بعد “إعفاء” 82 قاضيا وإضراب القضاة: آلية “الإعفاء” في قفص الاتهام


2012-06-04    |   

بعد “إعفاء” 82 قاضيا وإضراب القضاة: آلية “الإعفاء” في قفص الاتهام

المقال منقول عن صحيفة الطريق الجديد (تونس) عدد  284 بتاريخ 1 جوان 2012

يعيش القضاة على وقع قائمة 82 قاضيا الذين تمّ إنهاء مهامهم من طرف وزير العدل تطبيقا لصلاحياته المخوّلة له قانونا. لقد برّر الوزير استعماله لآلية "الإعفاء" لغاية "علاج من وصل بهم الأمر إلى عدم الاتصاف بالمواصفات الدنيا للقاضي، بما تحمله صفة القاضي من الحياد والشفافيّة والنزاهة ونظافة اليد والشرف والاستقامة" على أنّها "جزء من إصلاح كامل…".
هذا الإصلاح إتفق الجميع، قضاة ومحامون ومكوّنات المجتمع المدني، على أنه اولويّة بالمؤسسة القضائية عاشت التهميش والتوظيف السياسي وانخراط البعض في منظومة الفساد والتواطئ في خدمة مراكز النفوذ المالي والسياسي في القصر وخارجه، ونتج عنه حصول مظالم عديدة كانت سببا في المسّ من سمعة القضاء وهيبته داخل البلاد وخارجها.
لم تكن النقاشات داخل اوساط القضاة بخصوص مسألة الفساد في القضاء غائبة، ولكن التعاطي مع كيفيّة طرحها ومعالجتها كان محلّ مزايدات بين الهياكل الممثّلة للقضاة: من نقابة ترفض منطق "القائمات" وجمعيّة ركّزت كلّ تحرّكاتها منذ الأيام الأولى للثورة على وجوب "تطهير القضاء من رموز الفساد" وانتهت إلى وضع قائمة بـــ 214 قاضيا لم تكن لها جرأة الإعلان عن تركيبة اللجنة التي أعدتها أو تقديمها إلى الجهات المعنيّة، بل استعملتها كفزّاعة وورقة مناورة للضغط على القضاة للإصطفاف وراءها، مما عزّز عدم ثقة المواطنين في القضاء وفي العدالة.
إنّ التذبذب وعمق الاختلاف في الرؤى وافتقاد استراتيجية واضحة، أدى إلى التفريط في مبادرة فتح ملف الفساد القضائي من طرف القضاة أنفسهم، وفتح الباب لاستئثار السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل بالقيام بهذه العمليّة.
إنّ اعتقادي راسخ بأن فتح ملف الفساد في القضاء على أهميّته وضرورته الملحّة والمستعجلة لا تعالج بآلية الإعفاء.
فكيف يمكن إنهاء مهام قاض اعتلى لسنين كرسيّ الحكم وأصدر عديد الأحكام دون احترام مبدأ المواجهة وتمكينه من الإطلاع على ملفه وإمكانية إضافة عناصر جديد به لدفع الإتهام عنه والاستعانة بمن شاء في الدّفاع عن نفسه.
إنّ إصدار قرارات أحادية الجانب في غياب عنصر الشفافية لا تكون دائما صائبة، وكان من المحتّم نظرا لما تعيشه بلادنا من توترات إجراء مشاورات سابقة لاتخاذ قرارات الإعفاء، لما لها من حساسية لدى الرأي العام ومساس بمصائر أشخاص وعائلات.
والآن وبعد ما أثارته آلية الإعفاء من مواقف متضاربة بين من يقرّ سرّا بوجاهتها لتعلقها ببعض ما يتداول داخل المكاتب المغلقة أنه تورط في منظومة الفساد، وبين من يجهر برفضها. وبعد ما حصل من "اتفاقات" بين الوزارة وممثلي القضاة أقرّت صلب المحاضر الممضاة من طرفهم بالأمر الواقع وبأحقيّة الإدارة في معالجة مسائل الفساد، باعتباره مطلبا شعبيّا واستحقاقا من استحقاقات الثورة، فتح باب التظلم للمعفيين وذلك بالإعتراض على القرارات الصادرة ضدهم.
إنّ تلك الإتفاقات لا تمس بصفة جوهريّة من موقف الإدارة بل علّلت مشروعيته ولعلّ الأجل القصير جدا المحدد بثلاثة أيام، لإمكانية الاعتراض على تلك القرارات لا يتناسب مع حجم التهم وخطورتها الموجهة إلى من طالهم الإعفاء، وما يقتضيه من وقت لإحضار وسائل دفاعهم ضدّ قرارات وصفها الوزير بأنها كانت مستندة إلى "وثائق ثابتة لا تدع أيّ مجال للشكّ".
إنّ مراجعة قرارات الإعفاء بالنسبة لمن يثبت أنها كانت مجحفة في حقّه مطلوب ومهم، إلاّ أنّ الأهمّ من ذلك هو التخلّي نهائيا عن استعمال آلية "الإعفاء" حتى لا تبقى سيفا مسلطا على أعناق القضاة تحت يافطة "مكافحة الفساد" اليوم وتحت مضمون يافطة أخرى غدا.
إنّ التأسيس لدولة القانون والمؤسسات الديمقراطية يفترض المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، ويفترض أيضا احترام علويّة القانون ومساءلة من يخرج عن هذا الإطار، مهما كان مركزه الإجتماعي، إلاّ أن ذلك يتعيّن أن يقترن بتوفير الضمانات الكافية للدفاع.
إن هذه التجاذبات وتداعياتها تطرح ضرورة فتح حوار جدّي ودون تشنج أو مزايدة، حول كيفية معالجة ملف الفساد في القضاء بين جميع الأطراف ذات العلاقة.

وسيلة الكعبي
مستشارة بمحكمة التعقيب

انشر المقال

متوفر من خلال:

غير مصنف



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني