يوم 11-10-2023، استمع قاضي التحقيق بالقطب المتخصص في القضايا الإرهابية إلى المحامي والناشط الحقوقي والسّياسي عياشي الهمامي كمتهم في القضية المصطلح على تسميتها في الوسط الحقوقي بملف القهوة. وقد قرّر عقب تلقي أقواله إبقاءه بحالة سراح دون أن يضمّن في محضر السماع الذي أمضاه هو كما المتهم والكاتب والمحامين ممن حضروا الجلسة غير قراره ذلك. في نفس التاريخ وبعد أن غادر الهمامي مقرّ المحكمة بساعة تقريبا، تصله مكالمة منها تعلمه بأنّ المحقّق قرّر تحجير السفر عليه ومنعه من الظهور في الأماكن العامة.
تذكر هذه الواقعة بالقرارين الاحترازيين المتطابقين في منطوقهما مع هذا القرار والذين صدرا عن دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس قبله في ذات القضية وتحديدا فيما تعلق بالناشطين السياسيين شيماء عيسى ولزهر العكرمي اللذيْن تمّ في مرحلة أولى إيقافهما تحفّظيا لتفرج الدائرة عنهما متى نظرت في الملف كقضاء استئناف بتاريخ 13-07-2023 ولتقرّر في اليوم التالي تحجير السفر عنهما ومنع ظهورهما في الأماكن العامة. وفي الحالتين، أعلن القضاء في غير زمن نظره الملفّ المعلوم من المتّهمين ونوابهم تدابيره الاحترازية والتي كانت في جزئها الأول أي “منع السفر” مما يقرّر في جلّ القضايا التحقيقيّة التي توصف بالسياسيّة أو التي يهتم به السياسي فيما كانت في جزئها الثاني مخصوصة لم يسبق أن نطق بها في أي قضية ولم يرد بها أي نص قانوني.
تحجير السفر: تدبير آلي بهدف سياسي؟
خلال الصائفة، فوجئ عشرات من أعضاء مجلس نواب الشعب الذي حلّه الرئيس قيس سعيد ممن كانوا يعتزمون السفر إلى الخارج بكونهم ممنوعين من ذلك بقرارٍ صدر عن قاضي التحقيق المتعهّد بالملفّ الذي اتّهموا فيه بمحاولة الانقلاب على النظام على خلفية عقدهم جلسة عن بُعد لمجلسهم بتاريخ 30 مارس 2022 في الوقت الذي كان رئيس الجمهورية قد جمّد فيه مؤسستهم .
وخلافا لمقتضيات الفصل 15 مكرر من قانون جوازات السفر الذي نظّم هذا الإجراء، وحسب ذكر عدد منهم، لم يعلمهم المحقق كتابيا بقراره[1]. وفوجئ به من كان منهم يعتزم السفر بالمعبر الحدوديّ. كما لم يفلح أيّ منهم في رفعه رغم ما يلحق بهم وبأسرهم من ضرر جسيم لإقامتهم الأصلية خارج البلاد أو لارتباطهم بمواعيد عمل أو علاج. وقد كانوا بفعل ذلك في ذات وضع العياشي وعيسى والعكرمي. وكذلك كان أغلب من وُجّهت لهم تهم توصف بالسياسيّة خلال السنة الفائتة وتمّ ابقاؤهم في حالة سراح بما يفرض السؤال عن علّة تسليط هذا القيد على حرية التنقل عليهم.
وفي الواقع، يحضر الخارج في تمثّله السياسي بتونس كملاذٍ لمن تهدّدهم الملاحقات. وقد كان كذلك مثلا لبشرى بالحاج حميدة حين اتُّهمت في قضية المؤامرة ولعبد الرزاق الكيلاني بعد أن تعدّدت القضايا التي وجّهت فيها السلطة إليه الاتهام ولغيرهما من سياسيين وناشطين ومسؤولين سياسيين وإداريين آثروا الاستقرار في الخارج بعدما اعتبروا أن تراجع قيم دولة القانون في بلادهم يفقدهم القدرة على البقاء الآمن به. كما يُعدّ الخارج في فضائه الأوروبي خصوصا شريكا هامّا لتونس يرتبط معها باتّفاقيات تلزمها بالنهج الديموقراطيّ ومقرّا لمؤسّسات ومنظّمات دوليّة تتابع احترامها لحقوق الإنسان والحريات العامة وهو لذلك ساحة صراع سياسي بين الحكومة التي تريد التسويق فيه لما تسمّيه جهدا في بناء ديموقراطية حقيقية والمعارضة التي تحرص على الاستفادة من التزامات دولتها لصناعة حملات مناصرة للقضايا التي تدافع عنها.
وللاعتبارين المذكورين، فإنّ الالتجاء المكثّف من القضاة في مواجهة المتّهمين في قضايا سياسيّة لتحجير السفر والمبادرة له حتى من دون احترام الإجراءات التي يفرضها القانون المنظم له، يقرأ سياسيا بحيث يُعتبر إجراء يخدم السلطة في تخويف معارضيها ممّن يمثّل السفر حاجة بالنسبة إليه وإحكام السيطرة عليهم واحتجازهم داخل بالبلاد ومنعهم من إيصال أصواتهم مباشرةً خارجها.
وقد يبدو هذا التقييم مُجرّد محاسبة على النوايا، خصوصا وأنّ القضاء التونسيّ درج منذ 2011 على الإفراط في استعمال هذا الإجراء في حقّ كلّ من يتّهم من الشخصيّات العامة. إلا أنّه يصبح فرضية مرجّحة متى اقترن كما في حالتنا بما سماه المحقق “تحجير ظهور في الأماكن العامة”.
تحجير الظهور في الأماكن العامة: السيطرة على الفضاء السياسي؟
يتبيّن لمن يُتابع الشّأن التّونسي أنّ المُعارضة تعاني من مأزق هيكليّ يتمثّل في عجزها عن تقديم شخصيّات جامعة من بين أعضائها يمكن أن تكون عند أي نزال انتخابي البديل الذي تقترحه للرئيس سعيّد. وهي في انقسامها وتناحر قياداتها من مواطن قوة الرئيس الذي يظهر كما لو أنه الواقع الوحيد الممكن والذي متى غاب كان الفراغ وحلّت الفوضى. وإذ بادر عددٌ من قيادات تلك المعارضة إلى البحث عن تقاربٍ فيما بينهم في محاولة لتغيير هذا الواقع، لم يخفٍ الرئيس سعيّد في عدد من خطاباته انزعاجه حيال ذلك، وهو انزعاج سرعان ما اقترن بتتبّع عدد من هذه القيادات في قضية المؤامرة وإيقافهم. في هذه القضية بالذات، ابتدع المحقّق إجراءً لم يسبقْ أن صرّح به القضاء وهو يتمثّل في تحجيرٍ مُطلق للظهور في الأماكن العامّة، وذلك بخلاف قواعد مجلة الإجراءات الجزائية التونسية وأهمها قواعد الشرعية وعدم جواز تقييد الحقّ إلا بنصّ قانوني. فقد ضبطتْ المجلة حصرا الإجراءات الاحترازية التي يمكن لقاضي التحقيق أن يلتجئ إليها في تعاطيه مع من يمثلون أمامه كمتهمين متى أفرج عنهم[2]. وجميعها تحدّ من حرية التنقّل ولكنها تنضبط لشرط أن تتعلق بأماكن معينة يمنع الظهور فيها أو يجب الإعلام مسبقا قبل التنقل إليها أو الالتزام بعدم مغادرتها إلا بشروط محددة.
وعليه، لا يمكن فهم بدعة حظر الظهور في الأماكن العامة إلا على أنّها إقصاء لمعارضين سياسيين عن الفضاء العامّ تمكينًا للسلطة الحاكمة من فرض هيمنتها عليه.
رفض الإذعان لتحجير غير قانونيّ
متى صدر تحجير الظهور الأول في “قضية القهوة”، انضبط له المعنيان به أملا في الإفراج عن بقية المتهمين في هذه القضية. بعدئذ، ظهرت شيماء عيسى أكثر من مرة في اعتصام عائلات المعتقلين في قضية المؤامرة تعبيرا منها عن دعمها لهم، وبخلاف حرفيّة التحجير المفروض عليها والذي يمنعها من الظهور في الأماكن العامة.
وإذ امتدّ التحجير ليشمل الهمامي، أصدر من شملهم بيانا مشتركا يوم 11-10-2023 اعتبروا فيه أن الهدف الرئيسي من القرارات التي تعلقت بهم هو “تكميم الأصوات الرافضة للحكم الفردي” مؤكدين عزمهم المشاركة في المسيرة التي تنظّم في اليوم الموالي دعما للمقاومة وفلسطين. وفي الموعد المحدّد، منع أمنيّون شيماء عيسى من مغادرة محلّ سكناها فيما تمكّن الهمامي من الوصول إلى مكان التظاهر والمشاركة في التحرّك في خطوة رشحتْ عن تحدّ لم يكن خافيا وطرح حتما السؤال عمّا يمكن أن يحصل بعدها. فهل نجح المحجور عليهم في تجاوز بدعة تحجير الظهور العلنيّ من خلال رفض الالتزام به وإسقاطها؟ من المبكر الإجابة على هذا السؤال. وإذ تحضر في سياق الفرضيّات الممكنة فكرة إثارة تتبع جزائي ضدّ هؤلاء من أجل خرق إجراء فرض عليه، فإن ذلك سيطرح في حال حصوله السؤال حول موقف القضاة من مخالفة تدبير لم يرد بقانون ولم يصدر وفق الإجراءات القانونية وكان له هدف سياسي فاضح. فلنراقِب.
[1] ينص الفصل 15 مكرر من القانون عدد 40 لسنة 1975 المؤرخ في 14 ماي 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر على انه ” لقاضي التحقيق في إطار قضية تحقيقية متعهد بها اتخاذ قرار في تحجير السفر على المظنون فيه. ويكون القرار معللا وينفذ فورا بعد إحالته على وكيل الجمهورية للاطلاع. ويعلم به المظنون فيه أو محاميه بأي وسيلة تترك أثرا كتابيا في غضون ثلاثة أيام من تاريخ صدوره على أقصى تقدير.”
[2] ينص الفصل 86 “…ولا يفرج مؤقتا عن المظنون فيه إلاّ بعد أن يتعهد لقاضي التحقيق باحترام التدابير التي قد يفرضها عليه كليا أو جزئيا وهي التالية :
1) اتخاذ مقر له بدائرة المحكمة.
2) عدم مغادرة حدود ترابية يحددها القاضي إلا بشروط معينة.
3) منعه من الظهور في أمّاكن معينة.
4) إعلامه بقاضي التحقيق بتّنقلاته لأماكن معينة.
5) التزامه بالحضور لديه كلّما دعاه لذلك والاستجابة للاستدعاءات الموجهة له من السّلط فيما له مساس بالتتبّع الجاري ضده.”