أدّت الثّورة إلى تحرير الفضاء العامّ من الهَيمنة الأحاديّة للحزب الحاكم، ولعلّ قطاع الإعلام يُعدّ أكبر المستفيدين من الهامش الوَاسِع وغير المسبوق لحريّة التّعبير. أنتجَ هذا السّياق الجديد بُروز فاعلين جُدُد في مجال الإعلام الجماهيري التّقليدي. وإلى جانب السّياسيّين من السّلطة والمعارضة ستَظهر فئة “غير معتادة” في الإعلام المحلّي ترتقي إلى مستوى “الظاّهرة الإعلاميّة”؛ فئة من المتكلّمين الجدد في البرامج السّياسيّة الإذاعيّة والتّلفزيونيّة يمثلها المعلّقون على الأحداث الذين يطلق عليهم “كرونيكور “، والمختصّين في مجالات محدّدة وتُطلق عليهم صِفة “الخبير”.
في إطار خصوصيّة التّجربة الإعلاميّة التّونسيّة، أصبَحَ المُعلّقون السّياسيّون عنصرًا قارًّا في جلّ البرامج السّياسية الإذاعيّة والتّلفزيونيّة، بشكل يوميّ، لاستقرَاء مُختلف الأحداث المحليّة والعالميّة. هذا الدّور المحمول على “الكرونيكور” جَعلَه يَتمتّع بمكانة متميّزة وحُظوَة في المجالين السّياسي والإعلامي. في المقابل تَبدو علاقته بالجمهور متوتّرة مثله مثل السّياسي. ويُرجّح أنّ ذلك يعود إلى دور هذا الفاعل الجديد في التأثير والاستقطاب السّياسي ودوره الوظيفي الذي يَدفعه لإبداء الرأي في جميع المجالات والظّهور بمظهر “العليم” بكلّ شيء، مما جَعله محلّ تندّر لدى الجمهور الواسع أحيانًا.
في المقابل، لا يَعمل “الخبراء” بشكل دائم ومستقر مع البرامج الإعلاميّة، وإنّما تتمّ دعوتهم كضيوف لإبداء الرأي من قضيّة محدّدة. ويلجأ الإعلام إلى “الخبراء” في مجالات الاقتصاد والقانون و”الإرهاب”، التي طَرحَها السّياق السّياسي الجديد كفضاء للصّراع. من الملاحظ أنّ المتّحدّثين في شؤون القانون و”الإرهاب” لا يتمتّعون بمقبوليّة جيّدة لدى الجمهور لارتباطهم بالفعل السّياسي الذي أصبح محلّ إدانة، على عكس “خبراء الاقتصاد” الذين أظهرهم الإعلام في هيئة الكفاءات العلميّة المتعالية على السّياسة، حتّى وإن تَقلّد بعضهم مناصب سياسيّة، ويتمّ تبرير ذلك بكونهم تقنيّين لا سياسيّين في إطار عمليّة الفصل الممنهج بين السّياسة والإقتصاد. لقد غذّى هذا الخطاب الفكرة الرّائجة بخصوص احتيَاج إدارة البلاد إلى تقنيّين تكنوقراط بدل السّياسيّين.
لا يُمكننا إنكار دور تحرير الفضاء العمومي في نقل النقاش حول الشّأن الاقتصادي من الخاصّ إلى العامّ، فقد أضحَت القضايا الكبرى مَحلّ تداول واسع مثل قانون الماليّة وميزانيّة الدّولة ومسألة المديونيّة. غير أنّ هذا التّداول لا يتّسم بالدّيمقراطيّة، فقلّة من الاقتصاديين التي تنتمي لنفس الإيديولوجيا تَحتَكر المجال الإعلامي، وتمُدّها صفة “الخبير” بالرّجاحة العلميّة وقدرة التأثير، لا سيما و”أننا ننظر إلى الواقع عبر الميديا التي تُمثّل نافذة نرى منها ما تريد الميديا أن نراه”[1]، لأنّ الإعلام يَعمَل وفق “نظرية الأجندة” القائمة على التكرار وترتيب الأولويات ما يُيَسّر عمليّة التوظيف والتّوجيه.
