“
ليس بوسع أي مار قرب مجرى النهر الذي يمر قرب مجمع المدارس في البلدة إلا وأن يمسك يده على أنفه، هذه الرائحة التي ترتفع حدتها مساءً بعد مغيب الشمس بحسب أبناء القرية، تسبب لهم بأبسط الأحوال حالات اختناق وسعال وفي أسوئها يفتك مرض السرطان بأبنائها حتى بات لا يُفارق البيوت. أما المشهد، لا تطيق العين النظر اليه، هو عبارة عن مجرور راكد وسميك يخلو من الحياة وحوله نباتات القصب وأعشاب تتغذى على المياه الآسنة. فما عاد أهالي البلدة يحتملون الوضع، أعداد حالات الإصابة بالسرطان هائلة، 600 حالة هو الرقم المتداول إعلامياً في السنتين الأخيرتين. وكانت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني قد نشرت خريطة بتقنية نظم المعلومات الجغرافية GIS تُحدد بالنقاط الحمر تواجد الـ 600 حالة التي تم احصاؤها في البلدة. لكن الرقم قد يتعدى ذلك والكارثة قد تكون أكبر، مع الإشارة إلى أنه لا يشمل السكان المقيمين في البلدة وهم من خارج بر الياس كما بالنسبة للاجئين السوريين.
الحسرة على نهر الليطاني لا تفارق وجوه أبناء بر الياس. تاريخياً كان النهر مقصداً للتنزه والسباحة وصيد السمك ومصدراً لري المزروعات، أصبح اليوم حرفياً “مجرورا”. المسار الطبيعي للنهر يمر قرب مجمع المدارس في بر الياس الذي يضم 7 مدارس ونحو 3500 طالب وطالبة من البلدة وجوارها، وكان قد استبعد المجمع عام 2018 من إجراء الامتحانات الرسمية فيه، وعزا البعض الأمر إلى ارتفاع التلوث في نهر الليطاني.
واليوم من يتوفى بسبب السرطان في بلدة بر الياس هو شهيد بالنسبة لأبنائها. فالبلدة البقاعية التي يُصاب أهلها بمرض السرطان كـ “وباء” يتنقل شبحه بين عائلاتها هو بالنسبة لهم قتل ممنهج ناتج عن الإهمال المتراكم لمؤسسات الدولة تجاه رفع التلوث عن المنطقة في السنوات المنصرمة. في اعتصام منذ أسبوعين بتاريخ 11 أيلول 2019، حمل أهالي البلدة نعشاً كُتب عليه “شهداء الليطاني” من أمام مجمع المدارس في بر الياس حيث يمر مجرى نهر الليطاني، أو “مجرور” الليطاني كما تظهر نوعية السوائل الراكدة هناك. المشاركون في الاعتصام، من الأهالي وفعاليات البلدة ومخاتيرها وأئمتها وخوري برالياس وبعض الأهالي من البلدات المجاورة، أبدوا تماسكهم في هذه القضية وناشدوا معاً السلطات لإنقاذ البلدة. وأكدوا من خلال هذا التماسك توحدهم على أن الوجع واحد، والأمراض المستعصية تدخل البيوت بغض النظر عن أي انتماء.
اصطف المشاركون في الاعتصام أمام النعش الرمزي، وقرأوا الفاتحة على أرواح أحبائهم الذين رحلوا بسبب السرطان، وطالبوا برفع التلوث عن نهر الليطاني وعن البلدة. الحدث استكمل بجنازة افتراضية بين أحياء البلدة إلى الشارع الرئيسي، حتى وصلوا إلى مستشفى تُديره منظمة أطباء بلا حدود، وهو مستشفى أنشئ لمساعدة اللاجئين السوريين ولأهالي بر الياس وهو متخصص بمجالات محددة كالحروق وأمراض العظم. المعتصمون طالبوا هناك أن يتم تخصيص أطباء وأقسام لعلاج المصابين بمرضى السرطان من أهالي بر الياس لتخفيف معاناة الانتقال إلى المستشفيات المجاورة وإلى العاصمة لتلقي العلاج. وكما أن يتم إنشاء مركز لتوزيع الأدوية لمرضى السرطان وللتأهيل النفسي للمرضى المصابين.
الشيخ وليد اللويس رفع الصوت ضد إنشاء أي مطمر نفايات إضافي في برالياس، ودعا وزير البيئة إلى زيارة البلدة وتقديم حلول لتخليصها من السرطان والتلوث. وطالب بـ “عقد جلسة مجلس وزراء طارئة في بر الياس”، ملوحاً بالتوجه إلى القضاء الدولي في حال لم تتحرك الجهات المسؤولة.
