يلقي السيّد إبراهيم بودربالة كلمة إثر إنتخابه رئيسا لمجلس نواب الشعب- من صفحة مجلس نواب الشعب الرسمية على فيسبوك
انعقدت، الاثنين 13 مارس 2023، الجلسة الافتتاحيّة لـ “مجلس نواب الشعب”، الغرفة البرلمانيّة السّفلى في “دستور” الرئيس قيس سعيّد. انتظر البعض هذه اللحظة، كنهاية رسميّة لفترة الاستثناء واحتكار السلطة من طرف الرئيس، واستئناف الحدّ الأدنى من “الحياة الديمقراطيّة”. لكنّ سير الجلسة أعطى لمحة أولى لما كان متوقّعا جدّا لدينا، وهو أنّ هذا المجلس، المنبثق من مسار إنقلابي فردي ومن انتخابات هزلية غابت عنها جلّ الأحزاب، يصعب أن يكون شيئا آخر غير غرفة تسجيل لدى الرئيس، أسوة بمعظم برلمانات الأنظمة الاستبداديّة. جلسة حدّد مسارها سلفا بأمر رئاسي، ومُنعت وسائل الإعلام الخاصّة والأجنبيّة من متابعتها، في سابقة لم تحصل منذ الثورة وأثارت احتجاجا واسعا. كما وقع إخراج أحد “النواب” الحاضرين فيها من قبل الأمن وإيقافه تنفيذا لبطاقة جلب. رسائل الرئيس كانت أيضا مباشرة في كلمة له من مدينة غار الدماء، حين هدّد النواب الجدد باستخدام سلاح “سحب الوكالة”، كي يكونوا على مستوى “المرحلة التاريخية الجديدة” التي أسّسها.
السلطة تحتكر الصورة والمعلومة
لم تكن عودة الجلسات البرلمانيّة كافية لفتح قصر باردو، المغلق بالمدرعات العسكريّة منذ ليلة 25 جويلية 2021 بكلّ ما يشتمل عليه من بنايات، بما فيها المتحف الوطني الأكبر في تونس. ظلّ التطويق الأمني حاضرا، ومُنع الصحفيّون ووسائل الإعلام من دخوله، باستثناء بعض وسائل الإعلام العمومي. اضطرّ الصحفيّون إلى البقاء والاعتصام بكاميراتهم في الساحة المقابلة، وأدانت نقابة الصحفيّين بقوّة هذه السابقة، باعتبارها “جزءًا من سياسة ممنهجة تعتمدها السلطة تستهدف الصحفيات والصحفيين وحرية الصحافة في اتجاه التحكّم في وسائل الإعلام والتضييق عليها وتضرب حقّ المواطن في المعلومة.” هي سابقة منذ الثورة، التي حرّرت الفضاء البرلماني وفرضت تدريجيّا قدرا عاليا من الشفافيّة في العمل البرلماني، بفضل ضغط وإصرار الصحفيّين ومنظمات المجتمع المدني منذ فترة المجلس الوطني التأسيسي. وقد هدف حصر النّفاذ إلى البرلمان في بعض وسائل الإعلام العمومي إلى فرض سيطرة السلطة على الصورة والمعلومة، بحيث تحوّلت التلفزة الوطنيّة منذ 25 جويلية إلى بوق دعاية للسلطة، وتقلّص هامش المقاومة الذي كان موجودا في غرفة الأخبار. الأمر ذاته حصل في وكالة تونس أفريقيا للأنباء، حيث أدانت نقابة الصحفيّين سياسة الصنصرة والضغط ضدّ الصحفيّين العاملين في المؤسّسة. كلّ ذلك بالتوازي مع ترهيب الإعلام الخاصّ عبر سيف الاعتقالات والاتهامات بالتآمر وتبييض الأموال، كما حصل مع نور الدين بوطار مدير إذاعة موزاييك ذات الخطّ التحريري المزعج للسلطة، والملاحقات باستعمال المرسوم 54.
لن يسمحَ الرئيس بإبراز ما يسيئ لصورة عهده السعيد، أو يذكّر بممارسات برلمانات “العشريّة”. ولنا في جلسة افتتاحية البرلمان الجديد نموذجٌ. فكلّما حصلت مجادلة ما، مهما بدت بسيطة، ابتعدت الكاميرات الرسميّة للتركيز على السقف الجميل لقاعة الجلسات. وما دام مشهد الانتخابات وما أفرزته مفاوضات تشكيل الكتل مناقضا لما بشّر به الرئيس من تطهير للسياسة، فالحلّ هو في تحويل المجلس إلى غرفة مغلقة.