“الخبير الاقتصادي” كصناعة إعلاميّة
إتّسمَت سنوات الثّورة الأولى بديناميّة سياسيّة هائلة وتَعدّد وسائل الإعلام وهيمنة البرامج السّياسيّة واتّساع جمهورها في المجال السّمعي والبصري. تَطلّب تحرير التّداول في الشّأن العام وتشعّب الأوضاع الإقتصاديّة إلى الاستعانة الدّائمة بالمختصّين في الشأن الاقتصادي، هؤلاء المختصّون سيتحوّلون مع الوقت إلى جزء من المشهد الإعلامي المحلّي، ويتمتّعون بحظوة إعلاميّة وسياسيّة، بخاصّة بعد أن اكتسبوا صفة “الخبير الإقتصادي”. تعمَل الأسماء البارزة التي اكتسبت هذه الصّفة الإعلاميّة، بالأساس في قطاعات البنوك والماليّة والجباية (أصحاب مؤسّسات وإطارات في القطاع الخاصّ أو إطارات سابقة في القطاع العام) أو أساتذة جامعيّين.
يعي الجامعيّون أنّ صفة “الخبرة” في الاقتصاد صفة وهميّة ليس لها كنه معرفي، وهو ما يدفع العديد منهم إلى رفض تقديمهم كـ”خبراء”. ارتبطت الخبرة “بالمعارف المتخصّصة والموجّهة نحو الفعل في إطار تقني أو مهني”[2] وهي وضعيّة إشكاليّة من أصلها لأنّها تُحيل إلى معرفة فائقة بأدقّ التّفاصيل. في علوم التصرّف والاقتصاد تقترن الخبرة بمجالات مثل المحاسبة والجباية والماليّة. وتتضمّن هذه العلوم عشرات الإختصاصات التي يتمّ التوجّه لها إثر دراسة جذع مشترك في الاقتصاد والتصرّف يعدّ مدخلا أوليا للاختصاص. نظريّا يجب أن تمدّ المعارف المكتسبة الإقتصاديّين بالقدرة على فهم الظواهر الإقتصاديّة والتّشخيص والتّحليل من منظور إقتصادي-سياسي، وهو منظور إيديولوجي بالضّرورة. غير أنّ كلّ ذلك لا يؤهّلهم لأن يكونوا خبراء بكلّ ما تحمله الصّفة من دلالة على المعرفة الشاملة بتقنيات وجزئيّات مختلف فروع الاقتصاد والتصرّف. وتجدر الإشارة إلى أن بعض المنظمات الدّوليّة تعتمد صفة الخبير الاقتصادي ولكن في مجال محدّد وليس بشكل شمولي مثل التنمية أو التجارة الدوليّة.
في المقابل، يُعطي الإعلام التّونسي صِفَة الخبير لجلّ الضّيوف المختصّين في التصرّف والإقتصاد، دون ذكر اختصاصاتهم المهنيّة أو البحثيّة أو مؤسّسات عَملهم، كضرورة ديونتولوجيّة تمكّن المتلقّي من معرفة مُخاطبه وتقييم آراءه. يرى الصادق الحمّامي أستاذ الإعلام والاتصال بالجامعة التونسية في كتابه؛ “ديمقراطيّة مشهديّة: الميديا والاتصال والسياسة في تونس” إنّ الميديا إلتجأت إلى الخبير “لإضفاء الموضوعيّة على نفسها لتصبح ميديا يُستثَاق بها وحتّى تُقدّم نفسها مصدرا لمعرفة علميّة أو موضوعيّة وغير منحازة”. ويَستنتج الحمّامي أنّ صفة “الخبير” صناعة تلفزيونيّة جاءت لتُعوّض أو تغطّي قصور العمل الصّحفي، فمحدوديّة معارف الصحفيّين ومقدّمي البرامج بسبب غياب التخصّص وظروف العمل وضعف تكلفة الإنتاج وفّرَت إطارا للمِيديا لخلق فاعلين طارئين على المشهد لملء ساعات البثّ الطّويلة، ولكن أيضا كآليّة لبناء نفوذها. وقد أدّى ذلك إلى ضُعف قدرة الميديا التونسيّة على القيام بوظائفها الأساسيّة مثل التّفسير والتحرّي وضعف التّفاعل بالأخصّ في المجالات التي تتطلّب الدقّة مثل الاقتصاد، لذلك هيمَنَت “صحافة النّقل” على المشهد حسب الأستاذ الحمّامي.
