بعد مكبّ سرار، مكبّ الجديدة ينفجر: استنفار لمعالجة الانفجار يقابله تخاذلٌ في معالجة مسبّباته


2024-09-13    |   

بعد مكبّ سرار، مكبّ الجديدة ينفجر: استنفار لمعالجة الانفجار يقابله تخاذلٌ في معالجة مسبّباته
صورة متداولة للحريق عبر وسائل التواصل الاجتماعي

عاش سكان منطقة ساحل المتن الشمالي ومعهم جزء من بيروت ليلة رعب حقيقي على وقع احتراق مكب النفايات العشوائي في الجديدة والذي لا يفصله سوى سنسول صغير عن مكب برج حمود. لم يتأتَّ الرعب من نقل العشرات من حالات اختناق الأطفال والمرضى والمسنّين إلى طوارئ المستشفيات نتيجة الأدخنة السوداء التي غطّت المنطقة، وإنما خوفًا من تمدّد النيران ووصولها إلى خزانات الوقود من مازوت وبنزين وغاز التي تخزّن عشرات آلاف الأطنان من المشتقات النفطية، والعائدة لكبرى شركات النفط في لبنان. وفيما ترك العديد من السكان المنطقة هربًا من ألسنة النار التي غطت المكب حيث لا يقل ارتفاعه عن خمسين مترا من النفايات المرميّة عشوائيا، لم يجرؤ آخرون حتى على مغادرة منازلهم القريبة من المكبيّن. استعاد هؤلاء حادثة انفجار أحد خزانات الغاز في 1989 والذي تسبب بسقوط أكثر من 100 جريح ودمار كبير في المنطقة وقطع خطوط التوتر العالي إثر ارتطام غطاء الخزان عند انفلاته، نتيجة الانفجار، بها.  

ويعتبر مكب الجديدة – برج حمود واحدا  من نحو 1000 مكب عشوائي لمختلف أنواع النفايات العضوية والطبية والصناعية وبعضها كيميائي، ترمى من دون أيّ رقابة فعلية على ساحل البحر في لبنان وعلى قمم الجبال وفي الأودية وعلى ضفاف 17 نهرا تحولت إلى مجارير لمياه الصرف الصحي المسلطة عليها وإلى النفايات الصلبة في البلاد. يحصل هذا بينما صرفت الدولة اللبنانية مئات ملايين الدولارات اللبنانية سواء هبات أو قروضًا من ضمن أكلاف إنشاء مطامر صحية تحولت إلى كوارث، ومعها معامل الفرز، وذلك لمعالجة مشكلة النفايات والمكبات في لبنان على مدار أكثر من ربع قرن، والنتيجة صفر معالجة، ومئات القنابل الموقوتة، وليس احتراق مكب الجديدة-برج حمود أمس سوى انفجار إحداها.

ومع استنفار وزارات حكومة تصريف الأعمال من داخلية وبيئة، المعنيتين الرئيسيتين بملف النفايات، وإسراع رئيس لجنة البيئة النيابية النائب غياث يزبك إلى عقد جلسة طارئة للجنة بخصوص مكب الجديدة، يفرض سؤال نفسه: لماذا لا يحصل الاستنفار قبل وقوع الكوارث لتجنبها وتفكيك أسبابها؟ وألّم يحن الأوان بعد، وبعد 34 سنة على اتفاق الطائف لحل مشكلة النفايات؟ وتفكيك القنابل الموقوتة المتمركزة بين الناس، مدمرة صحتهم والموارد الطبيعية وعلى رأسها الأنهار. 

قرارات لجنة البيئة النيابية اثر جلستها الطارئة بخصوص احتراق مكب الجديدة

وفي هذا الإطار، يؤكد النائب الياس حنكش (حزب الكتائب) أن جميع القوى السياسية اتفقت في 2016 على إنشاء مكب الجديدة لمدة 4 سنوات فقط وبمعايير فرز وطمر صحية، ولكن أياً من هذا الكلام لم يجد طريقه إلى التنفيذ حتى وصلنا إلى سلسلة جبال من النفايات في الجديدة المتصلة بمكب برج حمود، بارتفاع أكثر من 42 مترًا. واعتبر حنكش أن القضاء نفسه “أهمل دعوى قضائية تقدمنا بها ضد إقامة المكب، ولذا نحن اليوم نطالب بلجنة تقصي حقائق في كل موضوع النفايات وفي ما حصل في مكب الجديدة”. وأشار إلى أن مجلس الإنماء والإعمار أكد في اجتماع لجنة البيئة النيابية اليوم أن سعة مكب الجديدة تسمح برمي النفايات فيه لمدة سنتين إضافيتين. ويضع حنكش كامل المسؤولية على الحكومة ومجلس الإنماء والإعمار “عليهم أن يطبقوا إدارة النفايات على أساس الفرز من المصدر بدل هدر كل هذه الأموال، حيث تبلغ كلفة معالجة الطن في لبنان ثلاثة أضعاف الكلفة نفسها في ألمانيا الرائدة في المجال، ومع ذلك وصلنا إلى المكبات العشوائية التي تنفجر بالناس”.      

