بعدما عانوا الأمرّين للخروج من أوكرانيا هرباً من الحرب الروسية، يجد مئات الطلاب اللبنانيين أنفسهم أمام معضلة جديدة تتمثل في كيفية مواصلة دراستهم وعدم خسارة مستقبلهم الأكاديمي وسنوات دراستهم التي كان دونها الكثير من العوائق لا سيّما القيود التي فرضتها المصارف على التحويلات إلى الخارج. فلا استيعاب هؤلاء في الجامعة اللبنانية التي أُقفلت مؤخراً قسرياً وتعاني أساساً من أزمات متراكمة ممكن، ولا التعلم في الجامعات الخاصة متاح نظراً إلى عدم قدرتهم أو قدرة أهاليهم المادية على تحمّل أقساطها المرتفعة. دفعت الحال هذه بأكثر من 80% من هؤلاء الطلاب إلى محاولة البقاء في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا ورومانيا وبولندا وغيرها، حيث يتم رفض بعضهم، فيما يعيش البعض الآخر في مخيّمات لجوء في ظروف قاسية، لكنهم يفضلونها على خيار العودة إلى لبنان في ظلّ الانهيار الحالي، وانسداد الأفق الأكاديمي حيث جامعة الفقراء والوطن مأزومة.
كلّ هذا وتبدو الجهود الرسمية لاستقبالهم وتسهيل أمورهم خجولة وبطيئة، حيث كانوا بانتظار استحداث المنصة الإلكترونية الخاصّة بجمع بياناتهم، والتي وعدهم بها وزير التربية عباس الحلبي الأسبوع الماضي إلّا أنّها لم تبصر النور لغاية اليوم. مع العلم أنّ معظم الدول العربية مثل مصر والأردن والمغرب وغيرها، بدأت بتسجيل طلّابها العائدين من أوكرانيا على منصّاتها الرسمية، باستثناء لبنان. وكان مستشار وزير التربية لشؤون التعليم العالي الدكتور نادر حديفة قد أكد لـ “المفكرة القانونية” أنّه كان “سيتمّ إطلاق المنصّة في لبنان الاثنين (الماضي)، بهدف حصر أعداد الطلاب وتخصّصاتهم ومستويات دراستهم، تمهيداً لايجاد سبل متابعة تحصيلهم العلمي”. وأشار حديفة إلى أنّ هذا التدبير جاء بعد اجتماع عقده الوزير الحلبي مع مجلس التعليم العالي الأسبوع الفائت.
القلق ينتاب الطلّاب على مستقبلهم
تنتظر غادة العسراوي، طالبة طب في السنة الثالثة، المنصة لتملأ بياناتها الأكاديمية، وهي تشعر بالقلق من إمكانية خسارة سنوات دراستها، فهي بحسب ما تقول لـ “المفكرة” لم تتمكّن من الاستحصال على الأوراق اللازمة من جامعتها في أوكرانيا. وتوضح: “قبل هروبي من منطقة خاركوف حاولت الاتصال بالسفارة اللبنانية هناك للتواصل مع جامعتي والطلب من إدارتها تزويدي بأوراقي إلّا أنّ الموظف أجابني بأنه لا علاقة للسفارة بهذا الأمر وعليّ أن أتدبر الأمر لوحدي”.
القلق نفسه ينتاب الطالب علي صدقة فهو طالب طب في سنته الثالثة، كان قد وصل إلى لبنان قبل 3 ساعات من بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا. يوجّه اللوم إلى السلطة اللبنانية: “عانينا الكثير كطلّاب في أوكرانيا، من كورونا ومن دفع الأقساط وعدم تنفيذ قانون الدولار الطالبي من قبل الحكومة اللبنانية والمصارف، ثم قُرعت طبول الحرب، قسمٌ منا استطاع الخروج والقسم الأكبر علق ولم يستطع المغادرة إلّا تحت القصف والحرب. عانينا من انقطاع الكهرباء والإنترنت والتدفئة وتوقفت الحوالات المالية، ونفذت المبالغ في حوزتنا إثر إقفال المصارف وشركات تحويل الأموال في أوكرانيا، كما أقفلت المحال التجارية والغذائية أبوابها، ولم يكن هناك أي تنسيق بين الدولة اللبنانية والسفارة لفتح ممرات إنسانية”.
