في خضمّ الإنتفاضة ضد مشروع سد بسري الكارثي، يتساءل كثيرون عن البدائل المتاحة لتأمين المياه لبيروت الكبرى. فما هي تلك البدائل التي يتجاهلها مجلس الإنماء والإعمار والبنك الدولي؟
ينابيع بيروت الكبرى
في إطار برنامج التعاون التقني الألماني – اللبناني الذي استمرّ من سنة 2009 حتى سنة 2014، أجرى المعهد الفدرالي الألماني لعلوم الأرض والموارد الطبيعيّة (BGR) دراسة لحماية مستجمع جعيتا المائي. هذا المستجمع يغذّي بيروت الكبرى بأكثر من 70% من مياهها عبر نبعي جعيتا والقشقوش وبعض الآبار. ويتمّ جرّ قسم من مياه تلك المصادر مع قسم من مياه نبع أنطلياس إلى محطّة ضبيّة للمعالجة قبل توزيعها على مناطق بيروت الكبرى. وقدّرت تقارير المعهد الألماني معدّل تصريف نبع جعيتا بـ172 مليون م3 / سنة، ونبع القشقوش بـ70 مليون م3 / سنة، ونبع أنطلياس بحوالي 9 مليون م3 / سنة. ويناهز معدّل تصريف هذه الينابيع مجتمعة 251 مليون م3 / سنة، فيما يتراوح معدّل تصريفها اليومي بين 250 ألف ومليون و540 ألف م3 حسب المواسم.
إلآ أنّ الدراسة أظهرت أن الهدر الحاصل في استثمار تلك الينابيع كبير جداً. فمنشآت نبع جعيتا قديمة وغير قادرة على التقاط القسم الأكبر من تصريف النبع، ويصل الفائض المهدور منها في شهري كانون الثاني وشباط إلى 600 ألف م3 / يوم، أي ما يفوق القدرة القصوى لمشروع سد بسري على تأمين المياه والبالغة 500 ألف م3 / يوم. وكما الحال في نبع جعيتا، كذلك في نبع القشقوش حيث يتخطّى الهدر أحياناً 100 ألف م3 / يوم. أمّا المشكلة الأكبر فتكمن في قناة جرّ المياه من نبعي جعيتا والقشقوش، إذ يفوق عمرها 140 سنة وهي مهترئة ونافذة للمياه، ويصل الهدر فيها إلى 30% أي ما يتراوح بين 40 ألف و100 ألف م3 / يوم. وبيّنت الدراسة أن نفق جرّ المياه إلى محطّة ضبيّة صغير جداً وتبلغ قدرته الإستيعابية 3.1 م3 / ث، أي ما يعادل 267 ألف م3 / يوم.
في المحصّلة، يتراوح المنسوب النهائي في محطّة المعالجة في ضبيّة بين 181 ألف م3 / يوم و 255 ألف م3 / يوم، أي ما يقارب 80 مليون م3 / سنة ، فلا نستفيد سوى من حوالي 30% من إجمالي تصريف الينابيع المذكورة أعلاه والبالغ 251 مليون م3 / سنة. وبذلك يتخطّى الهدر من الينابيع الثلاثة حوالي 170 مليون م3 / سنة، علماً أنّ مشروع سد بسري الكارثي يؤمّن فقط 60 إلى 100 مليون م3 / سنة.
وقد اقترح المعهد الألماني تطوير منشآت نبع جعيتا لتفعيل التقاط المياه منه، وإنشاء ناقل جديد لمياه نبعي جعيتا والقشقوش بسعة 7 م3 / ث، وذلك بكلفة إجماليّة تتراوح بين ثلاثين وخمسين مليون دولار أميركي، وهي كلفة بسيطة مقارنةً بتكاليف مشروع جرّ مياه الأوّلي إلى بيروت التي تصل إلى مليار ومئتي مليون دولار أميركي. وذكرت تقارير المعهد أنّ “باستطاعة مستجمع جعيتا تأمين ما يكفي من مياه لبيروت الكبرى، وهي تتميّز بنوعيّة ممتازة من مصدرها”، مضيفةً أنّ “الإستثمار يكون أكثر استدامة لو توجّه إلى حماية مصادر مياه نبع جعيتا بدل جرّ المياه من مصادر أخرى بعيدة عن بيروت وأكثر تلوّثاً”.
المياه الجوفيّة
على عكس المياه السطحية، تتميّز المياه الجوفيّة بأنّها ليست عرضة للتبخّر السريع، كما أنّ استثمارها غالباً ما يكون أوفر تكلفة وأقل ضرراً على البيئة. وأظهرت دراسة تقييم موارد المياه الجوفية الصادرة سنة 2014 عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن معدّل التغذية الطبيعية للمياه الجوفية في لبنان يصل إلى 53% من إجمالي المتساقطات، متراوحاً بين 4.7 و 7.3 مليار م3 / سنة. وقدّر التقرير إجمالي تصريف الجداول والينابيع إضافةً إلى الاستخراج بحوالي 2.6 مليار م3 / سنة. وبالتالي يكون هناك فائض في ميزانية المياه الجوفية بين 2.1 مليار م3 في السنة الجافة و4.7 مليار م3 في السنة الرطبة كتقدير أوّلي. وأظهر التقرير أنّ غالبية الأحواض الجوفية في لبنان غير مستنزفة. فعلى سبيل المثال، يتميّز حوض كسروان الجوراسيكي وحده بفائض سنوي كبير يتراوح بين 288 و501 مليون م3 / سنة. تؤكّد هذه الأرقام ضخامة الثروة الجوفية في محيط بيروت مقارنةً بمشروع سد بسري الذي لا يؤمّن سوى 60 إلى 100 مليون م3 / سنة في أحسن الأحوال. أمّا بالنسبة للأحواض الجوفية الساحلية والداخلية المستنزفة بسبب سوء الإدارة وفوضى الآبار، فقد اقترح التقرير حلولاً لها، بدءاً بالإجراءات الإدارية والقانونية لتنظيم الإستخراج وترشيده وصولاً إلى الحلول التقنيّة كإعادة تغذية الطبقة الجوفية.
إعادة تغذية الطبقة الجوفيّة
يمكن لاعتماد تقنيّة “تخزين المياه الجوفية وإنعاشها” (Aquifer Storage and Recovery) أن يساهم في حل مشاكل المياه في العديد من المناطق اللبنانية. وتعتمد هذه الطريقة على المتساقطات الموسمية عبر توجيه المياه السطحية إلى آبار لحقنها في جوف الأرض وزيادة المخزون الجوفي. وعند الحاجة، يمكن استخدام الآبار لضخ المياه وتوزيعها للمنازل. وبحسب دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2014)، يتراوح حجم التغذية الاصطناعية الممكنة لبيروت وجبل لبنان بين 92.9 و 136.3 مليون م3 / سنة، واقترحت الدراسة مواقع محدّدة لإنشاء تلك الآبار. كما أنّه من الممكن إنشاء سدود صغيرة ومتوسّطة الحجم مخصّصة لإعادة تغذية الطبقة الجوفية. تبطئ هذه السدود جريان الأنهار والجداول فتجعل قسماً من مياهها يتسرّب لجوف الأرض، ما يعزّز تصريف الينابيع في فصل الربيع. فقد اقترح المعهد الألماني إنشاء سدود للتغذية الجوفية في مستجمع جعيتا، تبلغ قدرتها الإستيعابية ما مجموعه 27 مليون م3.
إعادة تأهيل الشبكة المهترئة ووقف التعديات
تعاني أجزاء كبيرة من شبكة المياه في لبنان من الإهتراء والتعديات، إذ وصل معدّل الهدر فيها إلى 48% في لبنان عامّةً و40% في بيروت الكبرى خاصّة (أي حوالي 42 مليون م3/سنة) بحسب أرقام وزارة الطاقة والمياه الصادرة سنة 2010. ويعود عمر بعض التمديدات في بيروت إلى عهد الإنتداب الفرنسي وهي مصنوعة من الرصاص غير المناسب لنقل مياه الشرب. وفي ظلّ غياب الرقابة وطغيان المحسوبيّات، يقوم بعض الأفراد والشركات باستغلال الشبكة العامّة فيسرقون المياه لأهدافٍ تجاريّة. لذلك، يتوجّب إعادة تأهيل الشبكة ووقف التعديات عليها لزيادة فعاليتها وتقليل الحاجة لمشاريع إضافية غير ضروريّة.
المياه الضائعة في المدينة
تستقبل بيروت الكبرى سنوياً حوالي 825.5 ملليمتر من مياه الأمطار التي لا يتمّ استغلالها جيداً. كما تنتج المدينة ومحيطها ما يقدّر بنحو 50 مليون م3 سنوياً من مياه الصرف الصحي التي يمكن معالجتها وإعادة استخدامها في مجالات عدّة. ويمتلئ نهر بيروت لمدّة ثلاثة إلى أربعة أشهر كلّ سنة، فيذهب ما معدّله 81 مليون م3 / سنة من مياهه هدراً. أمّا بالنسبة للمياه الجوفية في بيروت الكبرى، فبالرغم من كونها ضحيّة فوضى الآبار والتملّح وغياب الرقابة، إلّا أنّه يمكن حمايتها وتنظيفها وإعادة شحنها من خلال سلسلة من الإجراءات الموضعيّة على مستوى التصميم المدني والبنى التحيتة. فقد عُرفت بيروت تاريخياً بكونها غنيّة جداً بالمياه الجوفية، حتى أنّ اسم بيروت نفسه مشتق من كلمة “بئر- وت” الإسم الكنعاني الذي يعني “أرض الآبار”.
وفي سبيل فهم مشاكل المياه في بيروت الكبرى واقتراح الحلول المناسبة لها، أجرى المهندس فرنسوا نور بحثاً مدّته تسعة أشهر بعنوان “بئر- وت: مخطّط مائي مكتفي ذاتياً لمنطقة بيروت الكبرى” في إطار رسالة الماجستير التي أعدّها في معهد العمارة المتقدّمة في كاتالونيا في إسبانيا. ومن ضمن الحلول التي اقترحها، جعل المدينة أكثر نفاذية للمياه من خلال استخدام أرضيات نافذة في الطرقات ومواقف السيارات العامة والخاصة وفي الأرصفة والساحات والحدائق، وزيادة المساحات الخضراء، ما يتيح شحن الطبقة الجوفية بشكلٍ طبيعي من جهة، ويساعد في تجنّب الفيضانات في موسم الأمطار من جهة ثانية. فبالرغم من كثافة الأراضي المبنية في المدينة، أظهرت الدراسة وجود مساحات كبيرة غير مبنيّة يمكن الإستفادة منها في إطار مخطّط توجيهي متكامل يأخذ الطبقة الجوفية بعين الإعتبار. واقترح التقرير بناء آبار للتغذية الجوفية وتجليل بعض المواقع في قاع نهر بيروت بهدف إبطاء تدفّق المياه وتسهيل تسرّبها للطبقة الجوفية. ومن ضمن الإقتراحات أيضاً إنشاء خزانات حضريّة لتجميع مياه الأمطار وإدارة الفيضانات. فعلى سبيل المثال، حدّدت الدراسة مواقع محاذية لنهر بيروت حيث يمكن تجميع مياه النهر الفائضة ومياه الأمطار التي تتدفق بشكل طبيعي من تلّة الأشرفيّة في فصل الشتاء. وبيّن التقرير الحاجة إلى بناء شبكتين منفصلتين لمياه الصرف الصحي ومياه الأمطار بهدف معالجتها والإستفادة منها بفعالية أكبر.
في الخلاصة، إنّ البدائل عن مشروع سد بسري كثيرة، وهي أقلّ كلفة وأكثر فعاليّة ولا تشكّل خطراً على البيئة والمجتمع. فباستطاعة ينابيع بيروت الكبرى وبعض المخازن الجوفيّة القريبة من المدينة، إذا تم ترشيد استثمارها، أن تؤمّن اكتفاءاً مائياً لسنوات طويلة. وتبقى مشكلة المياه هي سوء الإدارة وغياب التخطيط الاستراتيجي الشامل والهادف. فالدولة اليوم لا تقوم برصد المتساقطات والثلوج ولا بقياس الينابيع ولا بدراسة المياه الجوفية وإحصاء الآبار ولا بمراقبة العرض والطلب، فتتجاهل واقع الموارد المائية وتتهرّب من تقييم حاجة السكان الفعليّة للمياه. وهذه السياسة رهنت المياه للمشاريع الإنشائية الضخمة والقروض الدولية، وأخضعتها لتحاصص زعماء الطوائف وتحكّم المقاولين الكبار عبر مجلس الإنماء والإعمار. فهل يشكّل اليوم سقوط مشروع سد بسري الخطوة الأولى نحو اعتماد الحلول المستدامة وإصلاح قطاع المياه في لبنان؟
- نشر هذا المقال في العدد | 62 | كانون الثاني 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
مرج بسري في قلب الإنتفاضة