ويأتي استنفار وزارات الدولة وأجهزتها أمس كون مكب الجديدة يرابض على بعد مئات الأمتار من المدخل الشمالي للعاصمة، كما أن ألسنة النار التي ارتفعت في السماء ومعها الأدخنة السوداء التي غطت ساحل المتن وصولا إلى مرفأ بيروت، لم تكن مشهدًا يرغب اللبنانيّيون الذين لم يخرجوا بعد من تروما تفجير المرفأ ومآسيه رؤيته، خصوصًا مع التحذيرات التي أطلقها وزير الداخليّة في حكومة تصريف الأعمال القاضي بسام المولوي، من تمدد النيران إلى خزانات الوقود، موعزًا للمديرية العامة للدفاع المدني باستقدام فرق عملها من مختلف المراكز المحيطة بالعاصمة والمتن لتطويق الحريق. ولم يمضِ وقت طويل على الحريق حتى وصل وزير البيئة ناصر ياسين إلى المكان مطالبا بفتح تحقيق بما حصل وأوصل المكب إلى الانفجار، واتصل بمجلس الإنماء والإعمار وألسنة اللهب خلفه، مشددًا على الإسراع بالتحقيق والنتائج.  

ويكفي أن نشير إلى أن التّقييم الأوليّ لأكلاف صيانة المعامل الموجودة والمطامر الصحية، وعددها 15 معملًا فرز و15 مطمرًا صحيا (في المبدأ) يؤشّر إلى حاجة لبنان إلى نحو 100 مليون دولار، وفق ما سبق وأكد وزير البيئة ناصر ياسين للمفكرة. ويتناغم كلام ياسين مع وثيقة حصلت عليها المفكرة، ومصدرها البنك الدوليّ، تؤكّد الحاجة إلى 90 مليون دولار للصيانة وإعادة التشغيل لهذه المعامل والمطامر. ويؤكّد وزير البيئة “أن أكلاف إعادة التأهيل قابلة للارتفاع وقد تلامس عتبة 100 مليون دولار، علماً أنها لا تشمل معالجة المكبات العشوائية الخطرة والمنتشرة حالياً”. وتعتبر أكلاف الصيانة مؤشرًا لحجم القروض والهبات التي دفعت تحت شعار خطة مستدامة لإدارة النفايات من دون أي نتائج فعلية على الأرض. 

ووفق ما يؤكده الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح للمفكرة أن المكبات العشوائية في كل لبنان ليست سوى قنابل موقوتة موزعة بين الناس من دون أيّ مراقبة، وهي معرّضة للحرائق، سواء افتُعلت هذه الحرائق أم اشتعلت تلقائيًا. وهذا الاحتراق التلقائي يمكن أن يحدث كلّ عشرة أيام نتيجة اختلاط كافة أنواع النفايات خلال الرمي العشوائي. ويشير د. قديح إلى أنّ النفايات العضوية تشكل 60% من مجمل النفايات في لبنان، ويؤدي تراكمها حتى على ارتفاع مترين أو عشرة أمتار أو عشرات الأمتار إلى التفكك اللاهوائي للنفايات العضوية وتخمرها، وهو ما يولّد غاز الميثان، وهو غاز يكوّن،  تحت ضغط ثقل النفايات، مئات الغرف الصغيرة ليتراكم فيها. ومع تسرّب الهواء من خارج هذه الغرف، وإنْ بنسبة 10 إلى 15% ليختلط مع الميثان يتشّكل خليط متفجّر، وتصبح الحرائق تلقائية ويشتعل وينبعث منه دخان، وهو، أي الحريق، محاط من حوله بمواد قابلة للاشتعال.  

