تجتمع برامج الأحزاب السياسية والمستقلّين المترشّحين للانتخابات التشريعية منذ الثورة حول نقطة مشتركة، هي الإصلاح الجبائي وإرساء نظام جبائي عادل ومنصف. وعلى امتداد ثلاثة مواعيد انتخابية، تلقّى المواطنون وعوداً كثيرة تتعلّق بإصلاح النظام الجبائي وتخفيف العبء على الأشخاص الطبيعيين على اختلاف النظم التي ينتمون إليها، بيد أنّ واقع النقاشات صلب لجنة الماليّة أو الجلسة العامّة إثر الوصول إلى البرلمان يكشف تلاشي هذه الشعارات.
ويكاد لا يمرّ مشروع قانون ماليّة أو مشروع قانون ماليّة تكميلي كلّ سنة، بدون إقرار إجراءات لفائدة قطاعات بعينها، إذ تستفيد من إمهال في سداد الضرائب أو إعفاء أو تأجيل لفرض الأداءات، بالتوازي مع إقرار ضرائب ومساهمات على الأشخاص الطبيعيين عامّة والأجراء خاصّة. وبعيداً عن شعور الضيم واللاعدالة الذي يحسّه التونسيون بمناسبة مناقشة هذه القوانين، إنّ الدراسات والتقارير المختصّة أكّدت بدورها اللاعدالة الفجّة وكثرة “هدايا” الحكومات المتعاقبة لأصحاب الأعمال وبعض القطاعات ذات المؤشّرات العالية للتهرّب الضريبي على حساب بقيّة فئات المجتمع، سيّما التي تخضع للاقتطاع المباشِر للضرائب.
وبما أنّ مشاريع قوانين الماليّة تُصاغ في المكاتب المغلَقة لوزارة الماليّة والحكومة عامّة ولا تخضع لاستشارات أو نقاشات موسَّعة قبل إحالتها إلى البرلمان، فإنّ الاطّلاع عليها في هذه المرحلة يُعدّ أمراً صعباً.
ويُعتبَر دور البرلمان أساسياً في مناقشة هذه المشاريع وتعديلها، بيد أنّ التغييرات في تركيبة البرلمان والقطاعات المؤثِّرة فيه انعكست بدورها على الخيارات التي يتّخذها النوّاب وأحزابهم في ما يتعلّق بالجباية.
التطوّر التاريخي للجباية في تونس ما بعد الاستقلال: نحو تعميق المحسوبيّة
بالعودة إلى تركيبة برلمان ما بعد الاستقلال[1] الذي بُني على النظام الضريبي الموروث عن الحقبة الاستعمارية، طغت عليه الطبقة الوسطى من موظّفين وأساتذة ومحامين وأطبّاء وصيدلانيين، علاوة عن المزارعين وأغلب هؤلاء ممّن زاروا دولاً أوروبية إبّان النضال ضدّ المستعمِر ما مكّنهم من الاطّلاع على النظم الضريبية هناك وتأثّر بعضهم بالفكر الاجتماعي القائم على العدالة الضريبية، مع الأخذ بعين الاعتبار تكفّل الدولة ببعث المشاريع التنموية وبناء الاقتصاد الوطني في ظلّ ضآلة حجم القطاع الخاصّ ومساهمته الاقتصادية، ما يعني ارتكاز العائدات الضريبية على الاقتطاعات الجبائية للموظّفين والأجراء أساساً قبل ظهور المؤسّسات الخاصّة وتنامي دورها[2].
أمّا في حقبة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، انطلق مسار إصلاح النظام الضريبي في أكثر من مناسبة وفق قواعد يضعها نظام بن علي والعائلات المتنفّذة المقرّبة منه، دون نقاش مؤثّر في الغرفتين التشريعيتين (مجلس المستشارين ومجلس النوّاب) من أجل فتح السوق لاستثمارات المقرّبين منه وتمكينهم من امتيازات جبائية أو تسليط العقوبات الجبائية على المغضوب عليهم وفق ما ورد في تقرير لجنة تقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة[3]، مع المحافظة على نسق بطيء في تطوّر الضريبة على الأشخاص الطبيعيين من موظّفين وأجراء حتّى لا يشيع الإحساس بالضيم والظلم، الأمر الذي قد يزعزع استقرار النظام.
