوداي في تثبيت قطع من النايلون السميك على نوافذ البيوت القريبة من الأماكن المستهدفة، فيما شرّعت المحلات أبوابها المخلعة على تجهيزات مقهى قروي هنا، وعلى فرن صاج هناك، حتى أن محطات الوقود لم تسلم من العدوان. في بوداي أيضًا خرج لاجئون سوريون من مخيماتهم يتفقّدون البلدة التي لم يتمكنوا من النزوح عنها “ما كان عنا محل نروح عليه، وما معنا سيارات تنقلنا، بقينا تحت القصف، وجعنا، طعمينا أولادنا خبز يابس أوقات، ما كان فينا نشتغل وما حدا ساعدنا”، تتناوب نساء من أحد المخيمات على عرض معاناتهم.
في الطريق من بوادي إلى عدوس، تترامى مساحات من الأراضي الزراعية التي حرثها أصحابها تمهيدًا للزراعات الشتوية على أبواب الخريف. على الجانب الأيسر للطريق يُدخل مشهد سائق تراكتور زراعي يعمل في قلع حقل بطاطا، بعض البهجة والحياة وسط مآسي محاولة أهل المنطقة لملمة جراحهم. عاملات وعمال وأطفال يتبعون التراكتور الزراعي يلمّون رؤوس البطاطا، فيما تكسر ثيابهم الملّونة رتابة لون تراب الحقول التي فلحها أهلها ومنعهم العدوان من زراعتها. والأهم أن رؤوس البطاطا التي كانت تلمع بين أياديهم تعوّض بعضًا من كل تلك الخسائر التي مُني بها مزارعو المنطقة: “أنا من 10 ايام عم إقلع بطاطا والقصف الإسرائيلي قايم قاعد حواليي”، يقول عبد الناصر، مستثمر الحقل. لم يكن ممكنًا لابن عدوس أن يخاطر بخسارة 80 دونمًا من البطاطا استدان لزراعتها: “لو تركتهم بالأرض كنت رح موت من الجوع مع عيلتي وما أقدر حتى رد ديوني، فقلت إذا متّ من القصف النتيجة ذاتها”. تلمع عينا عبد الناصر عندما يتدخل أحد العمال في الحديث “هيدا بطل تحدّى إسرائيل”، ليضيف (عبد الناصر) “عنجد قلت ما بدي اسأل عنها، لا عن طيرانها ومسيّراتها”.
على طرف حقل عبد الناصر من ناحية طريق فرعية تفتح على الأراضي الزراعية، تفتح سيدة، تخطت السبعين من العمر، داير فستانها الطويل لتجعله شقبانًا تضع فيه رؤوسًا كثيرة من البطاطا: “أنا عادة بشتغل لعيش، ما تزوجت وما عندي أولاد، يعني مقطوعة من شجرة”. سمح لها عبد الناصر بتعفير الحقل “هودي إلي، بخلّي شوي للأكل وكل يوم بطلع كم كيلو زيادة ببيعهم لجارنا الدكنجي أو لجيراني”.
الحج إلى قلعة بعلبك
من عدوس نحو بعلبك المدينة، تمرّ الطريق بمنازل عدّة مدمّرة. هذه بلدة صغيرة جميلة أخرى لم أزرها قبلًا. أفكر باسمها : “عدّوس” يوحي الإسم بالدلع والغُنج ليضاعف حجم حزن استهدافها. أتذكر سيدة تعفير البطاطا تقول لي وأنا أودعها “كتير هالدمار ع ضيعة صغيرة متل عدوس”.
في بعلبك، حيث غطت الغيوم الشمس التي التصقت باسمها لكثرة مكوثها فيها، تتجلّى صدمة المحافظة من همجية العدوان في قلبها أكثر من أي مكان آخر في القضاء. صحيح أن المدينة، كوحدة مصغّرة، لم تشهد كثافة العدوان نفسه الذي استهدف بلداتها وقراها، إلّا أنها اختصرت تأثيره نيابة عن محيطها. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة من بعد الظهر، ولم يكن هناك أكثر من 10 إلى 15 في المئة من أبواب محلات المدينة مشرّعة. حركة السير أشبه بيوم عطلة، فيما يبدو أن الزبائن المعتادين قد أحجموا عن الشراء اليوم، أو أن الأولوية هي لتفقّد المنازل والعودة وترتيب استعادة الحياة. وحدها القلعة توزع الفرح من حولها. يبدو الأهالي ممن تركوا المدينة مع إنذارها في 30 تشرين الأول المنصرم بالإخلاء، قد جاؤوا يتفقدّونها هي أيضًا وليس بيوتهم فقط. بدوا، وهم يدورون من حولها، كأنهم يحجّون إليها فرحين بنجاتها. بعض منهم وقف وقد كتّف يديه أمام ركام مبنى المنشية الذي دمّرته إسرائيل على بعد امتار من امتداد منطقة القلعة لجهة بستان الخان من الغرب، من دون أن تفصلها أكثر من مئة متر عن المنطقة المؤدّية إلى معبد باخوس. هناك كانت صبية تأخذ صورًا ترسلها إلى أبيها المغترب وتقول له في رسالة صوتية: “وهيدي القلعة بخير بتسلم عليك”. كانت سلامة القلعة من سلامة بعلبك وأهلها، تفقدوا الأولى كما فعلوا مع الثانية.