ويحتوي دخان حرائق المكبّات العشوائية على كل أنواع الملوّثات الخطرة على الصحة من غازات ونفايات مختلطة رُميت عشوائيًا، ممّا ينتج آلاف الأنواع من الغازات. كما تتكوّن جزئيّات صلبة تحمل موادّ خطرة وسمّية وعالية الضرر على الصحة البشرية، مما يجعلها كوارث مستمرّة. وتسبّب هذه الغازات الناتجة عن حرائق المكبات العشوائية، وفق د. قديح، أمراضًا كالسرطان وأمراض القلب وضغط الدم المرتفع وأمراض الجهاز التنفسيّ، وتخفّض مناعة جسم الإنسان وتنشر كل أنواع المخاطر والأمراض المميتة، وكلّها بسبب الخلطة العجيبة من الغازات السامة الناتجة عن احتراق النفايات: “يعني كأننا أمام مصانع خطرة أكثر من النفايات الكيميائية، إذ أنّنا نرمي في سلّة النفايات البطاريات وعلب الدواء ونفايات المصانع ومزارع الدواجن والملاحم وفرش الإسفنج التي تحوي مادة Polyurethane التي تنتج الديوكسين عند احتراقها، وهو غاز من أخطر المواد السامة على جسم الإنسان والتعرّض لنسب بسيطة منها تشكّل خطرًا كبيرًا للإصابة بأمراض السرطانات كافة”.

سرعة في إطفاء الحريق وتقاعس أبدي في إيجاد حلول مستدامة 

واستجابة لحاجات التمويل الذي يفترض أن يشترك فيه اتحاد البلديات، وضمن استراتيجية إدارة النفايات الصلبة، يأتي مشروع قانون تعديل المادة 28 من القانون 80/2018 الخاصّ بالإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، لناحية فرض رسوم خدمة النفايات على المؤسسات الصناعية والإدارات العامّة ودور العبادة والسفارات وغيرها، وفق درجة اشتراكها في التلوث وانطلاقا من مبدأ الملوّث يدفع، وهو المبدأ المُقرّ أساسًا في القانون 80/2018 وكذلك في القانون 444/2002، حماية البيئة. ويهدف تعديل هذه المادة، وفق ما أكده وزير البيئة للمفكرة، إلى تأمين التمويل اللازم لاستمرارية الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة وخصوصا عمل معامل الفرز والمعالجة، ومعها جمع البلديات للنفايات وتشغيل المطامر الصحية، وهي منشآت كلفت مئات ملايين الدولارات. 

وفي هذا الإطار، أكّد رئيس لجنة البيئة النيابية النائب غياث يزبك يومها وجود “اعتراضات من قبل العديد من النواب والكتّل من وجهة نظر قانونية بالدرجة الأولى”.  

وقد علمت المفكرة أن معوقات تعديل المادة 28 من القانون 80/2018 تعيد الأمور إلى نقطة الصفر حيث يتم رد تمويل إدارة النفايات إلى عائدات البلديات من الصندوق البلدي المستقل والتي لا تكفي بعض البلديات لدفع رواتب موظفيها، وبالتالي عود على بدء فشل إدارة النفايات سواء مع استراتيجية جديدة أو من دونها، وبكلمة أخرى العودة إلى نظام سوكلين والاستيلاء على موارد البلديات، مع حرمانها من أي موارد جديدة ومن القيام بمهامها التنموية، والأهمّ حرمان اللبنانيين ككلّ من إمكانية التمتع بنظام إدارة نفايات ضامن لبيئتهم وصحتهم وسلامتهم. وبكلمة أخرى، يخشى أن يكون صرف النظر عن ضمان موارد لمعالجة النفايات إنما يؤدي عمليا إلى زرع قنابل موقوتة على طول لبنان وعرضه. 

انفجار مكب جديدة في أعين أهالي سرار

وعلى وقع استنفار أجهزة الدولة من وزير الداخلية إلى وزير البيئة إلى محافظيّ جبل لبنان وبيروت ومعهم الدفاع المدني وفوج الإطفاء في بيروت، اشتعلت صفحات التواصل الاجتماعي ومجموعات “الواتس آب” العكارية بمنشورات تقارن مع طريقة تعاطي أجهزة الدولة مع حريق مكب سرار في عكار بحرقة كبيرة وإحساس عميق بالتخلي والمظلومية. إذ ما زال مكب سرار يشتعل كل يوم منذ 23 حزيران الماضي، أي 80 يومًا ولغاية اليوم، من دون إجراء أي تحقيقات جديّة تحدد المسؤوليات عن الحريق المستمر، ومن دون تنفيذ أيّ من الوعود التي أُطلقت لحلّ مشكلة  أكثر من عشر بلدات تحيط بالمكبّ مباشرة ويعيش أهلها على أبخرة الأدخنة السوداء والبيضاء منذ ذلك الحين.

