غياب أعوان النظافة عن شوارع العاصمة ليومين فقط بعد انطلاق إضرابهم الذي بدأ في 25 جانفي الجاري، كان كافيا كي تجتاح أكوام النفايات معظم الأنهج والأزقة مخلفة مشهدا مقززا لأكداس القمامة وانتشار الروائح الكريهة. مشهد ذكر التونسيين بصيف سنة 2014 الذي غرقت فيه كلّ أحياء العاصمة التونسية ومركزها في النفايات. ورغم تعويل بلدية تونس على مقاولين خواص لسدّ الشغور إلى حين استئناف العمال البلديين العمل، إلا أن هذا الاجراء لم ينجح في التقليل من آثار غياب عمال النظافة الحكوميين الذين لجؤوا إلى التصعيد احتجاجا على تردي أوضاعهم المهنية والاجتماعية المستمرة منذ 70 عاما.
يأتي هذا الإضراب بعد سلسلة من التنبيهات التي وجهتها الجامعة العامة للعمال البلديين إلى رئيسة بلدية تونس، مطالبين إياها بمراجعة وضعيتهم المهنية وصرف المنحة المقدرة بـ 300 دينار التي تم الاتفاق عليها مع وزارة الشؤون المحلية والبيئة. غياب رد واضح واستمرار المماطلة والتسويف دفع أعوان النظافة إلى التصعيد عبر تعليق العمل والتجمهر يوم الإثنين 27 جانفي 2020 أمام الإدارة التابعة لبلدية تونس، للمطالبة بمدهم بمستحقاتهم والاستجابة لمطالبهم.
من جهة أخرى وأمام تمسك المحتجين بموقفهم، عقدت رئيسة بلدية تونس سعاد عبد الرحيم يوم 25 جانفي 2020 جلسة عمل في قصر البلدية بالقصبة لمتابعة الوضع العام حول ضرورة تأمين خدمات منظومة رفع ونقل الفضلات بمختلف دوائر البلدية، تلتها جلسة أخرى يوم 27 جانفي بحضور كافة رؤساء الدوائر والإدارات المعنية قصد اتخاذ كل التدابير اللازمة لضمان سير العمل وتوفير الخدمات اللازمة، وأكدت على تواصلها مع الأطراف النقابية لإيجاد حل.
ورغم إصدار الجامعة العامة للعمال البلديين بلاغا يوم الاثنين 27 جانفي دعت فيه عمال البلدية للعودة إلى العمل وتعليق الإضراب وترك المجال مفتوحا للحوار مع المجلس البلدي ومع الحكومة حول المطالب الخاصة بتحسين شروط الصحة ووسائل الوقاية والسلامة وظروف العمل التي اعتبرها البلاغ ''سيئة جدا"، إلا أن 48 ساعة من تعليق عمل عمال النظافة، كانت كفيلة بإغراق أنهج العاصمة التونسية بالنفايات التي تكدست في نقاط التجميع وتناثرت على الطرقات مخلفة مشهدا مقززا وروائح كريهة تزكم أنوف المارة والمتساكنين.
عمال النظافة البلديون: قطاع على هامش الوظيفة العمومية
طبيعة مهنتهم القاسية والشاقة، لم تشفع لأعوان النظافة الذين يتذيلون سلم الأجور في الوظيفة العمومية حيث لا يتجاوز أجرهم الأساسي 300 دينار والذي يتقلص عند الإحالة على التقاعد ليناهز الـ 250 دينارا. ولا يتوقف الحيف المادي تجاه عمال النظافة عند تدني مستوى الأجور بل يشمل تعطيل صرف المنح الزهيدة أصلا. في هذا السياق، أكد أحد العملة المحتجين، الأسعد فتحي، في تصريح ل "المفكرة" أن "أعوان البلدية استبشروا بالثورة خيرا حيث تم ترسيم عدد كبير منهم بعد أن قضى بعضهم أكثر من 20 سنة ضمن آلية عملة الحضائر، إلا أن سلطة الإشراف لم تأخذ بعين الاعتبار الأثر الرجعي لعملية الترسيم بعد كل تلك السنوات وبقيت جميع الترقيات مجمدة، وهو ما منع تطور مرتبات أغلب أعوان البلدية، كما ظلت المنح زهيدة في ظل تطور غلاء المعيشة بشكل جنوني خلال العقد الأخير، إذ لا تتجاوز قيمة المنحة الكيلومترية 20 دينارا، بينما تقدر منحة الإنتاج بحوالي 10 دنانير". وتتلخص قائمة المطالب المادية التي رفعها أعوان النظافة في هذا التحرك الاحتجاجي في صرف المنحة التي تم الاتفاق بخصوصها مع وزارة الشؤون المحلية والبيئة بقيمة 300 دينار، واعتماد مبدأ 13 أجرا في السنة، إضافة إلى إقرار الترقيات المجمدة وصرف منح العمل والرفع من منحة العمل الليلي التي تقدر حاليا بدينارين فقط للساعة. أما المطالب الخدماتية فتتمثل في مراجعة قيمة تذاكر الأكل والترفيع منها على غرار بقية المؤسسات العمومية.