لكن، ومع انتخاب مجلس وطني تأسيسي إبّان ثورة 2011 الذي انبثقت عنه الحكومة، طُرِحت مسألة الإصلاح الجبائي بدفع من المانحين الدوليين، لينطلق أوّل برامج الإصلاح في سنة 2012[4]. وانحصرت مخرجاته في رقمنة الإدارة الجبائية بدون الخوض في النصوص القانونية المعقّدة المتعلّقة بالجباية وبدون ضبط رؤية طويلة المدى للتوجّهات العامّة للدولة في المجال.
وممّا يدعو للتساؤل عن الدور التعديلي للسلطة التشريعية في تحقيق الإنصاف الجبائي وفي مسار الإصلاح عامّة، تواتر المناسبات التي ولّدت شعوراً عامّاً بالظلم لدى التونسيين، بعد تقديم “هدايا” جبائية لأصحاب الأعمال أو تمتيعهم بامتيازات أو إلغاء إجراءات اتُّخذت بحقّ بعض القطاعات، فيما تُواصل قوانين الماليّة الصادرة بداية كلّ سنة منذ 2012 إلى غاية قانون المالية لسنة 2021 التنصيص على مساهمات ضريبية مباشرة وغير مباشرة مُوجَّهة للموظّفين والأجراء.
أصحاب الأعمال في البرلمان: من أجل خدمة المصلحة العامّة أم الخاصّة؟
تصاعد اهتمام أصحاب الأعمال بالسياسة والمشاركة في صناعة القرار بوجه مكشوف إبّان ثورة 2011. واستفادت هذه الفئة من مناخ الحرّيّة عقب الثورة لتحمي مصالحها ومصالح القطاعات التي تنتمي إليها. فبينما ضمّ البرلمان المنتهية عهدته (2014-2019) 26 صاحب أعمال في صفوفه، ارتفع العدد في البرلمان الحالي (2019-2024) إلى قرابة الثلاثين نائباً[5] بعد تجديد بعض النوّاب السابقين ترشّحهم وفوزهم بمقاعد نيابية في العهدة البرلمانية الحالية وتقديم آخرين ترشّحات جديدة وصعودهم إلى البرلمان. وينشط أغلب هؤلاء في قطاعات تصنيع الأدوية وتوكيلات السيّارات وقطع الغيار والفنادق والمعدّات الفلاحية والعقارات. كما تحصّلت قطاعات أخرى على تمثيلية واسعة، على غرار المحاماة والطبّ والصيدلة والاستشارات الجبائية والمالية.
يقف هؤلاء حرّاساً لقطاعاتهم المهنية ومجالات نشاطاتهم ضدّ توظيف ضرائب جديدة، أو صوتاً مدافعاً عنها من أجل الحصول على خطوط تمويل أو دعم من الدولة زمن الأزمات. ولا يُعدّ هذا استنتاجاً انطباعياً بل وقائع مثبتة خلال مناقشات مشاريع قوانين الماليّة صلب لجنة الماليّة أو الجلسة العامّة للبرلمان، أو من خلال مداخلاتهم المطالِبة بإجراءات لفائدة قطاعاتهم.