يستعيد علي مشهد مغادرته أوكرانيا: “كان موعد إقلاع طائرتي في 23 شباط الساعة الرابعة والثلث، والحرب بدأت في 24 شباط، ساعة وصول طائرتي إلى بيروت. 28 ساعة ونصف قضيتها في القطار من خاركوف إلى لفيف، كان الأمر متعباً وصعباً للغاية”. قررعلي مغادرة أوكرانيا في 21 شباط، بعد إلحاح من أهله، لدى سماعهم خبر الحشد العسكري للقوات الروسية المسلحة في منطقة دوبنلس في شرق أوكرانيا في ذلك الوقت.
لا يزال علي يتابع عبر غروبات مواقع التواصل الاجتماعي أوضاع زملائه ورفاقه ممّن غادروا أو من كان لا يزال عالقاً، أو من فُقد التواصل معهم: “فقدنا التواصل مع زميلي محمد لـ 5 أيام، كان لا يزال في أوكرانيا وتابعنا الموضوع إلى أن توصّلنا إلى أنّه بخير”. كذلك تحدّث علي عن الطالب أكرم فراشة، الذي لا يزال محاصراً في أوكرانيا، وحاولت “المفكرة” التواصل معه على رقم هاتفه إلّا أنّه لم يرد على الاتصال ولا على الرسائل.
كارثة وشيكة: المطلوب خليّة أزمة
لا أرقام دقيقة عن عدد الطلاب الذين تركوا أوكرانيا حتى الساعة، أو الذين كانوا يتابعون تحصيلهم العلمي فيها قبل الحرب، غير أنه ووفقا لأرقام متداولة فإنّ عددهم يناهز 1100 طالب توجّه حوالي 80 % من بينهم إلى بولندا ورومانيا ومنهما نحو دول أوروبية أخرى بهدف استكمال دراستهم في جامعاتها إذا تمكنوا من ذلك، وليس العودة إلى لبنان. يخاف هؤلاء، كما عبّر بعضهم لـ “المفكرة”، من الانهيار وعدم اهتمام السلطة الرسمية بمستقبلهم ووقوفها متفرجة على ضياع طلابها المقيمين، ان كان من خلال ترك الجامعة اللبنانية لمصيرها مع طلابها وأساتذتها، أو بسبب غياب التأمينات الصحية والاجتماعية، وكذلك من خلال ترك الجامعات الخاصة تفرض دولرة الأقساط التي لم تعد في متناول الطلاب وذويهم.
معظم اللبنانيين، من عائلات وطلاب، ممّن قرروا مغادرة أوكرانيا نجحوا في العبور إلى بولندا ورومانيا، إلّا أنّ ثمة عائلات لا تزال عالقة في مدن تحت نار الحرب مثل كريمنشوك وفرانكوفسك وماريبول وأوديسا وخيرسون وغيرها، ومعظم أفراد هذه العائلات هم من حملة الجنسية الأوكرانية. هؤلاء، وبعد اشتداد الحرب وحصار المدن “يناشدون الدولة اللبنانية ورؤساء الجاليات وجمعيات وناشطين لمساعدتهم في الرحيل”، وفق ما ذكره رئيس الجالية اللبنانية في أوكرانيا الدكتور وليد خضر لـ “المفكرة”.
اعتمدت السفارة اللبنانية في أوكرانيا خضر للتنسيق “قمت بالتنسيق مع السفير لبنان في أوكرانيا علي الضاهر، ومع سفراء لبنان في كل من بولندا ورومانيا وروسيا حتى أجلينا مئات العائلات والطلاب اللبنانيين العالقين في مناطق الحرب في أوكرانيا، وبالتنسيق مع الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة في لبنان اللواء محمد خير”.
