في نوفمبر 2023، صدر حكمٌ غيابي بسجن كاتب محكمة لمدة عشرين عامًا مع النفاذ العاجل بعد إدانته من أجل تدليس حكم قضائي، وفي ذات الشهر أُثير التتبّع ضد عونين بالمحكمة الابتدائية بسوسة من أجل ارتكاب جريمة الارتشاء. قبل ذلك، في جوان 2023، صدر حكم بسجن كاتبة بمحكمة ناحية بن عروس بعد إدانتها من أجل تدليس شهادة الجنسية. هذه عيّنة لقضايا تعلّقت بارتكاب موظفين/كتبة بمحاكم تونس لجرائم تتعلق بوظيفهم كالتدليس والارتشاء، بما يشي بتفشي ظاهرة الفساد الإداري بالمحاكم، والمفترض أنها مكان محاسبة المخالفين للقانون وليس ممارسته. وهذه القضايا قد لا تمثل إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد لواقع مسكوت عنه إلى حدّ ما، يعكس مرضًا عليلًا في منظومة العدالة برمتها. فالفساد الذي يظهر في إحدى حلقات السلسلة، مرتبط بالضرورة بحلقات أخرى. لكنّ السلطة الحاكمة المشيطنة لمنظومة العدالة والساعية إلى إخضاعها تماما لرغباتها لا تهتمّ بإصلاح جدّي لهذا المرفق بناء على تشخيص عميق وتشاركيّ لعلله، بقدر سعيه إلى تطويعه خدمة لمآربه.
ممارسات يومية ومتعددة لـ”الفساد الصغير”
يمثّل مناخ عمل المحاكم خاصة في تونس العاصمة، من اكتظاظ شديد وبطء في المعاملات الإدارية، بيئة مثالية لانتشار “الفساد الصغير”: إرشاء وارتشاء على وجه الخصوص للقيام بالمطلوب أو لتسريع تنفيذه. في المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة، تكتظ الطوابير يوميّا في مصلحة الأحكام وفي أقسام التنفيذ خصوصًا في مادة الشيكات وغيرها من المصالح. مبلغ ماليّ بسيط بمبادرة من طالب الخدمة أو بإشارة من موظف المحكمة، قد يفي بالغرض أحيانًا لتيسير المطلوب. تحوّلت أروقة المحاكم بذلك إلى ساحة لانتشار “الفساد الصغير” في تونس.
تراجع القدرة الشرائية للموظفين استتباعًا لتدهور الوضع الاجتماعي العامّ ييسّر استفحال دائرة انتشار طلب الرشاوى والعمولات في القطاع العام. وقد أظهرت دراسة تحليلية أنّ 19% من التونسيين دفعوا رشاوى بما قيمته 570 مليون دينار[1]. بل أصبحت الرشاوى، واقعًا، بمثابة مصدر دخل قارّ لعدد من موظفي المحاكم. يجد هؤلاء أنفسهم مع كتبة المحامين، الحلقة الأضعف في الأجور أمام القضاة والمحامين، بما يحفّز شعور الحاجة الذاتية، لدى البعض منهم، لتأمين دخل إضافي ولو بطريقة غير شرعية. الصورة تظهر كما يلي للبعض: أتعاب محامٍ في قضية لدى محكمة ابتدائية قد تساوي راتب شهر عمل لكاتب محكمة. تمثّل بذلك الفوارق في المداخيل للمتدخلين في بيئة عمل مشتركة حافزًا لدى الأقل دخلًا لتقليص فارق المداخيل، فيما قد يفسّر جزئيا استفحال الظاهرة من دون أن يعني ذلك تبريرا لها ولا تعميمها على كامل السلك.
من جانب آخر، يؤدّي غياب دليل إجراءات دقيق ومفصّل حول بعض المعاملات الإدارية في المحاكم إلى اتّساع السلطة التقديرية للموظفين وهو ما يجعل طالب الخدمة أحيانًا تحت رحمة اجتهادهم. تتعلّق الصورة مثلًا بالوثائق المطلوبة لمعاملةٍ ما، أو مدى توفر شروط لاستحقاق ورقة ما، التي تحفّز ضبابيتها على انتشار العمولات مقابل القيام بالمطلوب باعتباره بمثابة أداء “معروف” وليس خدمة مضمون توفيرها.