وتتعدّد الأمثلة على ذلك، على امتداد العهدتين البرلمانيتين المذكورتين لهذه الممارسات؛ على غرار مطالبة نائبة صاحبة سلسلة فنادق متضرّرة من عمليّة إرهابية سنة [6]2015 بإقرار إجراءات دعم مالي وتخفيف ضريبي لفائدة القطاع السياحي. وهو ما تمّ فعلاً حيث أقرّت وزارة السياحة إثر ذلك حزمة من الإجراءات في 29 جوان 2015. وقد شملت هذه الحزمة ضمان الدولة في القروض وإقرار التخفيض في نسبة الأداء على القيمة المضافة من 12% إلى 8% وإعادة جدولة الديون الجبائية للمؤسّسات السياحية تجاه الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه. كما كفلتْ الدولة مساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي لفائدة المؤسّسات التي ستحافظ على جميع عملتها وتمكين الأعوان المحالين على البطالة الفنية من منحة بدون اشتراط توقّف نشاط المؤسّسة نهائياً للانتفاع بها. كما شملت جدولة أصل الدين المتعلّق بالمساهمات في نظام الضمان الاجتماعي على سبع سنوات بطلب من المؤجّر والإعفاء من خطايا التأخير عند خلاص أصل الدين واحترام الجدولة[7]. وتمّ الاستماع إلى الوزيرة سلمى اللومي الرقيق تحت قبّة البرلمان للتدقيق حول تفاصيل القرارات المتّخذة[8]. وطرَحت هذه الإجراءات جدلاً واسعاً حول الدعم الانتقائي لهذا القطاع دون غيره، في حين أنّ الضربات الإرهابية المتتالية بين سنتَيْ 2014-2015 أضرّت بقطاعات واسعة ذات إسهام أعلى في اقتصاد البلاد.
وفي مثال مشابه، كان لنائب وصاحب توكيلات سيّارات مداخلات متعدّدة صلب لجنة الصناعة والطاقة ولجنة الماليّة بمناسبة مناقشة مشروع قانون الماليّة سنة 2018 للمطالبة بتحرير سوق توريد السيّارات وتحديداً التخفيف من الأداءات على الاستهلاك الموظَّفة على توريد السيّارات من السوق الآسيوية، على غرار التخفيض الذي ينتفع به المورّدون من السوق الأوروبية[9].
العصبيّة القطاعية في المهن الحرّة درع ضدّ التعديلات الضريبية
لا يقتصر الأمر على النوّاب من فئة أصحاب الأعمال، بل طالتْ الظاهرة أيضاً النوّاب المنتمين إلى المهن الحرّة الذين وقفوا بدورهم سدّاً منيعاً ضدّ أيّ مراجعة للنظام الجبائي التقديري المطبَّق عليهم. ومن بين الأمثلة على ذلك تجنّد النوّاب المنتمين إلى سلك المحاماة لمناصرة قطاعهم تزامناً مع مناقشة مشروع قانون الماليّة لسنة 2018. وكان عدد المحامين في البرلمان آنذاك 37 محامياً وجاءت مواقفهم متناغمة مع تحرّكات هياكلهم المهنية. فنظّمت عمادة المحامين في شهر نوفمبر 2017 سلسلة تحرّكات احتجاجية رافضة لفرض أداءات تتمثّل في طابع جبائي يوظَّف على كلّ قضية يتولّاها المحامي واعتبرت أنّ هذا الإجراء سيؤدّي إلى تفقير المحامين ولا سيّما المبتدئين منهم. وعلّلت الحكومة آنذاك مقترحها المتعلّق بفرض الطابع الجبائي بقصور النظام التقديري القائم على التصريح الذي لا يسمح بضبط الدخل الحقيقي للمحامين. ورغم أنّ المقترح لا يندرج في خانة الإصلاح العميق للنظام التقديري ولا يمنع التهرّب الضريبي وأنّه جاء في سياق تعهّدات الحكومة أمام المانحين الدوليين بحزمة من الإجراءات من ضمنها التقشّف وتجميد الأجور وترفيع التحصيل الضريبي من المهن الحرّة والشركات، فقد لاقى رفضاً واسعاً من قِبل أصحاب هذه المهن. لم يخالفْ أغلب النوّاب المحامين موقف هياكلهم المهنية وشكّلوا قوّة ضغط داخل البرلمان من أجل إسقاط المقترَح. أمّا البرلمان الحالي فيناهز عدد المحامين النوّاب فيه الخمسين وفق تصريح عميدهم إبراهيم بودربالة إثر الانتخابات التشريعية[10]، أي قرابة ربع الأصوات في البرلمان وهو ما يشكّل كتلة تصويت ثقيلة نسبياً وقادرة على التصدّي لأيّ مقترحات مماثلة تمسّن النظام التقديري.