في هذا السياق المَعطوب يُستَدعَى “الخبير” بوصفه صاحب مشروعيّة علميّة تمدّه بتفوّق معنويّ مضاعف على محاوريه، أوّلا بفعل الاختصاص وثانيا بفعل “الخبرة” التي تُحيل إلى حسم النّقاش قبل بدايته. لسنا هنا بصدد التّشكيك في المسارات الأكاديميّة للمختصّين في الاقتصاد وفي التصرّف أو في تبخيس معارفهم لكنّنا نحترز على صفة “الخبير الاقتصادي” التّي بدت وكأنّها مهنة أو درجة علميّة، في الوقت الذي يَفتقد فيه أغلبهم إلى صفة الباحث وإلى منشورات علميّة. ورغم ذلك يتمّ التعاطي مع آراءهم على أنّها حقائق علميّة؛ “فلا قول بعد قول الخبير”. هذه المقولة تُذكر مرارًا، وبأشكال مختلفة من مقدّمي البرامج ولكن أيضا من قبل جزء من السّياسيّين الذين يَفتقد جلّهم للمعارف الدّنيا في مجال الاقتصاد، ويفتقدون إلى مرجعيّات يستندون عليها لبناء مواقفهم. لذلك يجترّ جزء منهم ما يقوله “الخبراء الإقتصاديّون” في وسائل الإعلام كمسلّمات على غرار كلّ ما قيل حول إفلاس البلاد وعدم القدرة على خلاص الأجور -حتّى وإن تعلّق الأمر بنشر أخبار زّائفة- ومن الأمثلة على ذلك نُحيل على تصريح أحد الوجوه الإعلاميّة البارزة من المتكلّمين في الاقتصاد، قالَ فيه يوجد 120 ألف موظّف عمومي يباشرون عملهم بشهائِد مزوّرة، رغم أن لجان التّدقيق في الإنتداب بالوظيفة العمومية لم تنهي عملها بعد، ورغم غياب أيّ سند مادّي للعدد المُقدّم الذي يَظهر أنّه مُضخّم بطريقة غير بريئة.
يُمثّل الاعتماد على المختصّين من قبل وسائل إعلام ضرورة وظيفيّة في عمليّة إنتاج المعلومة بهدف عقلنة النّقاش وتأطيره. إلاّ أنّ الوجاهة الإعلاميّة التي اكتسبَها الاقتصاديّون بوصفهم “خبراء “، رغم أنّ جزء مهمّا من فرق الإعداد التّلفزيّة والإذاعيّة ليست لها دراية كافية بالمسارات المهنيّة والأكاديميّة لمعظمهم باستثناء قلّة من الجامعيّين المعروفين، أدّت إلى نوع من احتكار المعرفة الإقتصاديّة وإلى وضع الاقتصاد في خانة العلوم الصّحيحة العصيّة على الفهم لغير دارسيها بسبب جانبها الكمّي القائم على النّمذجة الرّياضيّة والخوارزميّات. لا يوجد ظاهرة طبيعيّة أو بشريّة خارجة عن دائرة الفهم، أمّا ما يُترك للمختصّين هو هو فقط الجانب التّقني. إضافة إلى أن الاقتصاد نشأ كعلم اجتماع بالأساس لدراسة شروط الإنتاج وعلاقاته وخلق الثروة وتوزيعها وهذا يمدّه بطابعه السّياسي. الاقتصاد ليس فيزياء، بل هو عدّة مدارس ونظريّات تتقارب وتتناقض في نفس الظّاهرة الإقتصاديّة، ولا يتمّ التعامل معه بمنطق “الصّحيح” و”الخطأ” وإنّما بمنطق المصلحة.