من “ترقيد” للملفات إلى إعدامها: صور أخرى للفساد
يبقى أنّ أخطر صور الفساد المنتشر في المحاكم لا تتعلّق بتسريع الحصول على خدمة، بل تحريف السير الطبيعي للإجراءات، سواء في المادة الجزائية أو المدنية، بغاية الحصول على فائدة بغير وسيلة قانونية.
تنتشر مثل هذه الممارسات في المادة الجزائية، عبر ارتكاب موظفين لأفعال تسمح بإفلات المحكوم ضده من العقاب، كالتقاعس أو عدم القيام مطلقًا بما يلزم لطلب إدراجه في التفتيش. كما ينتشر ما يُصطلح على تسميته “ترقيد” الملفات، والمقصود تعطيل مسارها الطبيعي ومنع إنتاج آثارها، والذي قد يبتدئ بـ”ترقيد” الشكايات الذي قد يطول لأشهر طويلة، من دون سبب جدّي، في رفوف المحكمة أو لاحقًا لدى جهة البحث الأوليّ (الشرطة أو الحرس). ولكن الصورة الأخطر هي “ترقيد” القضايا وبالأخصّ قضايا الشيك من دون رصيد، كأن لا تقوم الكتابة بما يلزم لتعيين الجلسات. والصورة المخالفة هو “تسريع” ذلك، لفائدة المستفيد من الشيكات، على خلاف المسار الطبيعي لدورية التعيين.
ومن أخطر الممارسات الفاسدة، في هذا الجانب، إعدام ملفّات قضايا برمّتها من كتابة المحكمة بما يحول دون نظر الهيئة القضائية ويؤدّي إلى عدم محاكمة المتهم. على سبيل المثال، توجدُ قضية من هذا النوع تعود أطوارها لبداية عام 2022 تعلّقت بكاتب في المحكمة الابتدائية بمنوبة. إذ تفطّن زميله وهو كاتب الدائرة الجناحية المخصّصة للنظر في قضايا الشيك دون رصيد لاختفاء ثلاث قضايا تعود لمتهم وحيد من المنظومة الإعلامية مع اختفاء الملف الورقي لقضية رابعة ليحرّر تقريرًا للغرض لرئيس الدائرة ومنه لرئيس المحكمة، لتأذن النيابة العمومية لاحقًا بفتح بحث تحقيقي. وقد أنتجت الأبحاث اعتراف أحد الكتبة بأنّ متهمًا من أجل إصدار صكوك دون رصيد اتصل به طالبا مساعدته في تأخير القضايا المتعلقة به مقابل مبلغ مالي قدره ثلاثون ألف دينار. وقد تولى الكاتب انتهاز غياب زميله في الدائرة الجناحية عن العمل ليقوم بإخراج 38 ملف قضية، سواء التي تم تعيين تاريخ لجلساتها أو لا، من مقر المحكمة، وهو ما أثبتته كاميرات المراقبة، لينقلها إلى منزل جاره. بدوره، أقرّ المتهم في جميع ملفات القضايا “المختفية” بأنه تولّى فعلًا طلب مساعدة الكاتب لتأخير القضايا ريثما يتولى تسوية وضعيته المالية نافيًا في المقابل وعده بدفع أيّ رشى. وبرّر الكاتب فعلته بمعاناته من مصاعب مادية ووجود خلافات مع والده الذي طرده من المنزل. وقد وجّه قلم التحقيق، بعد إتمام الأبحاث، تهم السرقة المجردة والنفاذ غير المشروع إلى نظام البرمجيات والبيانات المعلوماتية الناتج عنه إفساد وتدمير البيانات الموجودة بنظام الكمبيوتر والارتشاء من موظف عمومي للامتناع عن فعل من علائق وظيفته ضد الكاتب، وتهمتي المشاركة في السرقة المجردة وإرشاء موظف عمومي ضد المستفيد من إخفاء ملفات قضاياه إضافة لتهمة المشاركة في السرقة لجار الكاتب الذي وُجدت ملفات القضايا بمنزله. وتكشف هذه القضية العناصر المساعدة لارتكاب الجريمة: هشاشة مادية واجتماعية للموظف العمومي، وضعف الرقابة الآنية لمتابعة الإخلالات في العمل الإداري بالمحاكم.
