مساء يوم 04-11-2021، أصدر قاضي التحقيق بالمكتب العاشر بالمحكمة الابتدائية بتونس بطاقة جلب دوليّة في حقّ الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي[1] في القضية التحقيقية المثارة ضده بالخيانة العظمى. وكانت هذه القضية أُثيرت ضدّه تبعاً للتصريح الذي أدلى به للقناة التلفزيّة الإخباريّة فرنسا 24 بتاريخ 12-10-2021 وتحدّث فيه عن افتخاره بكونه من المعارضين الذين أسهمتْ مواقفهم في توصية المجلس الدائم للفرانكفونية بتأجيل القمة 18 لقادة منظمتهم.
وفي حين يُرجّح أن لا تكون هذه البطاقة قابلة للتنفيذ في الدول الأوروبية التي يتواجد فيها المرزوقي بالنظر إلى خلفيّتها السياسية وتعرّضها الفاضح لحرية التعبير، فإنّها تُعيد التّذكير بزمن الديكتاتوريّة حيث كان السياسي يستخدم القضاء للنّيل من خصومه. وقد بدا هذا الاستخدام واضِحا في هذه القضية بحيث تحرّكت القضية بناءً على طلب وزارة العدل وصولا إلى استصدار قاضي التحقيق مذكرة الجلب.
السلطة السياسية حرّكت التتبع: تفصيل مهم
بمناسبة أوّل مجلس للحكومة الجديدة في تاريخ 14 أكتوبر 2021، تحدّث الرئيس قيس سعيّد مطوّلا عمّن سمّاه “البعض” (وهو يقصد المرزوقي) متّهما إياه “بالتوجّه للخارج لاستجداء الإضرار بمصلحة بلدهم”. ولم يفُتْ سعيّد أن يعلن بأن “من فعل ذلك سيُسحب منه جواز السفر الدبلوماسي لأنه يعدّ في عداد أعداء تونس ولا مجال لأن يتمكّن من هذا الامتياز وهو يجوب العواصم ويلتقي عددا من الأشخاص”. أخيرا، وجّه الرئيس سعيّد أمرا بالمناسبة نفسها لوزيرة العدل استنادا للفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية بأن تثير تتبّعا جزائيا ضدّ هذا البعض (المرزوقي) على خلفية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي” طالما “أن الكلمة للشعب وليست لعواصم بالخارج أو لخونة يلتجؤون للخارج لضرب بلادهم التي تحملوا فيها المسؤولية ..”[2].
في كلمته هذه، لم يسمّ سعيّد المرزوقي لكن كان واضحا للمتابعين أنه المقصود لسبق توجيه الاتهام له في صفحات التواصل الاجتماعي المعروفة بتأييدها لمنظومة الحكم. كما لم يبيّن سعيّد سبب تفعيل الفصل 23 من مجلّة الإجراءات الجزائية الذي يجيز لوزير العدل بتوجيه أوامر للنيابة العمومية المختصّة (وهي في هذه الحالة النّيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس) بإثارة التتبّعات في هذه القضية. لكن من البيّن أن هذا الأمر يجد تفسيره في امتناع النّيابة العمومية المذكورة عن التحرّك من تلقاء نفسها رغم كلّ ما مورس من ضغط اعلامي عليها.
يستخلص ممّا سبق الأمور الآتية:
– أنّ السلطة السياسية استخدمتْ بشكل مكشوف القضاء كمنصّة لمحاكمة الآراء المعارضة لها والتخلّص من خصومها. وهي لم تجد حرجا في تسخير أدوات ورثتْها عن الحقبة الاستبداديّة لهذه الغاية. ويلحظ هنا أن المفكرة القانونية كانت دعتْ سابقا وفي أكثر من مناسبة إلى استكمال الإصلاحات القضائية في اتجاه ضمان استقلالية النيابات العمومية وفكّ ارتباطها عن وزارة العدل.
– يرجّح أن السلطة السياسية اضطرّت للكشف عن نواياها بفعل امتناع النيابة العمومية المختصّة من التحرّك تلقائيّا رغم كلّ الضغوط التي بات القضاء يتعرّض لها منذ إعلان الرئيس سعيد لإجراءاته الاستثنائية بشكل عامّ من خلال التلويح بتطهير القضاء أو تنقيح القوانين الضامنة لاستقلاله أو إطلاق الحملات الفايسبوكية لدفعه على اتخاذ هذا القرار أو ذاك. وإن مجرّد امتناع النيابة العمومية عن التحرّك تلقائيا يشكّل مؤشّرا إيجابيّا على أنّ تعزيز الضمانات القضائية والخطاب العامّ حول استقلالية القضاء خلال السنوات العشر السابقة إنما نجح بدرجة أو بأخرى في القطع مع ثقافة “القضاء المنسجم” الموالي للنظام السياسي في اتجاه بناء ثقافة استقلال القضاء. وهو تطوّر كان من الممكن ترسيخه لو نجحت القوى الإصلاحية في إنجاز الإصلاحات الموعودة في مجال النيابة العمومية في الاتجاه الذي سبق بيانه.