منذ إندلاع الثّورَة، حَظيت مجموعة ضيّقة من “الخبراء” بفرصة الظّهور الإعلامي المتواتر للتّعليق على المتستجدّات الاقتصاديّة. يَتّسم التّعامل الإعلامي مع هذه المجموعة بمنطق التكنوقراط، أي أنّهم كفاءات وطنيّة وأصحاب تكوين عالي ومتخصّص ومن ذوي الخبرات المتعمّقة، وبخاصّة محايدون في السّياسة. ويُعتبر إنكار ميولاتهم أو انتماءاتهم السّياسيّة ركيزة أساسيّة لتعزيز مصداقيّتهم بغرض توظيفهم في “تأويل الأحداث بطريقة مخصوصة ومعيّنة”[3]، إذ لا يمكن تصوّر أنّ هناك من يتمتّع بساعات من “التّعبير الحرّ” للجمهور العريض وليس له توجّه سياسي. غير أنّ “أسطورة الحياد” ضروريّة لتتمكّن هذه الفئة من لعب دور أداتي في السّياسة وفي الميديا التي تقوم بـ “انتقاء خبراء بعينهم يقدّمون على أنّهم أصحاب قراءة موضوعيّة وعلميّة للأحداث أو للظواهر قادرين على التفسير مع إخفاء إتّجاهات الخبير ومصالحه ومواقفه حتّى يقدّم رأيه في مجالات مخصوصة على أنّها معطيات علميّة، خاصّة في مجال الاقتصاد”[4]. فعادة ما يتمّ إغفال دور هؤلاء “الخبراء” في المعارك السّياسيّة الكبرى، مثل مشاركة البعض منهم سنة 2015 في صياغة مشروع قانون المُصالحة الإقتصاديّة والإداريّة وإستماتتهم في الدّفاع عنه ونشر معلومات مضلّلة بشأنه، أساسًا عائداته الماليّة “الكبرى”، مُتغاضين عن دوره في تبييض منظومة الفساد المالي والإداري، أو المُشاركة في اللجنة الإستشاريّة للشؤون الإقتصاديّة والإجتماعيّة التي تمّ تعيينها في إطار صياغة “دستور 25 جويلية” والتي ساهمت في تشريع منظومة الحكم الفردي الشّعبوي لقيس سعيّد.
هيمنة الأيديولوجيا النيو ليبيرالية وتَهميش البديل
يَحتكر عدد قليل من المُحَلّلين الإقتصاديّين المشهد الإعلامي، جُلّهم انخرطَ في مشاريع سياسيّة بشكل رسمي عن طريق تقلّد مناصب في السّلطة كوزراء أو مستشارين، أو شاركوا في استشارات، أو ساهَموا في صياغة برامج حزبيّة ومشاريع قوانين ذات طابع إقتصادي. المنهج التّحليلي الذي يَعتمده المحلّلون وآرائهم الإعلاميّة تَعكس أنّ معظمهم يَتَبنّى فكريّا النظرّية الاقتصادية النيوكلاسيكية والتي أصبحت تسمّى تاليا النيوليبراليّة، بسبب تحوّلها إلى مشروع مجتمعي شامل ومُعولَم. يتوافق ذلك مع هيمنة هذه النظريّة على المنهج التّدريسي في المجال الاقتصادي في الجامعة التونسيّة، مع انحسار اعتماد المنهج النقدي والمقاربات التاريخيّة.
وإن اعتمدت المَدرسة الكلاسيكيّة اللّيبراليّة المنهج الكلّي في دراسة الاقتصاد، بمعنى إنتاج الثروة ومراكمتها وتوزيعها، فإنّ المدرسة الكلاسيكيّة الحديثة أو النيوليبراليّة ستنحُو في إتّجاه تجزئة الظواهر الإقتصاديّة على قاعدة الفردانيّة. وتتمحور براديغمات هذه النظريّة في كفاءة الأسواق (سوق رأسمال، سوق العمل، سوق السلع والخدمات) المحكومة بالمنافسة الحرّة وتحرير الأسعار (أسعار الفائدة وأسعار الصرف وأسعار السلع) والقائمة على التنظيم الذاتي وبلوغ التّوازن تحت تأثير حركة العرض والطّلب. فيما يقتصر دور الدّولة على تهيئة البِنية التحتيّة لتوفير الشروط الضروريّة لتطوّر الاستثمار الخاصّ. بالإضافة إلى أنها مدرسة نفعيّة سلوكيّة قائمة على نمذجَة سلوك المستهلك كفرد عقلاني تُحرّكه الرغبة القصوى في تحقيق رغباته، وسلوك المنتج المحكوم بالرغبة القصوى في مراكمة الأرباح. تتميّز هذه النظريّة بالنزوع نحو الاستعمال المكثّف للرّياضيات في الإقتصاد مقابل تجريده من طابعه الاجتماعي.