ونجح بذلك المحامون في وقف أيّ تغيير على النظام الضريبي الذي يشملهم، على غرار الأطبّاء في السنة السابقة (قانون الماليّة لسنة 2017) الذين تمكّنوا من الحيلولة دون تمرير ضريبة جديدة على كلّ خدمة طبّية تسديها العيادات الخاصّة باعتماد الفوترة، تماماً كما الصيادلة الذين نجحوا عبر احتجاجاتهم في تعطيل إقرار سحب الأداء على القيمة المضافة على الأدوية.
لوبيات ضاغطة بكلّ الوسائل من أجل التهرّب من الضرائب
بعيداً عن المواجهات بوجه مكشوف انتصاراً للقطاعات الأصلية للنوّاب، التي سمحت على الأقلّ للتونسيين بالتحقّق من غايات النوّاب ومواقفهم الرافضة للضرائب المسلَّطة على قطاعاتهم، الذين يلوذون في المقابل بالصمت أثناء مناقشة الضرائب المفروضة على الموظَّفين والأجراء، فقد شهدت كواليس البرلمان جولات ماراثونية للإقناع والحشد والمناصرة من أجل نفس الغايات ولكن بوسائل مختلفة.
شهد البرلمان التونسي حضوراً مكثّفاً لممثّلي اتّحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية كلّما اقتضى الأمر ذلك، من أجل الحيلولة دون فرض ضرائب جديدة أو تقديم مقترحات تتعلّق بالإمهال الضريبي أو تخفيف العبء المسلّط على الشركات، وتحرير التبادل التجاري وإنهاء ما تبقّى من السياسة الحمائية للدولة في المجال الاقتصادي. وفي جميع المناسبات، كانت الحجّة واحدة وهي دعم رأس المال الوطني وتمتيعه بمناخ ملائم للاستثمار يقوم أساساً على امتيازات وحوافز جبائية.
وتعمل مجموعات الضغط، بمختلف مكوّناتها الذين تجمعهم المصلحة الواحدة، بتركيز الحضور أثناء النقاشات صلب لجنة المالية وإقناع النوّاب فرادى وجماعات، وطلب الاستماع في اللجنة من أجل عرض وجهة النظر على غرار الحشد الذي قامت به غرفة الباعثين العقاريين إبّان التصويت على مشروع قانون الماليّة لسنة 2018 من أجل إسقاط فصل يقتضي الترفيع في الأداء على القيمة المضافة عند اقتناء العقارات بـ19%، بيد أنّ المساعي لم تكلَّل بالنجاح إذ تمّ الاتّفاق على تخفيضها إلى 13%. وهو النهج ذاته الذي اتّخذه الصيادلة لدى مطالبتهم بإلغاء فصل يتعلّق بتوظيف ضريبة على الأدوية بـ7.5% في قانون الماليّة لسنة 2016، و تجّار المصوغ أيضاً خلال النظر في مشروع القانون عدد 2020/104 المتعلّق بتنشيط الاقتصاد وإدماج القطاع الموازي ومقاومة التهرّب الجبائي.
سوق المقايضات الخفية
بالتوازي مع الضغط المباشر، لم يخلُ الأمر من عقد الصفقات والمشاورات مع النوّاب خارج البرلمان من أجل الغايات ذاتها، بل بلغ الأمر حدّ التغرير بالنوّاب ومخادعتهم من أجل تمرير بعض الفصول في سبيل التهرّب من الواجبات الضريبية. ولعلّ حادثة التصويت على الفصل 14 من قانون الماليّة لسنة 2019 الذي أقرّ تأجيل تطبيق أداء جبائي بـ35% على المساحات التجارية الكبرى إلى سنة 2020، كانت البصمة الأبرز لعمل مجموعات الضغط في الخفاء.
