بعد قرابة عامين على تحقيقات في دول أوروبيّة وتحقيقات في لبنان (جرت عرقلتها) في جرائم تبييض الأموال والاختلاس والتهرب الضريبي والتزوير، ادّعى المحامي العام الاستئنافي في بيروت رجا حاموش في تاريخ 23/2/2023، على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا ومساعدته مريان حويّك (وقد فنّد “ائتلاف استقلال القضاء” محاذير قد تعيق إيجابية هذه الخطوة). وفي 15 آذار، أعلنت هيئة القضايا بصفتها ممثلة عن الدولة اللبنانية عن تقدّمها بدعوى ضدّ سلامة ورفاقه في الجرائم المذكورة، في إشارة واضحة إلى انخراط الهيئة في عملية المحاسبة. وإذ تغيّب سلامة بداية عن حضور جلسة الاستماع لإفادته مدليا بحجج شكلية أهمها أن الادعاء عليه لبنانيا يوجب وقف التعاون الدولى إلى حين الانتهاء من النظر فيه، فإنّ ردّ هذه الحجة واستمرار الدولة اللبنانية في هذا التعاون أضعف الحجة المتصلة بالسيادة. وعليه، برزت سرديّة خطابيّة جديدة للذود عنه وجدت مكانها على شاشات الأخبار في القنوات الكبرى، وقوامها أنّ “سلامة متمكّن” ومجرد مستمع عليه (ليس مدعى عليه) وأنّ “لا دليل على إدانته”.
هذا ما سنحاول إبرازه في هذا المقال.
الحاكم “المتمكن” الذي يملك أجوبة على كل سؤال
ما أن انتهى التحقيق حتّى سادت سرديّة في نشرات الأخبار وعلى المواقع الإلكترونية تتحدّث عن هدوء سلامة أثناء التحقيق وإجاباته الدقيقة. كان ملفتاً على سبيل المثال تغطية مراسلة “الجديد” ووصف الحاكم بالقول أنه “كان براد“، وأنه “كان هادئاً جداً، ومتمكناً جداً، وتقنياً جداً… ومرتاحاً جداً” وأنه هو عرض بنفسه على القضاء الأوروبي أن يزوّده بالمعطيات. السرديّة نفسها على (إم تي في) التي اعتبرت أن سلامة كان “نجم” الأسبوع وأنّه “أحرج” القضاة الأوروبيين. كما كان ملفتاً مقال نقله موقع (أم تي في) عن إحدى الوكالات تحت عنوان “رياض سلامة… لو كان شيعياً” وأنه لو كان الأمر كذلك لما جرى التحقيق معه. وتوسّعت تقارير أخرى لاحقاً في حجج الدفاع عن سلامة، أبرزها تقرير على “الجديد” في 20 آذار روّج لفكرة أن لا دليل في ملف سلامة، واضعاً الدعوى في سياق “العراضات” الإعلاميّة.
وبشكل عام في تغطية مجريات التحقيق، تعمّد الإعلام إبقاء مصادره مبهمة، بخاصة وأن رصد المواقف يبيّن أن السرديّة منقولة عن مصادر مقرّبة من سلامة. فالسرديّة نفسها نجدها لدى الوكيل القانوني لسلامة المحامي صخر الهاشم[1] خلال مقابلة أجراها مع “صوت بيروت إنترناشنال”، إذ كرّر ذات مضمون سرديّة “هدوء وتمكّن سلامة” رغم عدم وجوده داخل الجلسة (ما يشير إلى أن السرديّة منقولة عن سلامة نفسه). وأضاف الهاشم أنّ الحاكم أجاب بما يكفي من الوقت على الجوانب القانونية والمالية والإقتصادية، وقال ما حرفيّته: “جواباته برمتلن راسن للمحققين كلن، اللبنانيين والأجانب”. وتابع الهاشم أن الحاكم خلال الاستراحة قام بتدخين “السيجار” وكان يتّصل بمصرف لبنان لتسيير أمور البريد، الأمر ذاته الذي نقلته التقارير الإعلامية.