مؤشر سلبيّ يستدعي التنبّه
لم يمثل المرزوقي أمام قاضي التحقيق لتواجده خارج تونس في تاريخ الأبحاث. لكن هذا السبب لا يبرّر قطعا إصدار بطاقة جلب دولية في حقّه لكون ملف الادّعاء لم يتضمّن أيّ دليل على الخيانة المدعى بها باستثناء تصريح إعلامي لا يُمكن بحال أن يؤكّدها. وما يزيد من قابليّة إصدار هذه البطاقة للنقد هو أن البلاغات الرسميّة لمنظمة الفرنكفونية أكّدت أنّ القمة أُجّلت بسبب تقييم الأعضاء للوضع السياسيّ بتونس وبالنظر لفشل الأخيرة في الإعداد المادي لها. وعليه، يشكّل إصدار تلك البطاقة وجها من أوجه التماهي مع الموقف السياسي يمسّ بقيم القضاء المستقلّ وخطوة إلى الوراء تذهب في اتجاه معاكس لما سبق بيانه وتظهر الانقسام الحاصل داخل القضاء بين قضاة يغلّبون استقلاليتهم وقضاة لا يجدون حرجا في السقوط مجددا في شبكات الانسجام.
بيان أحمد نجيب الشابي
في السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى الرسالة اللافتة التي وجهها أحمد نجيب الشابي إلى قاضي التحقيق والتي جاء فيها: “أحترمكم وأجلّ وظيفتكم وأقرّ بأنه من صميم اختصاصكم إصدار بطاقات الجلب في كنف احترام القانون ووفقا لوجدانكم الخالص. لكن معذرة سيدي الرئيس، إذ توجد بيننا وبينكم مساحة مشتركة نتساوى فيها ألا وهي مساحة المواطنة. إنكم تقضون باسم الشعب ونحن من أفراد الشعب الذين يحقّ لهم إبداء الرأي فيما تقضون به. إنها لوصمة في جبين الشعب التونسي وفي جبين الدولة التونسية أن تصدر بطاقة جلب دولية في حق مواطن من أجل جريمة رأي، فما بالك أن يكون هذا المواطن رئيسا سابقا للدولة التونسية، رمَزَ إليها ومثّلها في المنتظم الدولي وسهِر على أمنها وسلامتها، …إن بطاقة الجلب الدولية التي أصدرتموها لن يكون لها أدنى أثر سوى الإساءة لصورة القضاء التونسي والنيل من مصداقية الدولة التونسية، …لذلك أطلب منكم سيدي الرئيس أن تسحبوا بطاقة الجلب التي أصدرتموها وأن تحفظوا ملفّ القصية حماية لاستقلال القضاء من تدخل السلطة التنفيذية وصونا لحقوق وحريات المواطنين التونسيين من بأس المُستبدّين و حفاظا على صورة تونس في المحافل الدولية”[3].
تذكير بالحوار الذي أجرته “المفكرة” مع المرزوقي
ختاما، نعود لننشر حواراً أجريناه سابقا مع المرزوقي تحدث فيه مطولا عن آرائه حول دور القضاء وضرورة تعزيز استقلاله في الدولة الديمقراطية الناشئة عن الثورة. ومن المعبّر جدا أن نعيد التذكير بالعنوان الذي كانت اختارته “المفكرة” لهذه المقابلة وقوامه: ” لكي تكبر شجرة القضاء أكثر وتكون واحة تظلنا”.
[1] من ابرز الناشطين الحقوقيين والمناضلين الديمقراطيين قبل الثورة . ترأس الجمهورية التونسية بين سنتين 2011 و 2014 .
[2] نقل حرفي للكلمة كما وردت بتسجيل الفيديو الذي نشر بالصفحة الرسمية رئاسة الجهورية التونسية
[3] رسالة نشرها على صفحته الرسمية ساعات قليلة بعد الإعلان الرسمي عن الخبر للاطلاع عليها من مصدرها اضغط هنا