وليس مثل هذه الممارسات أقل انتشارًا في القضايا المدنية، خصوصًا التي تتضمّن رهانًا على مبالغ مالية ضخمة. ومن هذه الممارسات إخفاء ملفات القضايا أيضًا، كأن يتمّ تعطيل نقل الملفات المستأنفة إلى محاكم الاستئناف لتظلّ القضية الاستئنافية تنتظر “إضافة الملف الأصلي” لسنوات أحيانًا، بما قد يضطر المستأنف لطلب إعادة تكوين ملف القضية من جديد. تغييب الملف يقف أحيانًا وراءه فاعل وليس نتيجة بطء العمل الإداري. كما تنتشر أيضًا حالة سحب أصول المؤيدات من الملفات للإضرار بمصالح الطرف الخصم في القضية. سحب قد لا يظهر أيضًا إلا نتيجة فوضى العمل وليس بقصد مبيّت.
محامون وقضاة وأمنيون ومتقاضون: شركاء في الجريمة
لا يمكن الحديث عن ارتكاب جرائم الفساد الإداري داخل المحاكم بالاكتفاء بموظفي المحاكم. فلهم شركاء في مقدّمتهم المواطنين المعنيين بالمعاملات ذات الصبغة القضائية-الإدارية، الذين لا يتردّدون في المبادرة بالرشوة للقيام بالمطلوب لفائدتهم.
هناك أيضًا محامون مساهمون بشكل مباشر في جرائم الفساد. تتعلّق الصورة أساسًا بدفع رشاوى لأصدقائهم من الكتبة لتيسير معاملاتهم اليومية، والتخلص من شقاء الانتظار لوقت طويل للحصول على الخدمة المطلوبة. فما قد يستلزم انتظار يومين أو أكثر، يمكن القيام به بصفة فورية بمجرّد عمولة للكاتب. ومن صور “الفساد الصغير”، الذي تتداوله حلقات المحامين، دفع عمولات لكاتب الدائرة أو للحاجب لـ”تقديم” الملف في قضايا السراح في المادة الجنحية. فالجلسة قد تضمّ عشرات الملفات التي تستلزم الانتظار لساعة متأخرة للمساء للمناداة على الملف المنتظر، ولكن يختزل البعض الطريق بتقديم ملفهم، عن طريق الكاتب أو الحاجب، من دون احترام الترتيب التصاعدي لأعدادها. ويبرّر محامون لجوءهم لهكذا ممارسات، سواء مقابل عمولة أو بفعل محاباة موظف المحكمة لهم، بضرورة عدم تعطيل مصالحهم ومصالح حرفائهم، وأن المناخ السيء لعمل المحاكم يحرّضهم على “التطبيع” مع واقع الفساد المستشري.
وتوجد صورة أخرى للفساد في المحاكم وهو انتشار شبكات مصالح بين محامين سماسرة وكتبة يستغلون وظيفتهم لجلب حرفاء لهؤلاء المحامين بطريقة غير مشروعة مقابل عمولة أو في إطار منافع متبادلة. وهو الأمر الذي يمتدّ للأمنيين بالمحاكم، الذين يقوم بعضهم، بدورهم، بتقديم خدمات بسيطة مقابل عمولة بسيطة قد لا تتجاوز عشرة دنانير.
ولا تُرفع المسؤولية عن القضاة سواء السامين المسؤولين على إدارة المحاكم أو غيرهم من القضاة المباشرين. إذ لا تغيب حقيقة انتشار ظاهرة الرشاوى تحديدًا في محاكم تونس العاصمة، على وجه الخصوص، على رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية، ولكن لا يظهر الحرص الجدّي على مواجهة هذه الظاهرة باعتبار صعوبة تتبّعها فضلا عما تعنيه من مواجهة مع مجموعات داخل الإطار الإداري قد تسبب تعطيلًا في العمل اليومي للمحاكم. في هذا الجانب، عبّر رئيس كتبة إحدى المحاكم الابتدائية بتونس العاصمة للمفكّرة عن امتعاضه من سلوك بعض الكتبة على مستوى الحضور والانضباط. نفس الملاحظة يسوقها بعض القضاة في أحاديثهم الجانبية. إذ توجد قناعة عن حقيقة تقلص نفوذ القضاة السامين بالتوازي مع تصاعد قطاعوية في السلك الإداري تنتهي إلى نوع من الحمائية. أمر يحول دون ضمان الرقابة الناجعة للقضاة السامين على أعمال الإداريين.
واقع يبدو أنه دفع نحو مراجعة ترتيبيّة في اتجاه التنصيص على ممارسة كتابات المحاكم مهامها تحت سلطة رئيس كتابة المحكمة ومسؤوليته وتحت رقابة رئيس المحكمة ورئيس النيابة العمومية كلّ فيما يخصه[2]. كما أضيف دور استشاري لرؤساء المحاكم في التسمية في خطط وظيفية والإعفاء منها مع توليهم سلطة الاقتراح في التسمية والإعفاء في خطط أخرى. توجّه يبدو ظاهرًا أنه يستهدف إعادة “هيبة القضاة” على الإداريين داخل المحاكم، ولكنّه تزامن مع إخضاع القضاء لهمينة السلطة التنفيذيّة ونسف استقلاليّته وصناعة الهشاشة داخله.
أي حلول؟
يمثّل انتشار الفساد داخل المحاكم نتيجة حتمية لمحدوديّة الرقمنة في مرفق العدالة، والتي لا يخفي البعض أن جهات داخل الإدارة تعطّل مسار إرسائها بغاية الإبقاء على دور للتدخل البشري يسمح باستمرار واقع الممارسات الفاسدة. إذ يسهّل استعمال الوسائل الورقية واعتبارها هي المرجع ارتكاب جرائم الفساد في المحاكم والتغطية عليها، على خلاف المنظومة الرقمية التي يمكن في صورة تطويرها وتعميمها أن تضمن سهولة مراقبة الملف وضبط التحيينات عليه والقائم بها وتاريخها.
والخدمات الرقمية يجب أن يمتدّ مجالها لتشمل بالخصوص تقديم مطالب الاستئناف والاعتراض إضافة إلى تقييد القضايا، وكذلك الحصول على النسخ التنفيذية للأحكام، وذلك عبر شبكة تقوم على معرفّات رقمية محدّدة للكتبة والمحامين على وجه الخصوص. كما يمكن إرساء آليات تحول دون تكوين شبكات فساد وزبونية كالتغيير الدوري لمراكز عمل الكتبة في المحاكم.
والمسؤولية ملقاة أيضًا على هياكل القضاة والمحامين، على الأقل، في مستوى رصد التجاوزات واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. ولا ريب، أيضًا، أن تنظيم جلسات عمل دورية تجمع رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية وممثلي فروع المحامين ورؤساء الكتبة، تشمل تسجيل الإخلالات والعمل على سدّها، قد تساهم في سدّ منافذ ممارسة الفساد فضلا عن تحسين ظروف العمل اليومي بالمحاكم. ويظلّ، إجمالًا، تطوير العمل الإداري برمّته ضرورة حيوية لتحسين مناخ العمل في المحاكم بما يقلّص عوامل انتشار الفساد.
تعديل التشريع بدوره قد يسهم في تقليص مجال الفساد، ومن ذلك تحديد آجال قصوى للبت في الشكايات أو النظر في القضايا، بما يقلّص الحاجة للجوء لطريقة إعدام الملفات أو “ترقيدها” بغية منع إنتاج الآثار القانونية في الزمن. أيضًا، وضع أدلّة إجراءات شاملة ودقيقة ومفصّلة للخدمات بالمحاكم، تكون هي المرجع في جميع المحاكم ويُواجه بها الكافّة، من شأنه أن يُساهم بدوره في فرض الشفافية والعلم المسبق لجميع المتدخلين بما يقلّص ما يظهر اجتهادًا بشريًا وهو ليس أحيانًا إلا فرصة للفساد.
بالنهاية، تعدّ الممارسات الفاسدة في منظومة العدالة جبل الجليد الذي يحفّز الفساد القضائي. هي ممارسات أنتجت اليوم حالة من التطبيع معها لدى المتعاملين مع المرفق القضائي، بما أسهم واقعًا في مزيد انتشارها وقوّض مساريْ تحقيق العدالة من جهة والمساواة بين المتقاضين من جهة أخرى.
[1] دراسة تحليلية حول الفساد الصغير في تونس أنجزتها الجمعية التونسية للمراقبين العموميين منشورة في فيفري 2022.
[2] أمر رئاسي عدد 44 لسنة 2022 مؤرّخ في 18 جانفي 2022 يتعلّق بتنقيح وإتمام الأمر الحكومي عدد 420 لسنة 2018 المؤرخ في 7 ماي 2018 المتعلق بتنظيم كتابات المحاكم من الصنف العدلي وضبط شروط إسناد الخطط الوظيفية الخاصّة بها والإعفاء منها