“
عمد بعض الوزراء إلى التوقيع على استقالات مسبقة وذلك بناء لتعليمات من الجهات الحزبية التي سمتهم في الحكومة. ولا شك أن هذه الخطوة بغض النظر عن دوافعها ومراميها تطرح مسألتين: الأولى تتعلق بدستورية هذا العمل، أما الثانية فهي تكشف لنا جانبا مهما من جوانب النظام السياسي اللبناني ما بعد اتفاق الطائف.
نصت الفقرة الرابعة من المادة 53 من الدستور على أن رئيس الجمهورية “يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم”. وقد ميزت هذه الفقرة جليا بين االاستقالة والإقالة: فهي تعتبر الأولى طوعية وصادرة عن إرادة الوزير الحرة، بينما الثانية هي قسرية أي أنها تفرض على الوزير فرضا. فإرادة الوزير فاعلة في الاستقالة ومعطلة في الإقالة. لذلك تختلف الإقالة عن الاستقالة من حيث العلة الفاعلة أي المسبب لكنهما تتفقان لجهة العلة الغائية أي النتيجة النهائية لهما والتي تتمثل بانفصال الوزير عن مهامه وانحلال موقعه الوظيفي.
لكن الدستور لحظ أيضا مرتبة تقع بين الاستقالة والإقالة عتدما نص في المادة 69 منه على الحالات التي تعتبر فيها الحكومة مستقيلة بحيث تتقاطع أوجه الاختلاف والتشابه مع الإقالة والاستقالة على مستويات متعددة. فاعتبار الحكومة مستقيلة يشبه الإقالة كون إرادة الحكومة غير فاعلة في انتاج الاستقالة أو منعها لكنها تختلف عن الإقالة لأن هذه الاخيرة هي عبارة عن إرادة جهة أخرى بوضع حد لخدمة موظف ما بينما تغيب إرادة الجهة الأخرى في الحالات التي تعتبر فيه الحكومة مستقيلة.
على سبيل المثال تعتبر الحكومة مستقيلة عند بدء ولاية رئيس الجمهورية أو مجلس النواب. فمجرد حدوث الفعل ينتج نهاية الخدمة وفقا لقاعدة شرطية مفادها: إذا حدث “س” وجب “ب”. وهذا ما يجعل من اعتبار الحكومة مستقيلة في منزلة بين منزلتين كون إرادتها غير حرة في رفض النتيجة لكن هذه الأخيرة لم تفرض عليها من قبل إرادة جهة أخرى بل بفعل حدث جعله الدستور شرطا غير مقيد بأي إرادة بشرية.
جراء ما تقدم، يتبين لنا أن الاستقالة المسبقة لا تدخل في أي خانة من تلك التي نص عليها الدستور لجهة نهاية الخدمة. فهي ليست إقالة كون المسبب المباشر هو إرادة الوزير المعني لكنها ليست استقالة أيضا لأنها تصدر عن إرادة غير فاعلة وفاقدة لحريتها وفي النهاية ليست شبيهة باعتبار الحكومة مستقيلة. فالعلة المنتجة ليست حدثا لا تتدخل فيه إرادة البشر، بل قرار يتخذه الحزب بإنهاء خدمة الوزير بشكل غير طوعي. وبما أن المعلول لا ينفك عن علته أي أن السبب يستلزم حكما النتيجة، فإن الفاصل بين الاستقالة المسبقة ودخولها حيز التنفيذ يصبح بالضرورة مقترنا بتدخل إرادة خارجية تنقل الاستقالة المسبقة النظرية إلى الواقع الفعلي. وهذا ما يخل بماهية الاستقالة ويجعل من هذا الإجراء غير سليم من الناحية الدستورية.
وقد عرفت الجمهورية الثالثة في فرنسا تدبيرا مشابها لكنه يتعلق بالنواب إذ كانت الأحزاب تفرض على المرشحين توقيع استقالتهم على ورقة بيضاء ودون تاريخ بغية تقديمها إلى رئيس المجلس في حال برزت الحاجة إلى ذلك بعد إعلان النتائج. وقد أشار العلامة أوجين بيار إلى هذا الأمر مؤكدا صراحة على عدم قانونيته إذ هو كتب معلقا:
‘Une démission signée en blanc par un candidat pendant la période électorale et envoyée au président par un comité après la proclamation de ce candidat comme député, ne saurait avoir aucun effet; elle ne pourrait être communiquée à la chambre’ (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Paris, cinquième édition, p. 327).
يعكس هذا الاجراء المستحدث طبيعة النظام الدستوري في لبنان القائم على تعطيل عمل المؤسسات وعدم قدرته على إيجاد حلول قانونية للأزمات السياسية. فقد فرض اتفاق الطائف آلية غريبة وفريدة جدا لإقالة الوزراء بحيث باتت تحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء ما يجعل هذا الأمر في ظل حكومات ائتلافية شبه مستحيل. يضاف إلى ذلك تحول مجلس الوزراء إلى برلمان مصغر حيث غياب التضامن الوزاري بات من الأمور المألوفة والعادية ما حتم إيجاد وسيلة لا تنسجم مع روحية الدستور بغية فرض سيطرة الحزب على وزرائه. صحيح أن الوزير يختلف عن النائب كونه يشارك في السلطة التنفيذية وفقا لبرنامج حكم معين وبالتالي لا بد من احترامه لهذا البرنامج كي يستمر في وظيفته داخل الحكومة. لكن المستغرب هو اضطرار الأحزاب على اتباع أسلوب الاستقالة المسبقة التي كما لاحظنا ظهرت في فرنسا. لكن لتأمين سيطرة الأحزاب السياسية على النواب المنتخبين وليس الوزراء، إذ كانت إقالة الوزير أو استقالته من البديهيات التي لا خلاف حولها في حال خالف توجه الحكومة والحزب الحاكم. ولا شك أن هذا التحايل القانوني مرده أولا خلل الأحكام الدستورية التي تجعل من العسير جدا إقالة الوزراء، وثانيا الطبيعة التوافقية التي تحكم العلاقة بين أركان الطبقة الحاكمة في لبنان، حيث لا وجود لحكومة متجانسة تستطيع تأمين الحد الأدنى من التضامن الوزاري الطبيعي من أجل تأمين حسن سير المؤسسات في أي نظام برلماني تقليدي.
أن الاستقالة المسبقة هي عمل سياسي بامتياز وأن المرسوم الذي يصدره رئيس الجمهورية بالموافقة على استقالة الوزراء يعتبر من الأعمال الحكومية التي لا تخضع لرقابة القضاء الاداري. لكن ذلك لا يمنعنا من التأكيد على أن الاستقالات المسبقة شكل من أشكل التحوير في استخدام السلطة بحيث يمارس صاحب الحق اختصاصه لكن من أجل غاية تختلف عن تلك التي أرادها النص الدستوري.
“