على الطريق من حي القلعة نحو مرجة رأس العين، المنتزه الطبيعي لأبناء المدينة وقاصديها ورئتها التي تنتهي ببركة مياه البياضة حيث طيور الأوز الأبيض وفراخ البط تسعى وراء أمهاتها، كانت جنبات الأرصفة على عادتها في تشرين مغطاة بورق الخريف المتدرج بين الأصفر والناري والبني. هناك تستعيد بعلبك بعض روحها، أو يستعيد أبناؤها بعض روحهم و”النفس” كما يحكي ابن مدينة الشمس، كما يحب هشام الجمال أن يسمّيها عندما يتحدث عنها. هشام واحد من عشرات جاؤوا يتفقدون رأس العين، المساحة الخضراء الوحيدة في قلب المدينة، حتى أنهم كانوا يدورون حولها ليطمئنوا إلى مدى ضرر الغارة التي شنتها إسرائيل عليها السبت الماضي في 23 تشرين الثاني.
حرمت إسرائيل هشام 66 يومًا عن عادته الروتينية اليومية “متعود بلش نهاري بفنجان قهوة على رصيف راس العين”، وتحديدًا مقابل البياضة التي يُحب :”أنا ما تركت مدينتي، ما بقدر أتركها، بس حرمني العدوان من لقائي اليومي معها، بجي بتنفس هون، بعلبك روحي وبموت إذا طلعت منها متل هالسمكات إذا طلعوا من المي”، يقول وهو يشير بيده إلى فراخ الأسماك التي تسبح في مياه البياضة.
على الجهة الأخرى من البياضة، وتحديدًا علي الطريق التي تأتيها من ناحية حي القلعة، كان محمود منشغلًا مع شبّان آخرين في تركيب زجاج مقهاه الصغير المطل على رأس العين. يستخفّ محمود بخسارته مقارنة مع كم الشهداء الكبير الذي دفعه أهالي بعلبك الهرمل “لمن هالقد بيستشهد ناس وبيتخطّى عدد الجرحى الـ 2000 جريح، وفي عالم ما لقيت بيوتها، بيصير تكسير القزاز شي ثانوي”. يتفاءل الشاب رغم كل ما حصل “بدنا شوية وقت وبترجع الحياة بقوة، بعلبك ما بغيرها عدوان همجي مجرم”.
من حول رأس العين، تتكّوم بيوت ومحلات شهيدة باستهداف الطيران الحربي الإسرائيلي، ومن حولها أيضًا يعبر موكب نظّمه شبّان يرفعون أعلام حزبية وهم يبثون أناشيد حماسية، فيما يؤكّد حزبيون أنّ لا علاقة للحزب الذي رفعت أعلامه بهذه المواكب. يعبر الموكب نحو السوق القديمة لبعلبك ويعلو الرصاص، وتبدأ سيدة بالصراخ “ما قتلتنا إسرائيل، بدكم تقتلونا بالرصاص الطايش؟” وهي تسرع لتختبئ في منزلها.
يحل المساء، وما زالت مواكب العائدين نحو بعلبك وبلداتها ناشطة على الطريق العام من زحلة نحو مدينة الشمس، ومع كل منعطف يتفرّع نحو بلدة هنا وقرية هناك في القضاء يخفّ الازدحام السيّار. من نوافذ السيارات عينها يطل الركاب برؤوسهم يتأملون الأبنية والبيوت التي كانوا يعبرون بها في ذهابهم وإيابهم. نَقص رفاق دربهم الذين طالما ألفوهم في ترحالهم اليوم، على يسار الطريق كما على يمينه ترك العدوان الركام شاهدًا على إجرامه، ومعه الكثير من الحزن.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.