الرئيس يتحكّم في برلمانه
لم يترك سعيّد للجلسة الافتتاحيّة تحديد جدول أعمالها، الذي جاء مُفصّلا في أمر رئاسي. التزم “النواب” بذلك ولم يُسمح لهم حتى بأخذ نقاط نظام. كما أنهى الرئيس مهامّ الكاتب العام للبرلمان أيّاما قبل الجلسة الافتتاحيّة، وعيّن مكانه كاتبا عامّا جديدا. لم يكن ذلك مستغربا، ففي دستور سعيّد، ليست السلطة التشريعيّة سوى “وظيفة” يتدخّل فيها الرئيس بسبل عدّة، مجال التشريع لديها مقيّد، وآليات الرقابة على العمل الحكومي ضعيفة، وبالأخصّ لائحة اللوم التي تكاد تكون مستحيلة التطبيق. هذا من دون الحديث عن الاستقلاليّة الإدارية والماليّة التي حُرم منها البرلمانات والحصانة البرلمانيّة التي أدخلت عليها استثناءات قد تؤوّل لإسكات أيّ صوت معارض داخله.
سياسيّا، هذا البرلمان هو نتاج مسار الرئيس، لم يترشّح له إلا “المنخرطون” على اختلاف مشاربهم، معظمهم أفراد من أصحاب الطموح السياسي، الذين لم تكن لديهم المؤهلات للعب أدوار قياديّة داخل الأحزاب زمن الديمقراطية. وقد نشر موقع الكتيبة تحقيقا حول تركيبة “البرلمان”، خلص إلى أنّ أكثر من نصف “النواب” الجدد كانت لهم تجربة حزبيّة سابقة، بالأخصّ في الصفوف الخلفيّة لحزب نداء تونس. إلاّ أنّ الرهان على أن يوفّر البرلمان فرصة سياسيّة للضغط على الرئيس ومعارضته لا يبدو مقنعا، ليس فقط لأسباب مبدئيّة، بما أنّه نتاج مسار انقلابيّ واستبداديّ باطل، وإنّما أيضا لأنّ من ترشّحوا له، بغضّ النظر عن دوافعهم، لا يحملون موقفا سياسيّا معارضا للاستبداد ويصعب جدّا أن يكون لهم استعداد لخوض معركة مفتوحة مع الرئيس.
أمّا من قد يتجرّأ منهم على معارضة الرئيس، فلن يصعب ردعه، سواء عبر الملاحقات الجزائيّة بالنظر للاستثناءات الموجودة على الحصانة وما حصل من تركيع وترويع للقضاء، أو عبر سحب الوكالة التي هدّد بها الرئيس علنا النوّاب، في تأكيد لما قلناه وكرّرناه، بأنّ وظيفتها الأساسيّة ليست في ضمان مساءلة شعبيّة للمنتخبين، بقدر ما ستكون سيفًا مصلتا على رقاب المعارضين، لصالح الرئيس.
ولعلّ نتائج انتخابات رئاسة المجلس مؤشّر أوّلي على التوازنات داخله. فقد فاز بها إبراهيم بودربالة العميد السابق للمحامين كمكافأة لولائه لمسار الرئيس، أمام منافس رشّحه ائتلاف “لينتصر الشعب” الداعم للرئيس، والذي كان بودربالة قد ساهم في تأسيسه. فالصراع داخل المجلس، هو بالأساس صراع مواقع بين المجموعات المساندة للرئيس، كلّ منها يبحث عن أن يكون التعبيرة السياسيّة للنظام الحاكم. أمّا ما يروّج من أخبار عن محاولات لشراء كتلة نيابيّة “للانقلاب” على الرئيس، عبر تحوير دستوري يسمح بعزله، فيصعب أخذه على محمل الجدّ، وهو أقرب إلى الروايات التآمريّة التي تروّج لها السلطة لتبرر استهدافها الممنهج للأصوات المعارضة بملاحقات تصل عقوبتها إلى الإعدام. حتّى تخوّف سعيّد من هذه الفرضيّة، فلا يقيم الدليل على صحّتها، بقدر ما يعكس هوسه بالمؤامرات وخوفه من انفلات أيّ هامش سلطة من بين يديه.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.