اللويس أرسل رسالة سخط للمسؤولين والمعنيين، قائلاً: “لعل المشهد يوقظ فيهم الضمير، ولعله يحرك فيهم ساكناً أمام المئات الذين فقدناهم والمئات من المصابين”. واعتبر اللويس أننا أمام مشكلتين: “المشكلة الأولى هي شبكات الصرف الصحي التي ترمي سمومها في الأنهر، والمشكلة الثانية شبكات الفساد السياسي، والأخيرة أخطر من الصرف الصحي”. وشرح بأنه “لولا الفساد السياسي لما وصلنا إلى هذه الحال المأساوية، حيث أصبحت البلدة مقبرة جماعية”.
العتب على المعنيين يتجاوز الوزارات والمؤسسات، فرفع أحد المتكلمين رسالة إلى رئيس لجنة الصحة النيابية النائب عاصم عراجي، وهو ابن بلدة برالياس الذي نجح في الانتخابات بأصوات أبناء البلدة. إذ تمنى عليه بعدما “أصبح ناخبوه بلا صحة أن يحل مشكلة ناخبيه أو أن يستقيل من المجلس النيابي”. وأضاف، “لا فرق بين أن نموت بسلاح المجرمين هناك أو أن نموت تحت سلاح الفاسدين هنا”.
ومن جهته، وصف أحد المعتصمين تخاذل المسؤولين عن إيجاد حل للأزمة أشبه بالاتفاق من تحت الطاولة على صفقة القرن، ويُضيف، “اليوم يهيئون لصفقة قرن خاصة ببلدة برالياس”.
التلوث يُحيط بر الياس من عدة جهات
البلدة التي تقع في قلب سهل البقاع في قضاء زحلة، يربط مواطنوها ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان حكما بالتلوث المحيط فيها، هذا التلوث يأتي من مجرى نهري الليطاني من شمالها والغزيل من جنوبي شرقها ليعود ويلتقي النهران عند بلدة المنصورة، وبسبب التلوث بات النهران شرياني موت بالنسبة لأهالي بر الياس. الموقع الجغرافي المميز للبلدة تحول “نقمة” على أبنائها، فنهر الغزيل يحمل الملوثات الناتجة عن الصرف الصحي من عدة بلدات (منها بلدات عنجر ومجدل العنجر والصويري وأيضاً بر الياس)، عدا عن الصرف الصحي الناتج عن مخيمات اللاجئين السوريين على ضفاف نهر الغزيل.
وهذه المخيمات مصيرها متعلق بدراسة تقوم بإعدادها وزارة الطاقة والمياه تتصل بتقنيات معالجة المياه المبتذلة الناتجة عنها، وعلى ما يبدو أن هذه الدراسة لن تصدر في وقت قريب، مما يمنع تنفيذ قرار قضائي عن محكمة زحلة بحق جمعية “الرؤية العالمية” الذي يقضي بإلزامها تركيب محطات تكرير للحمامات التي قامت بتركيبها في المخيمات التي تشرف عليها في قضاء زحلة.
ومن جهة نهر الليطاني، فهو يحمل الملوثات من الصرف الصحي والصناعي للمدينة الصناعية في زحلة بشكل مباشر، وبالطبع من الملوثات الناتجة عن المصانع والبلدات المحاذية لنهر الليطاني والتي ترمي مخلفاتها في النهر. وبالأخص فإن العديد من المصانع في المدينة الصناعية عملت في السنوات السابقة على رمي مخلفاتها الصناعية إما في النهر مباشرة أو في شبكة الصرف الصحي التي تذهب إلى محطة التكرير في زحلة المخصصة لمعالجة الصرف الصحي، ما يسبب أعطالاً بالمحطة. وبسبب انخفاض بر الياس جغرافياً عن مستوى البلدات البقاعية الأخرى فإن المياه تتجمع في البلدة، حيث تنخفض نسبة جريان المياه، وتنخفض أكثر في الصيف فتسبب انحساراً للمياه الآسنة في البلدة.
ويعزز ارتفاع التلوث في البلدة قربها من مطمر النفايات التابع لمدينة زحلة، ومطمر آخر متواجد في البلدة التابع لمعمل فرز النفايات فيها، إضافة إلى ملوثات أخرى كالمبيدات الزراعية. ويُشار إلى أن معمل الفرز الحالي الذي يخدم بلدات المرج وقب الياس وبر الياس، وبحسب معلومات يتناقلها بعض الأهالي، فهو لا يقوم بدوره بالشكل المطلوب، بل تعدى مهام الفرز إلى طمر النفايات في عقار محاذٍ، عدا عن أنهم يؤكدون أن المطمر يستقبل نفايات من بلدات غير البلدات المذكورة.