وكانت الحكومة قد قدّمت مقترحاً إضافياً بعد انتهاء النقاشات في اللجان وتمرير المشروع إلى الجلسة العامّة، يقضي بتأجيل فرض ضريبة تُقدَّر بـ35% على عائدات الفضاءات التجارية إلى السنة الموالية، ورغم تعبير نوّاب المعارضة عن تفاجئهم بالمقترح وعدم وجاهته متّهمين الحكومة بخدمة عائلات متنفّذة تسيطر على سوق الفضاءات الكبرى، فقد تم تمريره بـ 88 صوتاً من المنتمين إلى الحزام البرلماني للحكومة. وشهدت البلاد موجة رفض لهذا الإجراء، سيّما بعد اتّضاح “التغرير” بالنوّاب وإيهامهم بأنّ المقترح يقتصر على المساحات التجارية الكبرى ليفاجأوا إثر التصويت بضمّ وكلاء السيارات وأصحاب العلامات التجارية “الفرانشيز”، وفق ما أكّدته آنذاك النائبة عن حزب النهضة منية إبراهيم.
ووصف مراقبون للشأن البرلماني، إثر تمرير هذا الفصل، البرلمان بالسوق المفتوحة بناءً على اتّهامات وجهّتها المعارضة البرلمانية للنوّاب المصوّتين على الفصل بتلقّي رشاوي ووعود بتمويل الحملات الانتخابية للأحزاب في الانتخابات التي أُجريت سنة 2019[11].
وفي اتّجاه معاكس، عمدت “اللوبيات الخفيّة” إلى إسقاط الفصول التي تقلّص من هامشها الربحي، أو توظّف عليها أداءات جديدة، من ذلك إسقاط مقترَح قُدّم بمناسبة مناقشة مشروع قانون الماليّة لسنة 2021 يتعلّق بتمتيع كلّ تونسي يبلغ من العمر 18 سنة فما فوق بامتياز جبائي لمرة واحدة في العمر يتمثّل في التخفيض بنسبة 25% من المعاليم الديوانية المستوجَبة لاقتناء سيارة لا يتجاوز عمرها الـ5 سنوات، وسقط هذا الفصل ليثير جدلاً واسعاً في صفوف التونسيين، وكان مآل مبادرة تشريعية مستقلّة بذاتها حول الامتيازات الجبائية للأشخاص الطبيعيين عند اقتناء السيّارات لأوّل مرّة الإهمال في أدراج لجنة المالية، ويكون بذلك سوق توكيلات السيّارات ومؤسّسات الإيجار المالي المستفيد الأوّل.
تنظيم “اللوبيينغ” من أجل شفافيّة العلاقة مع دوائر صنع القرار
خلافاً لما يبدو عليه حراك مجموعات الضغط في دول أخرى كأمر عادي ومقنَّن لا يثير أيّ ريبة، يفتح الوضع في تونس الباب على مصراعيه للسمسرة والصفقات المشبوهة. ويؤكّد الخبير في رسم السياسات العمومية كريم بلحاج عيسى في حديث لـ “المفكّرة القانونية” أنّ حملات المناصرة من أجل تبنّي قوانين أو إسقاط فصول متعلّقة بالأداءات الضريبية وغيرها، لا تثير شكوكاً في ديمقراطيات عريقة حيث يكون الإطار التشريعي سابق الوضع وينظّم طرق عمل مجموعات “اللوبيينغ” وأدوارها وحدود عمولاتها ويضمن الوضوح والشفافيّة، ممّا يكشف عن هويّة الأطراف التي تعمل لحسابها وتكلّفها بهذه المهمّة.
وفسّر بلحاج عيسى أنّ في ظلّ هذا الوضع العشوائي يصبح من الصعب تحديد المصالح والجهات الحقيقية التي تقف وراء عمليّة اللوبيينغ ومتى ينطلق عملها سواء في بداية صياغة المشروع في أروقة الحكومة أو أثناء جلسات التصويت في البرلمان. وقد أوضح في هذا الصدد، أنّ تصريحات المسؤولين الحكوميين إبّان عرض مقترح تمتيع التونسيين بالامتياز الجبائي لاقتناء سيّارة وتشديدهم على ضرورة استشارة أصحاب توكيلات السيّارات قبل إقرار أيّ إجراء جديد يكشف بوضوح العجز عن تبنّي أيّ قرارات دون العودة إلى المنتفعين الأساسيين من احتكار السوق. وتتداخل وفق ذات المتحدّث المصالح الشخصية لبعض النوّاب مع مصالح الحزب والكتلة النيابية في علاقة بأصحاب الأعمال ما يخلق مجالاً واسعاً للتلاعب.