لقد اعتُمِدَت هذه الأيديولوجيا كقاعدة فكريّة لهَيمنة العولمة الأمريكيّة، وكان “إجماع واشنطن” في ثمانينات العقد المنقضي أحد نتائجها. وهو عبارة عن اتفاق ضمني تَمّ تبنّيه من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدّولي ووزارة الخزانة الأمريكيّة، ويتمثّل في حزمة من الإجراءات التي تشتَرطها هذه الهيئات لتقديم مساعدات أو قروض للدّول التي تمرّ بأزمات إقتصاديّة. تقوم الإجراءات على اعتماد سياسة ماليّة صارمة (التقشّف)، وتحرير التّجارة الخارجيّة وفتح الحدود للاستثمار الأجنبي مع إلغاء القيود الجمركيّة والإداريّة، وخوصصة المؤسّسات العموميّة وحماية الملكيّة الفرديّة. هذه الوَصفَة الجاهزة والمعمّمة مازال صندوق النقد يَعتمدها في مفاوضاته مع الدّول الفقيرة ويُدرجها تحت بند “الحوكمة الرشيدة” لدفع النموّ، وهي في حقيقة الأمر سياسة إقتصاديّة توسّعيّة.
في الاقتصاد تطغى هذه الأيديولوجيا على آراء المحلّلين الذين يقدّمهم الإعلام كـ”خبراء”. ونجد امتداداتها في الموقف السّائد من علاقة تونس بصندوق النّقد الدّولي. فهناك شبه إجماع في ما بينهم في اعتبار اتّفاق القرض مع الصّندوق ضرورة مطلقة للخروج من الأزمة، ومنهم من يرى أنّ شروط الصّندوق (نفس المبادئ التي شكّلت إجماع واشنطن) ليست إملاءات وإنّما برنامج إصلاح إقتصادي وطني، وكَفيل بإخراج تونس من أزمتها الهيكليّة. يَتجاوز المشكل مسألة الإقتراض في حدّ ذاتها، فهؤلاء “الخبراء” يتجاهلون الوجه السّياسي لصندوق النقد، كما يتجاهلون تجاربه التّاريخيّة مع الدّول الفقيرة ويهمّشون الآراء النّقديّة بخصوصه، في الوقت الذي تتعرّض فيه مؤسّسات مؤتمر “بريتون وودز”، الذي خطّ مبادئ النّظام الاقتصادي العالمي إثر الحرب العالميّة الثّانية إلى تشكيك ومساءلة حول طبيعة تدخّلاتها ونتائجها في تعميق التّفاوت وانتشار البطالة وانهيار شريحة متوسّطي الدّخل في العالم.
تأتي إدانة مؤسّستي البنك الدّولي وصندوق النقد من داخل المنظومة نفسها، من الأمثلة على ذلك آراء الاقتصادي جوزيف إ.ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل والنّائب الأسبق لرئيس البنك الدّولي ورئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في حقبة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، الذي “حاكَم” في كتابه “خيبات العولمة” مؤسّسات “بريتون وودز” ومنظّمة التجارة العالميّة، بعد أن اتضح له “أن هذه المؤسسات تَخدم بالدرجة الأولى وقبل كل شيء مصالح تجارية وماليّة” وأنّ “كثيرون من وزراء التجارة والمالية، وحتى بعض القادة السياسيين، يعتقدون أن الجميع، في آخر الأمر، سيستفيدون من تحرير التجارة وأسواق الرّساميل. ويذهب كثيرون في اعتقادهم الراسخ هذا إلى حد الموافقة على فرض تلك “الإصلاحات” على البلدان بجميع الوسائل”[5]. كما أبرز دورهم في الإخفاقات الاقتصاديّة للدّول الأقلّ نموّا.
في السّياق المحلّي، نجد أغلب “خبراء الإعلام” في الاقتصاد يلعبون دور “وُعّاض” النّيوليبراليّة الإقتصاديّة، ويَنظُرون إلى إتفاقيّة التّجارة الحرّة مع أوروبا على أنّها محرّك تنموي برغم أنّ التّجربة أثبتت أن تحرير التّجارة بين بلدين متفاوتي النموّ يؤدّي إلى إنهيار الإنتاج المحلّي للدّولة الفقيرة، وقد تجلّى ذلك في دفاع البعض منهم على إتفاق التّبادل الحرّ الشامل والمعمّق “أليكا”. لقد حَافظت هذه القلّة التي حظيت بالبروز الإعلامي والسّياسي على نفس النّسق التّحليلي في آرائها من القضايا الاقتصاديّة الكبرى التي طُرحَت منذ اندلاع الثورة، إذ دَافعَت باستماته على استقلاليّة البنك المركزي، وعلى ضرورة خَلاَص تونس لديونها في آجالها مهما كانت التّكلفة.