كل ذلك، ولم يشفع لا مجلس الوزراء ولا وزارة البيئة بالبلدة بل تم وضعها ضمن لائحة البلدات التي سيجري إنشاء مطمر نفايات فيها، كواحد من أصل 25 مطمراً تم التوافق عليها في مجلس الوزراء (قرار مجلس الوزراء رقم 3 تاريخ 27/8/2019).
لا آذان تسمع صرخات أهالي البلدة المتكررة الذين يلوحون في كل اعتصام بالتصعيد أي باتخاذ خيار إقفال الطريق الدولية التي تصل لبنان بسوريا، كمثيل الاحتجاج الذي نفذوه عام 2017 حيث أقفلوا الطريق ونصبوا خيمة لستة أيام متواصلة. حينها نجح الاحتجاج بإعادة تشغيل محطة التكرير في زحلة. وتوالت الاعتصامات بعدها، خاصة وأن تشغيل محطة زحلة لن يشفع وحده ما دامت المياه الملوثة يحملها مجرى نهر الليطاني من بلدات البقاع الشمالي المحاذية لنهر الليطاني ومن البلدات التي تقع على كتف نهر الغزيل. فعاد الأهالي في خريف 2018 إلى القيام بمحاولة سد مجرى نهر الغزيل عند جسر دير زنون لمنع دخول مياه المجارير التي يحملها لكن مجرى المياه “المجرور” عاندهم وفشلت المحاولة[1].
والحال أن الأهالي وجدوا أن أيا من الجهات الرسمية لم تتحرك جدياً لنجدة البلدة، ففي كافة تحركاتهم لم يجدوا سوى وسائل الإعلام تأتي لمساندتهم. وهم يعتصمون اليوم في غياب أي مشاركة من المجلس البلدي. ففيما يصف البعض الأمر بصراع داخلي في البلدة، يعبر آخرون عن سخطهم إزاء المجلس البلدي الذي لم يتخذ موقفاً فعالاً تجاه قرار إنشاء مطمر جديد في البلدة، بل تمت الموافقة عليه ضمنياً.
“بتنا نخاف زيارة الحكيم”
يُسجل انتشار كثيف لمرض السرطان في البلدات الواقعة على أكتاف نهر الليطاني، وتُسجل بر الياس وحدها أعلى نسب سرطان بسبب موقعها الذي يحمل إليه مجرى نهر الليطاني كل المياه الملوثة من البلدات المجاورة. إذ أن الرقم المتداول في البلدة التي تضم أكثر من 12 ألف نسمة، هو 600 حالة إصابة بمرض السرطان. ويعتبر عضو لجنة المتابعة والمحاسبة في بر الياس ربيع الميس أن هذا الرقم هو رقم تقديري ولا يمكن اعتباره علميا لأن الرقم الصحيح قد يكون أعلى بكثير. ويُضيف، “بتنا نخاف زيارة الحكيم إن شعرنا بأي وجع، خوفاً من أن يتم تشخيصنا بمرض السرطان”.
لم يتمكن الأهالي في أكثر من مناسبة سوى لفت نظر وسائل الإعلام، المحلية منها والعالمية، للكارثة التي تحل ببلدتهم. فقد صمّ المسؤولون آذانهم عن سماع صرخات أهالي البلدة، وعمد نواب المنطقة على حصر مواقفهم بالوعود وبمجرد اتخاذ المواقف من دون أي مبادرة فعلية لحل الأزمة. يقول ابن البلدة علي عبد الغني: أن “الحملات الانتخابية لمرشحي البقاع اتخذت من البلدة أحد عناوينها الرئيسية، وما أن انتهت الانتخابات لم نشهد أي تحرك جدي للناجحين “. يُضيف، “المصالح السياسية في هذا البلد تطغى على مصالح الناس”.
واليوم يحرص ناشطي بلدة بر الياس إلى لفت نظر العالم إلى هول الكارثة ويسعون جاهدين، عبر وسائل الإعلام الغربية التي تزور البلدة باستمرار، لمناشدة الدول الأجنبية لتقديم حلول بعدما قطعوا الأمل من الدولة اللبنانية.