وأعدّت “منظّمة المادّة 19” مقترح قانون يؤطّر مجموعات الضغط وحدود علاقتها بالمشرّع وغيره من مراكز القرار ويضمن الشفافيّة التامّة. ولا يزال هذا المشروع قيد الدرس بآمال ضعيفة لتبنّيه من قِبل البرلمان طالما لم تتضّح بعد الإرادة السياسية لوضع حدّ لأخطبوط متشابك مكوَّن من المستفيدين من اقتصاد الريع والعائلات المتنفّذة المحتكِرة لقطاعات حيوية والإعلام والنوّاب. ويعمل هذا الأخطبوط من أجل وقف كلّ محاولات الإصلاح الحقيقية لمنظومة الجباية. وأضاف كريم بلحاج عيسى الخبير في السياسات العمومية لـ”المفكّرة القانونية” أنّ اللقاءات التي جمعت مؤخّراً منظّمات تُعنى بالشفافيّة والحوكمة المفتوحة مع ممثّلي صندوق النقد الدولي الذي وجّه انتقادات حادّة إلى الحكومة التونسية من قَبيل انعدام الشفافيّة في إقرار الإصلاحات الاقتصادية ومنها الجبائية، عكست إصراراً من قِبل المنظومة الحاكمة على تقديم حلول تحافظ على استقرار وضعيّة كبار المستثمرين ورؤوس الأموال وتزيد الضغط الجبائي على بقيّة الفئات في حين أنّ التوجّه العالمي لفظ النظريّات النيوليبيرالية المبنيّة على ضرورة تخفيف الجباية على رأس المال حتّى يتسنّى له خلق الثروة، وتالياً إحداث مَواطن شغل جديدة ممّا يتيح جمع موارد جبائية أكبر من قِبل الموظّفين الجدد.
الإصلاح أو الانفجار الاجتماعي
يتزايد وعي التونسيين باللاعدالة الجبائية التي يعيشونها، ولم يعد خافياً على كثير منهم أنّ ما يُتَّخذ من إجراءات يفقرهم أكثر ويزيد الأثرياء ثراءً. وما انفكّت الاحتجاجات الاجتماعية، سيّما تلك التي شهدتها البلاد مطلع شهر جانفي الماضي، تطالب بتخفيف الضغط الجبائي على المُواطن البسيط وتسليط جباية عادلة على رؤوس الأموال على أساس اقتسام منصف لانعكاسات الأزمة الاقتصادية التي عمّقتها جائحة كورونا. وقد تقلّصت ثقة التونسيين بالمساواة أمام القانون نتيجة ما لاحظوه أثناء مناقشة قوانين الماليّة، بل أصبح المخيال الجمعي ينتج علاقة عمودية بين المواطن المسحوق وصاحب رأس المال تقوم على الاستغلال الفجّ والتمتّع بالثروة على حسابه. وما زالت الذاكرة الجمعية متيقّظة إلى أنّ الدافع الأساسي للهزّات الاجتماعية من انتفاضات وثورات على مرّ تاريخ البلاد كان الجباية غير العادلة (ثورة صاحب الحمار، ثورة علي بن غذاهم 1864، ثورة 17 ديسمبر 2010).
ويعتبر أستاذ الاقتصاد عبد الجليل البدوي في حديث لـ”المفكّرة القانونية” أنّ الإصلاح يقتضي الخروج من الشعارات حول العدالة الجبائية إلى حلول ملموسة. وتتطلّب عمليّة الإصلاح، وفق البدوي، ثورة فكرية على المرجعيّات النيوليبرالية القائلة بأن الضرائب المرتفعة تقتل الحصيلة الضريبية، بمعنى أنّ فرض جباية عالية يدفع المستثمرين إلى الإحجام عن بعث الشركات، وهي مرجعيّة تعتمدها تونس وأبدت أيضاً قصورها باعتبار أنّ تقليص الجباية على رأس المال لم يؤدّ إلى بعث الاستثمارات ولم يُحدث أثراً ملموساً عدا انتفاع هذه الفئة بالامتيازات وقلّة الموارد الجبائية المتأتّية منها.
ومن المفارقات، بالنسبة إلى عبد الجليل البدوي، أنّ العالم يتّجه نحو تسليط ضريبة على الثروة في حين لم تدخل تونس بعد في تمشٍّ يعيد توزيع المداخيل وهي تخلّت تدريجياً عن السياسات القطاعية التي توجّه رأس المال نحو قطاعات تطمح لتطويرها. وهو مسار اتّخذته البلاد منذ سنة 1993 وحان وقت مراجعته بعمق. وإذا لم تتّخذ البلاد خيارات جديدة في اتّجاه توزيع عادل للثروة وجباية منصفة فإنّها لن تنجح في تجاوز الأزمة المالية ولن تقوى على إيجاد مناخ اجتماعي يتساوى فيه دافعو الضرائب.
نشر هذا المقال في العدد 22 من مجلة المفكرة القانونية، تونس. لقراءة العدد انقروا على الرابط:
الجباية غير العادلة
[1] منشورة على موقع ويكيبيديا.
[2] تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لمنطقة آسيا UN-ESCWA لسنة 2004 بعنوان قضايا محورية متّصلة بالسياسات الاجتماعية، دراسة مقارنة ومبادئ توجيهية لصياغة السياسات الاجتماعية (القسم المتعلّق بتونس، الصفحات من 21 إلى 27).
[3] تقرير لموقع مركز مالكوم كارنيجي بعنوان: عدوى الفساد في تونس المرحلة الانتقالية في خطر؛ صادر في 10 نوفمبر 2017.
[4] لمحة عامّة عن خطّة الإصلاح الجبائي منشورة على موقع وزارة الماليّة التونسية.
[5] الملفّات الشخصية للنوّاب على موقع مرصد مجلس. مقالة في جريدة الصباح منشورة في 12 أكتوبر 2019 بعنوان: رجال التعليم يكتسحون البرلمان.
[6] تصريح للنائب السابق زهرة إدريس، منشور في تاريخ 28 جوان 2015 على موقع الإذاعة الوطنية التونسية تحت عنوان صاحبة نزل أمبريال مرحبا تدعو الحكومة إلى إحداث صندوق لإنقاذ السياحة.
[7] بيان لوزارة السياحة، منشور على الموقع الرسمي للوزارة في تاريخ 02 جويلية 2015.
[8] تقرير عن جلسة استماع أمام لجنة الفلاحة والتجارة والخدمات في البرلمان إلى وزيرة السياحة سلمى اللومي الرقيق حول الإجراءات المقرَّرة لدعم السياحة في تاريخ 30 جويلية 2015.
[9] ملخَّص عن مناقشات مشروع قانون الماليّة لسنة 2018 أمام لجنة الماليّة والتخطيط، منشور على موقع مرصد مجلس التابع لمنظّمة بوصلة في تاريخ 29 نوفمبر 2017، وملخَّص الاستماع إلى ممثّلي غرفة وكلاء السيّارات لدى لجنة الماليّة والتخطيط المنشور على موقع مرصد مجلس التابع لمنظّمة بوصلة في تاريخ 19 جوان 2017.
[10] تصريح لجريدة المغرب ورد في مقال بعنوان “إبراهيم بو دربالة عميد المحامين لـ”المغرب”: المحامون النوّاب لا بدّ أن يلعبوا دورهم الرقابي التفاعل مع قضايا الشعب وطرح مشاغل المهنة، العدد الصادر في 11 نوفمبر 2019.
[11] ملخَّص مداولات الجلسة العامّة للمصادقة على مشروع قانون المالية، وارد في مقال منشور على موقع الإذاعة الوطنية التونسية بعنوان: مقترح حكومي حول تأجيل الترفيع في الضريبة على المساحات التجارية ومورّدي السيّارات والفرانشيز يثير موجة رفض نيابي بعد إقراره في تاريخ 10 ديسمبر 2018.