الجمعية اللبنانية لأولياء الطلاب في الخارج تتابع من جهتها الطلاب في الداخل وفي أماكن لجوئهم، من خلال مجموعات تواصل على مواقع التواصل الاجتماعي. ساهمت الجمعية ولا تزال في تأمين تواصل الطلاب مع خلية الأزمة والفعاليات التي سهلت انتقالهم وعبور الحدود والعودة الى لبنان، وفق ما يقوله أمين سرها الدكتور ربيع كنج لـ “المفكرة”: “غادر من أوكرانيا نحو ألف طالب وطالبة: 600 في اختصاص الطب والباقون هندسة وصيدلة ومعظمهم لجأ إلى أوروبا. وهناك طلاب في سنواتهم الأخيرة، قسم منهم أصبح في لبنان وقسم آخر فضّل الذهاب إلى دول أوروبية”. ويلفت الدكتور كنج إلى أنّ جميع هؤلاء الطلاب يجدون أنفسهم أمام معضلة استكمال دراستهم وعدم خسارتهم لمستقبلهم .
فبالنسبة للطلاب الموجودين على الأراضي الأوروبية “عدد كبير منهم يحاول متابعة تعليمه في دول اللجوء كرومانيا وبولندا وألمانيا و غيرها”، إلّا أنّ “كلّ ما صدر عن سلطات الاتحاد الأوروبي لا يوحي بهذه الإمكانية”، وفق كنج الذي يضيف “بالرغم من تناقض ما يحكى حول ذلك إلّا أنّ الخطاب الرسمي يرجّح عدم إمكانية استيعاب الطلاب الأجانب وكلّ اللاجئين الذين يحملون إقامات أوكرانية مؤقتة، في أوروبا”.
أما بالنسبة للطلاب الذين وصلوا إلى لبنان، فيرى كنج أنّه “على الرغم من الكلام عن ضرورة استيعابهم في الجامعة الوطنية، فإننا نجد الأمر صعب المنال كي لا نقول مستحيلاً، إذ إنّ قدرة الجامعة على استيعابهم محدودة جداً من الناحية الأكاديمية والعددية، ما يؤدي بنا إلى الاستنتاج بأنّه على الدولة أن تنشئ خلية أزمة لمواجهة نتائج النزوح الطلابي من أوكرانيا، تتولّى تنسيق العمل بين مختلف الوزارات والجمعيات وكل من يستطيع المساهمة في حل هذه القضية لكي لا نجد أنفسنا أمام كارثة جدية ومدمّرة لمستقبل مئات الطلاب والطالبات”.
وقفة في بيروت دعماً للطلّاب
وخوفاً من ضياع سنوات تحصيلهم الجامعي، بادر طلاب من شبكة مدى والناشطة جنى أبي مرشد إلى تنظيم وقفة مطلبية أمام وزارة الخارجية تحت عنوان “إنقاذ الطلاب اللبنانيين في أوكرانيا “الذين إذا لم يموتوا من الحرب سيموتون من الجوع أو من الظلم نتيجة ضياع مستقبلهم” وفق ما قالت أبي مرشد. وتلا المعتصمون نهاية الأسبوع الماضي بيان تحركهم، معتبرين أن “هؤلاء الطلاب والطالبات الذين خرجوا من لبنان بحثاً عن آفاق جديدة وهرباً من الإنفجارات والحروب والنزاعات قُدر عليهم ان يمروا بشيء شبيه اليوم للذي عايشوه في لبنان وهم في أوكرانيا”. وأضافوا في بيانهم “علماً أنّ السلطات اللبنانية لم تهمل فقط الطلاب والطالبات اللبنانيين في أيام السلم مقيمين كانوا في لبنان أم مغتربين، إلاّ أنهم تركوا لمصيرهم في أوكرانيا تحت الحرب ليتدبروا أمورهم بأنفسهم، حتى وصل حال البعض أن يمشي لمدة عشرين ساعة على الأقدام في درجة حرارة تحت الصفر، والبعض الآخر باتت مناطق اقامتهم تحت النفوذ الروسي من دون اي خط تواصل معهم، فيما افترش آخرون الأرض في محطات المترو ولم يقدروا على استعمال أموالهم كون المصارف أقفلت أبوابها هناك”.