الخطير في الأمر ليس الدّفاع عن الرّأي، وإنّما تهميش الآراء المختلفة أو تقزيمها لعدم القدرة على تصوّر أي أفق خارج النسق النيوليبرالي. ونتذكّر جيّدا كيف صوّر “الخبراء” المطالب المتعلّقة بإلغاء أو تجميد الدّيون السّياديّة بمثابة “البِدعَة الاقتصاديّة”، في حين أنّها مسألة سياسيّة بإمتياز وليست سابقة تاريخيّة، فقد تمّ إلغاء معظم ديون ألمانيا الغربيّة سنة 1953. كما ينطبق ذلك أيضا على التحقير الذي جُوبِهَ به مقترح تغيير العملة لمكافحة الاقتصاد غير المنظّم دون خوض نقاش اقتصادي بنّاء، رغم وجود تجارب ناجحَة في الغرض مثل التّجربة التّركيّة.
لقد ساهمت مجموعة “الخبراء” التي صنَعَها الإعلام، في الدّعاية المضادّة ضدّ التصوّرات البديلة وإلى خلق معرفة اقتصادية مشوّهة عبر الحَسم في مختلف الأطروحات الاقتصادية بمنطق “الحقيقة الاقتصادية” التي يقدّمها “الخبير”، بالخُصوص وأن أصحاب التصوّرات المختلفة لا يحظون بنفس فرصة الظهور الإعلامي. هذه المجموعة غير معزولة عن انتصار العلم الاقتصادي الأمريكي الذي “يعمل على استبعاد النظريّات والسياسات البديلة أو البدائليّة، بالمعنى الواسع للكلمة، من الأفق العقليّ، وإقصائها من حيّز ما هو معقول أو ما هو قابل للتعقّل والتفكير به وحوله”[6]، باعتباره منظومة هيمنة متكاملة يشتمل على منظومة تدريس وتكوين ووسائل إتّصال “لذلك لا تبدو التصفية المنهجية للبدائل كمفعول جانبي، وإنما كواحد من الميكانيزمات الأساسيّة الرئيسية للسيطرة الإيديولوجية المعاصرة”[7]. وبينما لعب الإقتصاد دور وظيفي وتطبيقي في دول المركز، واقتصرَت دول الأطراف على النّقل من داخل أيديولوجيا الهيمنة، غير أنّ الاقتصاد لا يكتسب معناه إلاّ عندما يرتبط بسياقة المحلّي. وهو ما يُفسّر عجز الاقتصاديّين المحليّين عن فهم طبيعة الأزمة وتقديم حلول عملية لتجاوزها، فالإجماع الحاصل حول ضرورة بناء نمط تنموي جديد لم يُقابله تقديم أيّ مشروع متكامل ومتماسك.
[1] الصادق الحمامي، “ديمقراطية مشهديّة: الميديا والاتصال والسياسة في تونس”، دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى 2022، ص118.
[2] Jean-Yves Trépos, La sociologie de l’expertise, Puf, collection «Que sais-je?», Paris, 1996.
[3] الصادق الحمامي، “ديمقراطية مشهديّة: الميديا والاتصال والسياسة في تونس”، دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى 2022، ص 126.
[4] الصادق الحمامي، “ديمقراطية مشهديّة: الميديا والاتصال والسياسة في تونس”، دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى 2022، ص 126.
[5] جوزيف إ. ستيغليتز، “خيبات العولمة”، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2003، ص 303 و304.
[6] فردريك لوبارون، “إنتصار الفكر الأوحد: الإيديولوجية المسيطرة في مواجهة البدائل”، برتران بادي ودومينيك فيدال “بحثا عن بدائل: أوضاع العالم 2018″، مؤسسة الفكر العربي، 2018، ص31.
[7] المرجع السّابق، ص 31.