إلى جانب المطالب الخاصة بتحسين أوضاعهم المادية ومراجعة النظام الأساسي المنظم للمهنة، طالب العمال المضربون بتمكينهم من متطلبات السلامة الضرورية والتي تتغاضى السلطات عن توفيرها في معظم الأوقات. فقد اعتبر عون النظافة مراد النحالي في تصريح للمفكرة أن ظروف عمل أعوان النظافة "تقودهم في طريق مباشر إلى التهلكة" بحسب تعبيره. فإلى جانب المخاطر الصحية المتأتية من القمامة، فإن طريقة نقل الأعوان تفتقر إلى أدنى معايير السلامة، حيث يتنقلون خلال أدائهم أعمالهم متشبثين بصناديق شاحنات القمامة مما يعرضهم في أي وقت للسقوط.
سلطة تماطل وقلق من الآثار الصحية تزامنا مع تفشي فيروس "كورونا"
في المقابل تملصت رئيسة بلدية تونس سعاد عبد الرحيم من المسؤولية، حيث اعتبرت في تصريح إذاعي يوم 26 جانفي 2020، أن "هذه المطالب خارجة عن نطاق بلدية تونس وصلاحياتها، وسيتم تنظيم لقاء للنظر في المطالب النقابية". موقف سلطة الإشراف يحيل إلى إمكانية فتح جولة جديدة من المفاوضات رغم أن تحركات أعوان البلدية لم ترفع أي مطالب جديدة، بل طالبت فقط بتنفيذ الاتفاقيات المبرمة مع الجانب الوزاري. الموقف الرسمي قابله استعداد للتصعيد بحسب ما عبر عنه عون البلدية مراد النحالي الذي أكد للمفكرة أن الإضراب سيتواصل ما لم يتم تفعيل هذه المطالب وإغلاق هذا الملف نهائيا معتبرا "أن المسألة تتعلق بالكرامة قبل كل شيء وإقرار الحد الأدنى من المساواة مع باقي الوظائف العمومية".
من جهة أخرى كان انتشار القمامة في شوارع العاصمة مصدر تذمر من قبل العديد من المواطنين على شبكات التواصل الاجتماعي واعتبر البعض أنه تزامنا مع تفشي فيروس "كورونا" في العالم ووصوله إلى القارة الأوروبية، فإن انتشار القمامة والروائح الكريهة قد تجعل التونسيين معرضين أكثر لدخول هذا المرض. هواجس دحضتها رئيسة قسم الاستعجالي في مستشفى الحبيب ثامر والمديرة العامة للصحة سابقا، نبيهة بورصالي فلفول خلال اتصال للمفكرة بها، لتنفي أي صلة بين انتشار النفايات وفيروس "كورونا". وقد اعتبرت أن "تكدس القمامة قد يكون له تأثير على صحة من يعانون من ضعف في المناعة أو على الأطفال خاصة أنها مصدر رئيسي لداء التهاب الكبد من صنف "أ"، ولكن تأثيرها شبه معدوم على الأشخاص العاديين، ولا يمكن بأي وجه من الوجه أن يكون جالبا لذلك الفيروس."
رغم الاستجابة البطيئة لبعض عمال النظافة لبلاغ الجامعة العامة للعمال البلديين، واستئناف جمع النفايات بنسق محدود من بعض شوارع العاصمة، إلا أن حجم القمامة الذي تكدس خلال الأيام السابقة قد يجعل من استعادة النظافة النسبية للشوارع أمرا صعبا، خصوصا في ظل نذر التصعيد المحتملة من قبل أعوان النظافة الذين يصرون على وضع حد لمعاناتهم مع قطاعهم الأكثر تهميشا وإهمالا من بين كل القطاعات العمومية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.