“انحصرت مواقف المسؤولين بالوعود فقط”
منذ فترة زارت وزيرة الطاقة والمياه ندى بستاني محطة التكرير في زحلة وأعلنت من هناك أن المحطة تعمل ب 50% من قدرتها ولفتت إلى أنها تنسق مع مجلس الإنماء والإعمار لأجل توسيع شبكات الصرف الصحي التابعة للمحطة لتشمل باقي المناطق في زحلة والفرزل وسعدنايل وتعلبايا وقاع الريم وحزرتا. في هذا الصدد، يشرح ربيع الميس بأن اللجنة طالبت بستاني بأن توضح من أين لها هذه المعلومات إذ تجد اللجنة بأن المحطة غير قادرة على استيعاب الكمية التي تتكلم عنها بستاني. ويؤكد أن الأخيرة لم تبادر لدعوتنا ولا لقبول طلب الاجتماع معنا. كما زار البلدة وزير البيئة فادي جريصاتي، وعاد وانضم إلى الغذاء في دار النائب عبد الرحيم مراد، وكانت الدعوة موجهة إلى لجنة المتابعة والمحاسبة وأهالي بر الياس إلا أنهم اعترضوا على الانضمام، معتبرين أنهم لا يريدون مأدبة غذاء مع الوزير بل اجتماعا للتباحث حول حلول الأزمة.
وعمد بعض السياسيين إلى إطلاق وعود توقفت عندها لجنة المتابعة والمحاسبة، ووضعت نفسها كمراقب لجهة الإيفاء بها. النائب جورج عقيص أكد أنه سيطالب بعقد جلسة لمجلس الوزراء وأن يكون بندها الوحيد بلدة بر الياس ومعالجة تلوث الليطاني. وبدوره وعد أمين عام تيار المستقبل “بالإسراع لمعالجة مشكلة التلوث”. ومن جهته أكد وزير الدولة لشؤون التجارة الخارجية بالسعي لإنشاء مركز لرعاية مرضى السرطان ومركز أدوية للأمراض المزمنة منها السرطان. اللجنة دعت مطلقي الوعود إلى التنافس للقيام بواجباتهم، وعبر صفحتها على فايسبوك وعدت أن “من يصدق من بينكم سوف نضعه فوق رأسنا ونجول به في البلدة”.
من المسؤول؟
من جهته، لفت المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية عبر مقابلة مرئية مع موقع النهار الإلكتروني إلى أن القانون رقم 63 الذي خصص اعتمادات لتنفيذ بعض المشاريع وأعمال الاستملاك العائدة لمنطقة حوض الليطاني بقيمة ألف ومئة مليار ليرة لبنانية، قد حدد صلاحيات ومهام كل جهة. أي أن وزارة الطاقة والمياه ومجلس الإنماء والإعمار تقع على عاتقهما مسؤولية الصرف الصحي والنفايات السائلة، ووزارة البيئة مع مجلس الإنماء والإعمار يحملان مسؤولية النفايات الصلبة والمطامر الصحية، بالإضافة إلى أن وزارتي الصناعة والبيئة مسؤولتان عن الصرف الصناعي، ووزارتي البيئة والزراعة معاً مسؤولتان عن الأسمدة الزراعية والمبيدات. وأضاف علوية بأن القانون حدد مهمة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بالتنسيق مع هذه الجهات. لفت علوية إلى أن “محطات التكرير التي قام بتنفيذها مجلس الإنماء والإعمار جيدة لكنها تُعاني، منها لم تُنفذ كما هو في دفتر الشروط وتصطدم بمشكلة تقنين الكهرباء، وبالنسبة لمحطة تكرير زحلة فإنه لا تزال يتدفق إليها كميات من الصرف الصناعي من المدينة الصناعية، مما يؤدي إلى تعطيل المحطة”. أيضاً يشوب محطة التكرير في زحلة خلل آخر، وهو اشتراك شبكاتها مع شبكات مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي، وهذا يؤدي إلى تعطلها شتاء نسبة لكمية الأمطار”. ويُضاف إلى ذلك، أن محطات التكرير تحتاج لتأمين استدامتها، من خلال حمايتها من الصرف الصناعي.
أيضاً، لفت علوية إلى أن محطة المرج المزمع إنشاؤها واجهت مشكلة بالتلزيم، إذ رست المناقصة أولاً على إحدى الشركات الصينية التي اعترض عليها مكتب مقاطعة إسرائيل في وزارة الاقتصاد، وبالمقابل رفضت الجهة الممولة أن ترسي على العارض الثاني إلا بتدخل من رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري.
أمام هذا الواقع، شرح علوية عن محطة التكرير في المرج، أنه بحسب مجلس الإنماء والإعمار تحتاج لعامين ونصف حتى تكتمل مرجحاً أن تطول المدة لأكثر من ذلك، لذا رأى من الضروري أن يبحث مجلس الانماء والإعمار مع وزارة الطاقة في التدابير الآنية والسريعة إلى حين الانتهاء من محطة التكرير، وذلك لأنه من غير المنطقي أن يغرق مليون نسمة بالنفايات لعامين ونصف.
“