كما ذهب الإعلامي جورج غانم في برنامج “صار الوقت”، إلى سرد إنجازات سلامة من تعاميم أصدرها في فترة الأزمة، وذهب إلى التشكيك بالتحقيقات متسائلاً: “هل فعلاً هناك تبييض أموال في القضية التي يتم التحقيق بها اليوم والتي مثل على أساسها رياض سلامة أمام المحقّقين الأوروبيين؟” وتحدّث غانم عن استنساب القضاء معتبراً أنّ ما يجري هو من قبيل “تحوير للأنظار” “وكي الوعي العام” بعد أن تفّه حجم الأموال التي يتم التحقيق بشأنها. إذ قال “اليوم الـ 300 مليون دولار التي يحقّق فيهم هي السبب للأزمة برمتها؟” وخلص غانم إلى أن “هناك محاولة لجعل رياض سلامة الشخص الذي دمّر حاضركم ومستقبلكم”. وضمن منطق “إمّا يحاكم الجميع أو لا يحاكم أحد”، أضاف غانم ما حرفيته: “من أهون الأمور أن تأتي لتقول إني أحيّد نفسي وأدع الناس تركّز على مسؤول واحد ومتّهم واحد فأختزل 30 عاماً بالقول هذا هو العبد الفقير الذي عليكم ضربه”. وقد أنهى غانم مرافعته بالتأكيد على أن “حاكم مصرف لبنان لم يستقل ولم يقدم استقالته كما أشيع” موحياً أن لا بديل عنه متفق عليه.
أمّا قريب سلامة، المحامي والإعلامي جوزيف بو فاضل، فاختار التهجم لفظياً على “المرصد الأوروبي”، في معرض إشارته إلى تسييس ما في القضيّة. فقال في تغريدة: “نطالب المرصد بالضغط على مرشده جبران باسيل لاسترداد الودائع المنهوبة”، وأضاف ما حرفيته “وإلا فليخرس. قال مرصد قال”. كما رأى بو فاضل خلال إحدى إطلالته المتزايدة، أن هناك أمرا مدبّرا في ملاحقة سلامة لضرب المصارف اللبنانية والمصرف المركزي، ليتفق بذلك مع سرديّة “الأخوين غانم”.
وقد توّج سلامة بنفسه السردية المعتمدة في الدفاع عنه في بيان صدر عنه إثر الجلسة الثانية من التحقيق معه في 17 آذار. ورغم أن البيان أكّد ضمنا صحة المبالغ المتداول بها واستفادة شقيقه منها، فإنه وضع التحقيقات في سياق “سوء نية وتعطش للادعاء” عليه من جهات عدة، وصولا إلى الحديث عن حملة مقامة ضده لأهداف “شعبوية”. وقد كلّل سلامة بيانه بأن “الأوطان لا تُبنى على الأكاذيب”.
إلى ذلك، برز كمّ من المواقف السياسية المشككة في التحقيق. برز منها موقف النائب المدّعى عليه في قضيّة المرفأ علي حسن خليل والذي شكّك خلال مقابلة مع برنامج “صار الوقت” (ام تي في) في التحقيق. فتساءل إذا كان “ما يجري ينطلق من المعايير والاتفاقيات الدولية وهل مسموح التعاطي بهذا الشكل بغضّ النظر عن مسؤولية الحاكم في الاتهامات التي توجه له”.
ضمن توجّه كسر عقدة “الإفلات من العقاب”
مقابل المواقف أعلاه، أبرزت قوى أخرى أهميّة الدعوى على سلامة. داعيةً إلى تحصينها، ومستغربةً في الوقت عينه استمرار الحاكم في وظيفته وتمسّكه بها. وقد صبّ في هذا الإتجاه موقف كل من”المفكرة القانونية” و”ائتلاف استقلال القضاء”، ما أشرنا إليه في المقدمة.
ضمن هذا التوجّه أيضاً نواب “كتلة التغيير”. الياس جرادة الذي تحدّث في بيان عن أحد العوائق التي كانت أمام القضاء اللبناني لمحاسبة سلامة، فتساءل حول المادّة (6) من القانون 44/2015، المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. قال: “ما هو هذا القانون الذي يجعل من حاكم مصرف لبنان رئيساً لهيئة مولجة القيام بالرقابة عليه؟ وكيف لمجلس نيابي أن يمرّر هكذا مادّة قانونيّة تعطّل ذاتيّاً وعن سابق إصرار وتصميم أي إمكانيّة لمساءلة حاكم مصرف لبنان ومحاكمته؟”. وأشار جرادة الى قانون قدّم الى المجلس النيابي لمعالجة هذه المشكلة، وتابع “ما كنا نحاول تفاديه قد برز اليوم كمعضلة، مشيراً إلى طلب هيئة القضايا بعد ادعائها على سلامة “إحالة نسخة من الدعوى على هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان بواسطة النيابة العامّة التمييزيّة لتجميد حسابات المدّعى عليهم”. وتساءل جرادة “هل من مشرّع سيتحمّل مسؤوليته في تصحيح ما قد يكون غفل عنه من مواد قانونية غايتها تعطيل تطبيق القانون نفسه؟”
النائب ابراهيم منيمنة تحدّث خلال مقابلة له على “الجديد” في 14 آذار، عن ضرورة إحداث انقلاب من فكرة خسارتنا للعدالة، وتحوّلنا إلى دولة تدافع عن الحق، إذ أن اللبنانيون اليوم لم يعودوا مؤمنين بالمؤسسات، مستغرباً في هذا الصدد “كيف نرى شخصا مثل حاكم مصرف لبنان، وهو مدعى عليه داخلياً وخارجياً، وعليه شبهات تبييض أموال، ولازال بموقعه؟” وأضاف “كيف ستستقيم الأمور، وكيف من الممكن أن نرضى بحكم الفاسدين لنا، ثم يقوم هؤلاء بقمع الناس، هذا معاكس للمنطق! هذا معاكس لفكرة الدولة”. وأوضح منيمنة أنهم ككتلة تغيير ضد هذا النهج ويطالبون بالإصلاحات.
من جهته، أشار النائب ميشال دويهي إلى “صمت منظومة الحكم”، ما اعتبره دليلا على أننا بتْنا في “دولة فاشلة”. وأضاف “هل يجوز أن يبقى سلامة حاكماً وهو ملاحق بقضايا أوروبية ودولية؟ ما تفسير بقائه وهو ملاحق ومدّعى عليه محلياً؟ أم أن حمايته واجبة لئلا ينكشف كل المستور؟” ودعا إلى استقالته وإيجاد بديل بأسرع وقت. وقد اعتبر وضاح صادق بدوره أنه “بات من الضروري وضع حدّ لفساد رياض سلامة” الذي يتحصّن بمعلومات تدين “مافيا السلطة”.
في الاتجاه نفسه، ذهب النائب غسان عطالله (اليتار الوطني الحرّ) حيث جاء في تغريدة له: “اليوم ما عم نسمع صوت يدعم القضاء بوج سارق أموال اللبنانيين رياض سلامة”. وقد رأى عديد الناشطين من التيار الوطني الحرّ أن ملاحقة رياض سلامة تؤكد مصداقية النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون.
انتهت الجولة الأولى من التحقيقات مع سلامة، وكان أبرز ما استجد حضور سلامة التحقيق، وهو أمر لم نعتدْه سابقاً في قضايا بالغة الأهمية، وإن وضع الحاكم الأمر في سياق أنه “متمكن ومتماسك”. في حين أن الوفد القضائي الأوروبي طلب العودة أواخر نيسان وفق ما أشارت معلومات ل”ال بي سي”. في انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات من نتائج وسرديات مستقبلاً.
[1] ويُشار إلى أن المحامي نفسه هو الذي قال في تبجّح قبل عام أن “توقيف سلامة فيه خراب لبنان.. سيفضحهم جميعاً” وادعى أنه “ممنوع دولياً ان نكون بلا حاكم مصرف لبنان” وأنه لم يتم الاتفاق على بديل لسلامة
المحامي صخر الهاشم ل «السهم»: توقيف سلامة فيه خراب لبنان.. سيفضحهم جميعاً. صحيفة السهم، 23 آذار 2022