وشدد البيان على ضرورة تسوية أوضاع الطلاب والطالبات العائدين وممّن ما زالوا في أوكرانيا وإيجاد أي سبيل لمساعدتهم كأولوية وعودتهم سالمين إلى لبنان وعدم ضياع مستقبلهم.
كما دان المعتصمون سلوك السلطات اللبنانية المعتاد في إهمال اللبنانيين واعتبارهم مجرد أرقام لا قيمة لهم، مؤكدين أنهم سيواجهون “هذا الإهمال ومعه عدم إكتراث لحياة طلابنا وطالباتنا ومستقبلهم”.
أفضّل ألمانيا كلاجئ على أن أعود إلى لبنان
في غرفة من طين في مخيم للاجئين في ألمانيا، كما وصفها، ينتظر فراس الساحلي، الطالب في السنة الأخيرة في اختصاص الهندسة المدنية، قبول طلبه في الإقامة لمدة سنة، ومن ثم تجديدها تلقائياً لمدة قد تصل إلى ثلاث سنوات لاستكمال ما يلزمه للتخرّج الجامعي.
اختار فراس اللجوء إلى برلين كونه يستبعد انتهاء الحرب قريباً وبالتالي استحالة العودة إلى جامعته هناك لإكمال اختصاصه، كما أنّه يعتبر العودة إلى لبنان الخيار الأسوأ: “ليس من السهل أبداً ترك كلّ ما بدأته واللجوء إلى بلد لا أعرفه، ولكن العودة الى لبنان في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة والانهيار هي آخر خياراتي. هنا أنا مستعدّ أن أمحي ما بدأته والانطلاق من جديد، إن كان على صعيد الدراسة أو العمل إن توفر لي”.
خالد عماد السبسي استطاع أخيراً الهروب من جحيم الحرب في أوكرانيا، كما يقول. السبسبي، طالب طب في سنته الثالثة يقول لـ “المفكرة”: “منذ ستة أيام فقط نجحت في مغادرة مدينة ايفانوفرنكست التي تقع جنوب غرب أوكرانيا، ولجأت إلى المانيا، وأنا أقيم حالياً عند ابن عمي”.
كان السبسي عالقاً مع 12 شخصاً في المدينة التي تزداد أوضاعها صعوبة “وصلنا إلى مرحلة لم نستطع فيها تأمين الأكل والمياه. وأثناء رحلة عبورنا تعرّضنا للإهانات، وبقينا على الحدود تجاه معبر بولندا 5 أيام، جعنا وبردنا وتعرضنا للضرب ولم نذق طعم النوم أبداً، كان أوسخ معبر”.
لا يودّ السبسبي التحدث أكثر عن التفاصيل وعمّا إذا كان يخطط لإكمال دراسته، كون المستقبل “ما زال مجهولاً” لكنه أصرّ أن يشكر كلّ الجمعيات التي ساعدته بعد وصوله الى بولندا “الحمدلله الأهم إنّي نجحت في الهروب”.
ليس الطلاب فقط يفضّلون عدم العودة إلى لبنان في الظروف الحالية: “بت لاجئاً في ألمانيا، وأفضّل تمزيق جواز سفري والبقاء هنا على العودة مع عائلتي الى بيروت في هذه الظروف الصعبة من كلّ النواحي”، يختم رئيس الجالية اللبنانية في أوكرانيا الدكتور وليد خضر حديثه مع “المفكرة”.