واختصر منسّق لجنة المتابعة لملف مكب سرار عماد صقر الواقع بالقول “نحن نشدّ على أيادي سكان ساحل المتن والمنطقة المحيطة لأننا نعرف شعورهم والمخاطر التي تتهدّدهم، ونتمنى حلّ مشكلة المكبات في منطقتهم، ونتمنى للمرضى من بينهم الشفاء، لأننا نشاركهم المعاناة نفسها منذ أكثر من 20 عاماً حيث يشتعل مكب سرار ليقتلنا ويمرضنا بروائحه وأدخنته وعصارته التي لوثت كل مجاري المياه والينابيع وآبارنا الجوفية”. ويضيف صقر: “لكن مشكلتنا هي مع السلطة وأجهزتها التي تتعامل معنا وكأننا مواطنون درجة عاشرة أو كأن محافظة عكار غير مدرجة على خريطة لبنان فمكبّ سرار ما زال يسمّمنا ويمرّض أطفالنا وعائلاتنا منذ 23 حزيران الماضي”، متوجهًا إلى أهالي عكار بالقول “أرأيتم كيف يتم التعامل في وطني لبنان معنا كعكاريين وكأننا غير تابعين للدولة اللبنانية، فلدى هذه السلطة ناس بسمنة وناس بزيت أو كأننا من كوكب تاني”.

ويأسف صقر لأن أهالي عكار وخصوصا سكان بلدات محيط مكب سرار لم يروا أي مسؤول من الدولة في محنتهم، وأن أمين عام الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير تفقد المنطقة وتنشق أدخنة المكب وسمومه، بعد 14 يوما على اندلاع الحريق في المكب، ومع ذلك لم تصل آليات الهيئة إلا بعد أكثر من شهر على استمرار اشتعال المكب. ومنذ ذلك اليوم لم نرَ أي جهة تعمل على وقف الحرائق المتتابعة بشكل شبه يومي في المكب. “لم نر وزير بيئة ولا وزير داخلية ولا أي مسؤول غير اللواء الخير “متأخرًا” ، كما أننا لم نحصل على ليرة واحدة تعويضا عن خسائرنا الكبيرة من الهيئة”، يؤكد صقر. يقول صقر ذلك قبلما يردف متنهدا: “يا ريتنا قاعدين ببيروت أو بجبل لبنان، كانوا طفّولنا هالمكبّ (مكب سرار) الوالع من 80 يوم، ونحن عايشين بالأمراض وما منقدر نتنفّس ببيوتنا أو نفتح شبابيكها”.

الدخان المتصاعد من حريق مكب سرار في شهر تموز الماض

ويذكّر منسق لجنة متابعة ملف مكب سرار بأن عناصر الدفاع المدني في عكّار ساعدوا أهالي بلدة القشلق عند اندلاع حريق مكب سرار في 23 حزيران، ليحولوا “مشكورين” دون تمدّد النيران إلى منازل أهلها، بعدما التهمت مساحات كبيرة من بيادر سنابل القمح وأراضي رعي المواشي وخنقت أدخنتها آلاف الطيور في مزارع الدواجن. ولكن كان على أهالي المنطقة أن يتحملوا الأدخنة السوداء لمدة أكثر من ثلاثين يوما، وبعدما هدد أهالي المنطقة بقطع الطرقات، فاستقدمت الهيئة العليا للإغاثة ثلاث آليات ونثرت الأتربة فوق الحريق وطلبت توقيع شركة الأمانة العربية مالكة ومشغلة المكب بأنها استلمت المكبّ بعد إخماد الحريق. ومنذ ذلك الحين يعاود مكب سرار الإشتعال “كل يومين تلاتة، ولا أحد يسأل”. حتى توصيات لجنة البيئة النيابية التي شارك وفد من الأهالي في إحدى جلساتها التي خٌصصت لبحث ملف مكب سرار “بقيت حكي بحكي”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، البرلمان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني