في 14/08/2024، أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت برئاسة العميد خليل جابر قرارًا بمنع المحامي محمد صبلوح من دخول حرم المحكمة العسكرية لمدّة ثلاثة أشهر على خلفية منشور له على فيسبوك اعترض فيه على أحكام صادرة عن المحكمة. وقد تمّ تبليغه القرار على قوس المحكمة خلال مثوله للدفاع عن أحد موكّليه وأُخرج بأسلوب مهين من القاعة. وفيما يستند القرار إلى المادة 59 من قانون القضاء العسكري التي تُجيز منع المحامي من الدخول إلى المحكمة العسكرية في بعض الحالات، تجاوز القرار الشروط المنصوص عنها في القانون. واعتبر صبلوح القرار مخالفًا للقانون، وأبلغ نقابة المحامين في طرابلس به على أن يتوّجه يوم الإثنين للطعن فيه أمام محكمة التمييز العسكرية، كون القانون يسمح له بتقديم الطعن خلال مهلة ثلاثة أيّام من تبلّغ القرار.
“كْحَشوه”: إهانة المحامي أمام قوس المحكمة
يقول المحامي صبلوح إنّه فوجئ بكيفية إبلاغه بقرار منعه من دخول حرم المحكمة العسكرية. ويروي لـ “المفكرة القانونيّة” إنّه توجّه يوم الأربعاء في 14 آب إلى المحكمة العسكرية لحضور جلسة لأحد موّكليه. وحين بدأت الجلسة ومثل أمام قوس المحكمة إلى جانب محامين آخرين في الملف، توّجه إليه العميد جابر باللوم على خلفية ما نشره على فيسبوك قبل يومين حول قضية أخرى، وأخبره أنّه أهانه من خلال منشوره قائلًا: “إنت بهدلتني على فيسبوك”. ويقول صبلوح إنّه حاول الرد لكنّ العميد جابر منعه من ذلك. ثمّ أعلن العميد أنّ “هيئة المحكمة قرّرت منع المحامي صبلوح من دخول حرم المحكمة لثلاثة أشهر”. في هذه الأثناء، سأل أحد الضباط المستشارين العميد جابر إذا ما كان القرار يمنع صبلوح من الدخول فقط إلى قاعة المحكمة أم المبنى بأكمله، فردّ جابر “منع من دخول المحكمة بأكملها”، ما فسّره صبلوح بأنّه منع من دخول الحرم بأكمله والذي يشمل دوائر قضائية عسكرية أخرى.
ويُشير صبلوح إلى أنّه طلب من جابر تدوين اعتراضه وتحفّظه على القرار لكنّ الأخير وجّه أمرًا للعناصر الأمنية الموجودين في القاعة لإخراجه منها قائلًا: “كْحشوه” (أي أخرجوه). ويستغرب صبلوح أنّه “حين أعلن العميد جابر قرار منعي من الدخول إلى المحكمة، لم يحرّك أحد من المحامين المتواجدين في القاعة ولا وكلاء الخصوم في الملف ساكنًا، ولا حتّى المستشار المدني الموجود على قوس المحكمة، رغم التعسّف الذي لحق بي”. ويعتبر أنّ “طريقة إبلاغي بالقرار لها أهداف، وهي ليست فقط منعي من الدخول إلى العسكرية بل أيضًا إهانتي والضرر بسمعتي أمام المتواجدين في القاعة وأمام موكلي”. وبالنتيجة “قرّر موكلي عزلي مباشرةً بعد القرار”.
معاقبة لانتقاد المحكمة
وحول المنشور الذي كان سببًا في القرار، يشرح صبلوح أنّه نشره على صفحته الخاصة على فيسبوك واعترض فيه على ثلاثة أحكام أصدرتها المحكمة برئاسة العميد جابر في حقّ أحد موكليه، والتي اعتبرها صبلوح أحكامًا ظالمة ولا تستند إلى أدلة واضحة، بينما الملفّ يتضمّن أدلّة عدّة على براءة موكّله.
ويوضح صبلوح لـ “المفكرة” أساليب التعامل مع ملف موكّله الذي يُلاحق بموجب ثلاث دعاوى والتي دفعته لانتقاد الأحكام الصادرة في حقّه، لافتًا إلى أنّ “المحكمة العسكرية أهملت أمورًا عدّة في ملف موكّلي، وهي: داتا الاتصالات التي دلّت على أنّه لم يكن متواجدًا في المكان الذي اتّهم أنّه موجود فيه، وإفادات الشهود التي أكدّت عدم تورّط موكّلي، كما رفضت المحكمة تعيين طبيب شرعي للكشف عليه علمًا أنّه تعرّض لإصابة في يده نتيجة التعذيب لدى الشرطة العسكرية، كما لم يؤخَذ بالدفوع الشكلية التي قدّمتها في الملف الثاني الذي يحتوي على وقائع موجودة في الملف الأوّل، وبدلًا من كفّ التعقّبات في حقه، تمّت إدانته”.
ويتابع صبلوح أنّ “المسؤول الأوّل في هذا الملف حصل على حكم بالسجن لأربع سنوات فقط”، فيما حُكم على موكّله بالسجن لمدة 10 سنوات في الملفّين الأوّل والثاني، ولمدّة 12 سنة في الملف الثالث. ويعتبر صبلوح أنّ هذا الأمر “دليل على تناقض في أداء المحكمة العسكرية في التعاطي مع هذه الملفات بالإضافة إلى التعارض مع الاتفاقيات الدولية التي انضمّ إليها لبنان”.
وعلى إثر ذلك الموقف كتب صبلوح على صفحته على فيسبوك: “هذا ما حصل في المحكمة العسكرية اليوم، متّهم بـترؤّس عصابة يُحكم 4 سنوات” ومتّهم بالانتماء لنفس العصابة وقد ظهرت براءته منها عبر إثبات داتا الاتصالات والأدلة الدامغة وبرأه منها الشهود يُحكم 12 سنة”. وختم صبلوح “إنّه قانون ساكسونيا القضاء العسكري”، وأرفقها بوسم “إلغاء القضاء العسكري”. ويشرح صبلوح أنّه استخدم تعبير “ساكسونيا” في إشارة منه إلى “الشبه بين قانون ساكسونيا في القرون الوسطى، وأداء المحكمة العسكريّة. إذ كان قانون ساكسونيا يُعاقب اللصوص من الطبقة الفقيرة بقطع اليد فيما يُعاقب اللصوص من طبقة النبلاء بقطع ظلّ يده”.
تجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة العسكرية غالبًا ما تُصدر أحكامًا لا تتضمّن أيّ تعليل أو شرح للأسباب والأدلة التي استندت إليها خلافًا لحقّ المحكوم في الحصول على قرار قضائي معلّل، مما يضعف الثقة في صوابية قراراتها ويعزّز القناعة باعتباطيّتها، وفقًا لدراسة “المفكّرة” حول معايير المحاكمة العادلة أمام القضاء العسكري.
التوّسع في تطبيق المادة 59 مجددًا
يستند قرار المحكمة إلى المادة 59 من قانون القضاء العسكري التي تمنح رئيسها صلاحية “أن يمنع المحامي من دخول المحكمة العسكرية لمدة أقصاها ثلاثة أشهر إذا ارتكب خطأ مسلكيًا جسيمًا قبل المحاكمة أو في أثناء الجلسات“. وفيما تعود هذه الصلاحية إلى رئيس المحكمة، كان من اللافت إشارة العميد جابر إلى أنّ القرار صدر عن هيئة المحكمة كاملة، في ما قد يشكّل محاولة لإضفاء الشرعية على القرار.
ووفقًا لدراسة “المفكّرة”، تُعتبر هذه الصلاحية أحد أبرز أسباب فقدان ضمانات المحاكمة العادلة أمام القضاء العسكري كونها تشكّل خطرًا جسيمًا على حقوق الدفاع واستقلالية المحامين والحصانات المنوطة بمهنة المحاماة. فهي تمنح رئيس المحكمة سلطةً تأديبيةً خلافًا لمبدأ حصر صلاحية تأديب المحامين في المجالس التأديبية المُنشأة داخل نقابتهم تحت إشراف محاكم الاستئناف. كما تتناقض هذه الصلاحية مع المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين التي اعتمدتها الأمم المتحدّة في عام 1990 والتي تنصّ على أنّ الإجراءات التأديبية في حقّ المحامين يجب أن تقرَّر وفقًا لمدوّنات السلوك المهنية وآداب المهنة التي تتوافق مع الأعراف المهنية والمعايير والقواعد الدولية، كما تمنع المحاكم والسلطات الإدارية “أن ترفض الاعتراف بحقّ أيّ محامٍ في المثول أمامها نيابة عن موكِّله، ما لم يكن هذا المحامي قد فقد أهليّته طبقًا للقوانين والممارسات الوظيفية” (المبدأ 19). وقد أوصت الدراسة تاليًا بإلغاء هذه الصلاحية.
في الاتجاه نفسه، اقترحت اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل النيابية في نهاية العام 2023 إلغاء المادة 59 منه، وذلك في إطار دراستها اقتراحات القوانين لتعديل قانون القضاء العسكري باتجاه تعزيز مبادئ المحاكمة العادلة أمامه. كما تقدّمت النائبة بولا يعقوبيان في 10/01/2024 باقتراح قانون لتعديل هذه المادة في اتجاه تعزيز ضمانات الدفاع، لا سيّما من خلال حصر صلاحية رئيس المحكمة بإبلاغ نقابتي المحامين في حال ارتكاب المحامي خطأً مسلكيًا.
إلّا أنّ قرار المحكمة في حق صبلوح قد تجاوز نصّ المادة 59 على صعيدين:
الأوّل، أنّه لم يمنع صبلوح من حضور جلسات المحكمة العسكرية فحسب، بل منعه من دخول كامل “حرم” المحكمة الذي يضمّ دوائر مختلفة للقضاء العسكري، مما يؤدّي إلى منعه من ممارسة عمله ومن حضور جلسات موكّليه ومتابعة ملفاتهم أمام محكمة التمييز العسكرية والنيابة العامّة العسكريّة وقضاة التحقيق أيضًا، ما قد يؤدي في حالات عدّة إلى عزل وكالته عنهم كما حصل مع صبلوح. وعليه، يتساءل صبلوح عن أسباب توسيع المنع على هذا الشكل، مشيرًا إلى أنّ “لديه ملفات أمام محكمة التمييز العسكريّة، فهل هذا يعني أنّني غير قادر على حضور الجلسات في التمييز أيضًا؟” وهذه ليست المرّة الأولى التي يصدر فيها قرار كهذا، إذ سبق لرئيس المحكمة العسكرية السابق العميد علي الحاج أن أصدر قرارًا مشابهًا في العام 2022 في حق المحامية هلا حمزة حيث قرّر منعها من الدخول إلى حرم المحكمة العسكرية لمدة ثلاثة أشهر على خلفية جدل قانوني حصل بينها وبين قضاة المحكمة خلال إحدى الجلسات. وفيما استأنفت حمزة القرار أمام محكمة التمييز العسكرية، لم تبت هذه الأخيرة بطلبها، بل تراجع العميد الحاج عن قراره بعد شهر وأسبوع من إصداره من دون أي تعليل.والثاني، أنّه لم يصدر تبعًا لتصرّف بدر عن المحامي “قبل المحاكمة أو في أثناء الجلسات”، بل تبعًا لما نشره المحامي على وسائل التواصل الاجتماعي بعد انتهاء المحاكمة، وهو ما يشكّل توسّعًا غير مبرّر لنصّ قانوني يتعارض مع المبادئ القانونية العامّة. ويؤكّد صبلوح أنّ “استخدام المادة 59 لمنعي من الدخول بسبب منشور على فيسبوك نشرته بعد المحاكمة، غير قانوني”، ويشدد: “لم أرتكب أي خطأ مسلكيّ جسيم قبل المحاكمة أو في أثناء الجلسات، بل عبّرت عن رأي على صفحتي على فيسبوك، بعد انتهاء المحاكمة، ولم يتضمّن منشوري أي إساءة للعميد جابر”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.